الجمعة 22 نوفمبر 2024

الهلال لايت

عصر التكنولوجيا وعالم الموسيقى والغناء

  • 13-10-2020 | 21:21

طباعة

لم يكن عالم الموسيقى والغناء فى العالم العربي بعيداً عن هذا التطور التكنولوجي الهائل الذي اجتاح كل مجالات الحياة على وجه الأرض، هذا العالم الرقمي الذي نعيشه الآن وما يسمى بعصر الثورة المعلوماتية والرقمية، حيث يتطور بشكل متلاحق وسريع كل يوم عن الآخر، فقد تأثرت الموسيقى مثل باقى مجالات الحياة الأخرى، فدخل الكمبيوتر والبرامج الموسيقية ليس فى التسجيلات الصوتية فقط بل فى صناعة المنتج الموسيقى نفسه، وأصبح الفنان قد لا يتعمد على موهبته الفطرية بقدر ما يعتمد على مثل هذه البرامج التكنولوجية، فكل هذا التطور الذى دخل فى مجال الموسيقى والإبداع له ما له وعليه ما عليه، فلا شك أنه تطور ضروري وهام وفقا لمتقضيات ومتطلبات العصر، ولكن الفن والإبداع هو لغة الإحساس والمشاعر والعواطف، حيث الخلق الجمالي والإبداعي الذى يعتمد على الخيال يختلف عن الجانب العلمي والمعلوماتي الذي يخاطب العقل والمنطق، وبذلك عندما تدخل الآلة فى إنتاج هذه  اللغة الإبداعية فإننا نقف أمام مشكلة حقيقية، لتفقد مثل هذه الأعمال أهم سماتها المؤثرة فى النفس البشرية. 


لقد شهدت الموسيقى العربية مراحل متلاحقه منذ بداية القرن العشرين إلى الآن متأثرة بكل ما حدث وما يحدث من تطور تكنولوجي، فلم يكن فى القرن السابع عشر ما يعرف بالتسجيلات الصوتية أو مكبرات الصوت، لذلك كانت من أهم سمات المطرب قوة الصوت حتى يستطيع أن يُسمِع كل المتواجدين بالمسرح، فالأصوات الناعمة الرقيقة لم يكن لها وجود أو مكان فى مجال الغناء فى تلك الفترة، إلى أن دخلت التسجيلات الصوتية الى مصر فى بدايات القرن العشرين عام 1904 حيث بدأ الكثير من المطربين بتسجيل أغانيهم وأغاني من سبقوهم من موشحات وأدوار، مثلما هو متوفر الآن من تسجيلات للشيخ سيد درويش وعبد الحي حلمي وصالح عبد الحي وعبد اللطيف البنا ومنيرة المهدية ونعيمة المصرية ... وغيرهم، وكان من أهم إيجابيات هذا الاختراع الجديد بأن تم تخليد مثل هذه الأعمال التراثية وحفظها من الاندثار، حيث أن الآلاف من الأعمال الغنائية فى القرن التاسع عشر قد اندثرت تماماً ولم يعد لها أثر، بسبب عدم وجود التسجيلات الصوتية وعدم وجود مدونات موسيقية، وفى أوائل الثلاثينيات بدأ يدخل مصر اختراع جديد وهو عالم السينما لتكون مصر من أوائل الدول التى قامت بتقديم الأفلام الغنائية ليصبح أمامنا المطرب وهو يغني ويمثل بصوته وصورته وكان من الفنانين الشيخ زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم، هذا بالإضافةإلى افتتاح الإذاعة المصرية الرسمية عام 1934 والتى كان لها الفضل بأن يصل صوت المطرب إلى ملايين من البشر، على مستوى الوطن العربي، ثم بدأت تتطور التسجيلات الصوتية حيث حدث تطور لصناعة الأسطوانة من الكبايات إلى القُمع ثم إلى الأسطوانة المستديرة التي كانت تصنع من القار وأسطوانات الشمع، ثم فيما بعد إلى شرائط الرييل الممغنطة، ثم الكاسيت ثم الأسطوانات المدمجة ... الخ،ومع دخول أجهزة مكبرات الصوت أتاح ذلك ظهور مطربين ومطربات جدد يعتمدون على رقة أصواتهم وإظهار الإحساس بعيداً عن قوة الصوت والتطريب الذى كان من سمات القرن التاسع عشر، بل أصبحت هناك معايير ومقاييس أخرى للحكم على المطربين والمطربات فظهر صوت مثل صوت فيروز ومثل صوت عبد الحليم حافظ، وهى أصوات ليست قوية أو جهورية، مقارنتا بأصوات جيلهم ولكنها أصوات حالمة هادئة وناعمة ورقيقة، حيث وجود مكبرات الصوت لم تعد تستدعي مثل هذه الأصوات التى تتسم بالقوة.


ولكن الصيحة الحقيقية قد بدأت من فترة  السبعينيات من القرن العشرين حيث دخول ما يعرف بالتراكات Tracks) )فكل آلة موسيقية تسجل بشكل منفرد عن الفرقة ليتم تجميع كل هذه الآلات فى مسار أو تراك واحد فقط، فكانت التسجيلات الصوتية التى سمعناها فى أعمال أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزي وعبد الحليم حافظ .... وغيرهم، كان التسجيل يتم فى وجود الفرقة كاملة وفى وجود المطرب بعد أن يتم عمل العشرات من البروفات على الأغنية الواحدة، ثم الدخول إلى الاستوديو،فالتسجيل كان عبارة عن حفلة ولكنها داخل الاستوديو ليقوم مهندس الصوت بتوزيع المايكات أمام الآلات الموسيقية وضبطها ليتم سماع جميع الآلات بشكل متناسق، ثم يبدأ المطرب فى تسجيل الأغنية وحوله فرقته من العازفين ، وفى حالة وجود أى خطأ من أى عازف لم يكن أمامهم سوى إعادة التسجيل من أوله مرة أخرى، فهناك الكثير من الأغاني تم إعادة تسجيلها أكثر من 12 مرة لوجود بعض الأخطاء البسيطة، والتى كانت تضطرهم للإعادة للخروج فى النهاية بمثل هذه الروائع الغنائية الخالدة والتى مازالت تعيش فى وجدان الملايين إلى الآن، وعندما ظهر عصر التراكات كان تعليق موسيقار الأجيال الفنان الكبير  محمد عبد الوهاب أن هذا النظام فى التسجيلات الصوتية أفقد الأغنية الإحساس  والحب، حيث كان يرى أن وجود المطرب وسط فرقته الموسيقية التى هى بمثابة أسرته الفنية والتى يشعر بوجودهم معهبالإحساس والدفء، فقد جاءت  التراكات التى تجعل كل عازف يعزف بمفرده لتفتقد الفرقة أو الأسرة الموسيقية إلى هذه الروح الجماعية التى كانت تجعلهم أكثر إبداعاً.


إلى أن جاء فى فترة الثمانينيات من القرن الماضي ما يعرف بالـ (Musical Instruments Digital Interface) أو ما نسميه بشكل مختصر ( MIDI Track  ) وهو يجعل الموزع الموسيقي يخرج أصواتا لكافة الآلات الموسيقية من خلال خط لحنى واحد دون أن يسجل اللحن مرة أخرى، ويعطيه القدرة على تبديل نفس الخط اللحني المسجل فيسمعه بصوت العود ومرة بالقانون ومرة بالكمان ... الخ، كما أصبحت الأصوات التى تخرج من هذه البرامج أقرب إلى الأصوات الحقيقية لهذه الآلات الموسيقية خاصة فى آلات الموسيقى العربية، ولكن نجدها تفتقد إلى الروح والإحساس والشجن فلكل عازف بصمته الخاصة به وإحساسه.


 كما أصبحتتوجد برامج للتدوين الموسيقي فقد يقوم العازف بالعزف والبرنامج على الكمبيوتر يقوم بكتابة النوتة الموسيقي للحن أثناء العزف، وقد يقوم الموزع بتدوين اللحن من خلال نوتته الموسيقية ويقوم البرنامج الموسيقي بقراءة اللحن،  مما أتاح ذلك سهولة التغيير والتعديل داخل النوتة للوصول الى النغمات السليمة، ليستمع الموزع إلى جميع الخطوط اللحنية فى وقت واحد وكأن الفرقة تنفذ التوزيع عملياً أمامه، حيث الأمر كان قبل ذلك ليس يسيرا بل كان يعتمد على دراسة الموزع الموسيقي وموهبته وتخيله الموسيقي، فكان الموزع الموسيقي مثل أندريا رايد أو الفنان على إسماعيل .... وغيرهم من المؤلفين والموزعين الموسيقيين، يكتبون الخطوط اللحنية وتداخل الآلات الموسيقية،فكل آلة موسيقية تعزف خط لحني مختلف عن الأخرى، كل ذلك من وحي خياله دون الاستماع إليها، ليتخيل هذا المزج بين كل هذه الآلات وهذه الخطوط اللحنية المتشابكة، ولكن مع دخول هذه البرامج الموسيقية لم يعد هناك خيال لدى الموزع الموسيقي سوى أن يستمع ويعدل كما يشاء ليصل إلى ما يراه أفضل، بل وصل الأمر الآن لوجود برامج تقوم بإدخال توزيعات موسيقية بمجرد كتابة الخط اللحني الأساسي فقط فأصبح يوجد موزعين موسيقيين لم يدرسوا التوزيع الموسيقي أو الهارموني والكونترابوينط وهما أساسيات علم التوزيع الموسيقي، فلم يكن موجودا قبل ذلك ما يعرفبموزع موسيقي دون أن يكون دارساً، فقد يوجد ملحن غير دارس للموسيقى حيث يعتمد على فطرته وموهبته ومخزونه الموسيقي الذى استمع إليه، ولكن التوزيع الموسيقي هو علم فى المقام الأول ثم الموهبة تأتى فى المرتبة الثانية.


كان للتكنولوجيا الحديثة أثر كبير أيضا فى وسائل العرض للأعمال الفنية مثل اليوتيوب والمواقع الموسيقية والفيس بوك، فكلها وسائل نستطيع من خلالها أن نستمع إلى أعمال موسيقية وغنائية، بل وأصبح لكل من يرى فى نفسه الموهبةيقوم ببث أعماله ليشاهدها ويستمع إليها الملايين من الناس على مستوى العالم فأصبح لكل شخص قناته الخاصة به، يعرض ما يشاء من أعمال دون قيود أو رقابة، وهذا ما أدى إلى ظهور أعمال ليس لها علاقة بالفن بل أعمال ساعدت على إفساد الذوق الفني العام لدى الكثير من الناس مثل أغاني المهرجانات.


ومع أزمة كورونا الأخيرة التى تعايشنا معها أشهر طويلة فقد فرضت علينا نمط جديدا لاستخدام التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي فمع إلغاء الحفلات وضرورة التباعد المجتمعي، خوفا من انتشار هذا الفيروس اللعين، فقد ساقنا ذلك إلى استحداث طرق جديدة لعرض الحفلات والعروض الفنية من خلال اليوتيوب، وقد حققت هذه الوسيلة ملايين من المشاهدات لتلك الحفلات، وانتهج هذا الأسلوب الكثير من الفنانين الكبار، ولكن تفتقد هذه الحفلات إلى متعة الحضور الى قاعة المسرح فله أحساس آخر وجمال ومتعه أخرى.


فمع هذا العالم الرقمي الذى أصبح يجعلنا نتعامل مع الحياة كأننا آلات دون إحساس وبلا مشاعر يتلاشى الإبداع الممتع الخالد، خاصة وأن الفنان أصبح يعتمد فى إنتاجه وإبداعه الموسيقى على الأجهزة حتى فى ضبط الأصوات الغنائية والنغمات النشاز لتقوم الأجهزة بضبطها، وإضافة حليات صوتية مصطنعة تفتقد إلى الشجن والطرب الفطري.


لنقف أمام سؤال محير، ما هو وضع الإنتاج الموسيقي القادم؟ فقد أصبحت الأصوات لكافة الآلات الموسيقية لتنفيذ اللحن بجميع توزيعاته تصدر من خلال أجهزة إلكترونية ولم نعد فى حاجة لوجود فرقة موسيقية ولا لعازف فجميعها تصدر من خلال البرامج الموسيقية؟ وما موقف هذه الأجيال التى تربت على مثل هذه النغمات المصطنعة وأصبحت تمثل جيلهم لأنهم لم يجدوا أمامهم سواها؟ فمع كل هذا التقدم التكنولوجي إلا أننا عندما نتحدث عن الإبداع والابتكار والجمال والذى لا مجال فى وجوده وإنتاجه سوى العقل والوجدان والإحساس البشري وليست هذه الآلات الصلبة الجامدة،نجد أننا لم نجد إلى الآن إجابة واضحه،ولكن قد لمسنا وشاهدنا ما نعانيه من إفساد للذوق العام بل أصبحت المعاملات اليومية فيما بيننا بها الكثير من العنف والتوتر والقلق، لقد تحولنا أيضا إلى ريبوتات دون مشاعر أو أحاسيس، لقد افتقدنا إلى الكثير من القيم والمبادئ والإنسانيات، ولكن ماذا بعد ذلك ؟  

    الاكثر قراءة