السبت 15 يونيو 2024

العالم الرقمي... يُعيد صياغة الإبداع في فنون العرض

فن13-10-2020 | 21:42

بدأت الفنون مع الإنسان البدائي حيث بدأ الفن في تطور بما يتناسب مع حاجة الإنسان الأول واكتشافاته، ومن ثم أصبحت الفنون تتطور يوما بعد يوم وتتخذ أشكالا مغايرة، حيث أُدخل عليها الكثير من التحديثات بما يتناسب مع طبيعة كل عصر وحاجاته وما إلى ذلك، أما الحاضر فقد أصبحت التطورات تحدث بصورة أسرع خاصة بفعل التغيير السريع الذي يواكب تطور الأشياء نفسها، حيث تكون بداية الشيء بسيطة ومحددة المعالم ورؤيتها واضحة ثم لتتطور شيئا فشيئا بمرور الزمن حتى يصبح شكلها الحاضر على درجة عالية من التعقيد، وهذا ما ينطبق على التكنولوجيا أو ما يُسمى بالعالم الرقمي. فهل أثرت التكنولوجيا على فنون العرض؟ 


لقد أتاح الانفتاح على التكنولوجيا مجالاً واسعاً وطفرة هائلة في الحركة الفنية، حيث فرضت التكنولوجيا واقعاً جديداً لحياتنا وأفرزت رؤى جديدة صاحبتها متغيرات اجتماعية انعكست بشكل أو بآخر على الفنون كافة.


فقد اكتسح العالم الرقمي كل مجالات الإبداع منذ بضع سنوات، حيث بدأ الفنان يتساءل باستمرار في ظل ذلك التطور، عن كيفية تطويع الوسائط التكنولوجية إلى إمكانات يمكن من خلالها فرض البصمة الذاتية والرؤية الإبداعية على العمل الفني دون المساس بمضمون الفكرة، كما تساءل عن ماهية الفن وعن أشكاله وأنماطه المستحدثة تبعا لما يعيشه من تطور تكنولوجي يهيمن بالضرورة على المشهد الحياتي البسيط ويرسخ بعقولنا أساليب فكرية وردود أفعال واعية وغير واعية تجاه ما يشهده العالم من تطور. فقد تفاعل الفنان مع أدوات عصره، واستثمر كل معطيات التكنولوجيا عبر مراحل تاريخ الفن المختلفة، وذلك نظرا لطبيعة الفن وارتباطه بالثقافة المعاصرة، وقد اتضح ذلك بصورة جلية وواضحة في فنون ما بعد الحداثة لما واكبته من تطور تكنولوجي.


لفت الفيلسوف الألماني فالتر بنيامين الأنظار إلى العلاقة بين الفن والتكنولوجيا، فقال: الفن ممارسة اجتماعية، وهو سلعة، يشترك في إنتاجها ناشرون لتباع في السوق كي تحقق ربحاً، ولذلك فإن الوسائط التي تخلقها وسائل الاتصال الحديثة تؤثر في رؤية الفنان وفي تشكيل عمله الفني، ومهمة الفنان أن يعيد النظر في أشكاله الفنية، وفي قوى الإنتاج الفني المتاحة له، حتى يستطيع أن يطور فنه، فالشكل الفني هو البنية المهيمنة السائدة في مرحلة اجتماعية معينة، وهذا يجسد قدرة الفن على تحريك الوعي الإنساني لكي يكون مبدعاً. ولأن الفن ممارسة اجتماعية مرتبطة بنزعات الإنسان وذهابه نحو قيم الجمال، ويتأثر بروح الزمن الذي يعيش فيه، فنجد أن القيم الجمالية تعتمد على أدوات الفنان المحيطة به في كل عصر، ولهذا كان من الطبيعي أن يتأثر المبدع في العصر الحالي بمعطيات عصره المتمثلة في التكنولوجيا الحديثة وعليه أصبحنا نرى فنا به مزيج من التكنولوجيا والإبداع يتجسد في تغيير ثقافة التعبير ومن ثم يُعطي عصراً بصرياً جديداً، إن التقدم التكنولوجي والتقني الذي أثر على الفنون بشكل أو بآخر لا يعد هو العامل الأساسي في إنتاج تلك الفنون لكن الفكر والإبداع هو الذي طوع ووجه لتلك التقنيات للخروج بها من الحيز التقني الصرف إلى الحيز الإبداعي. 


ففي ظل وجود التكنولوجيا المتطورة ربما مازالت فنون العرض تحمل نفس أهدافها التقليدية لكنها اليوم تُنفذ بصورة أفضل وأسرع وأجود مما كانت عليه سابقاً، حيث أن استخدام الفن للتقنيات التكنولوجية الحديثة لا يكمن في الاستفادة من التقنية الآلية، وإنما المشكلة فيما الذي يفعله الفنان بالآلة؟ فمهما ساهمت التكنولوجيا في إحداث تغيرات جذرية في مجال الفن فإن فكر الفنان الحقيقي هو من سوف يتحكم فيها، فالمبدع الفنان لا يقف لتقنية وإنما يقف أمام فكرة يبحث لها عن تقنية وطريقة للأداء. ولكن ليس من الطبيعي والمنطقي أن يغفل المبدع كيفية توظيف هذه التكنولوجيا في الفنون.


فهناك أشكال جديدة وتقنيات جديدة لبناء العمل الفني تحمله لنا التكنولوجيا الحداثية والمعاصرة، من خلال استخدام الفكر الفني المتطور تجد كل يوم أنواعا مختلفة وتركيبات متنوعة لتلك الأدوات الحديثة ودمجها مع تلك التقليدية وأيضاً ظهرت الأعمال المختلفة المتدخل فيها الحاسوب بشكل كبير وكذلك استخدام الإنترنت وصفحات الويب كذلك تطور أشكال الفنون المرتبطة بعالم الرسوم المتحركة من خلال جهاز الحاسب الآلي، كل هذا وأكثر لا يهدف لشيء سوى الخروج بمنتج حديث متنوع مليء بالثراء والفكر.


وكانت تقنية الهيلوجرام وهي تقنية تعمل على إعادة إنشاء صورة للأجسام بصورة ثلاثيّة الأبعاد في الفضاء بالاعتماد على الليزر، واحدة من بين التقنيات الحديثة التي ظهرت في عالمنا بفضل التطورات التكنولوجية، وقد نجحت تلك التقنية في أن تضع بصمتها في عالم المسرح، فقد لعب الهيلوجرام دوراً في تشكيل الخلفيات المسرحية بما يتناسب مع الحتمية الدرامية للعرض المسرحي لتسهم بدورها في خلق فضاء مسرحي بالإضافة إلى الكتل – قطع الديكور – ورمزيات الإضاءة الموجودة على خشبة المسرح إلى زمن ومكان بعينه أو حتى سلاسة الانتقال بين الأزمنة والأمكنة المختلفة، فكانت الدول الأوروبية أولى الدول التي استخدمت تلك التقنية في العروض المسرحية، ثم بدأ استخدامها في الدول العربية، ولم يقف استخدام تقنية الهيلوجرام على العروض المسرحية وحسب، بل استخدمت أيضاً في استعادة القديم عن طريق إقامة حفلات لفنانين رحلوا عن عالمنا مثل مايكل جاكسون وأم كلثوم، حيث شهدت خشبات المسارح العالمية والعربية ظهورهم من جديد بصورة مكتملة العرض أشبه بالحقيقة وذلك بفضل الهيلوجرام، فلم يكن تكنيك الهيلوجرام قادرا على إبهار المتلقي بما هو حديث فحسب، بل أصبح قادراً أن يحي الماضي ويجعله حاضراً من جديد.


ومن بين تقنيات كثيرة استحدثها العالم الرقمي لإعادة صياغة العمل الفني، يأتي ما يُعرف باسم تقنية الإنتر ميديا والتي تخلق حالة من التفاعل بين الممثل والوسائط الفنية المختلفة فمن خلال إعادة تشكيل الشخصيات والسينوغرافيا يتم التفاعل بين الواقع الافتراضي والواقع الفعلي على الخشبة ونتيجة ذلك يتم تعقيد نطاق الأحداث والتفاعلات على خشبة المسرح بفضل هذا التداخل بين أكثر من وسيط فني.


ونذكر أيضاً تقنية الملتيميديا التي توظف استخدام الأفلام السينمائية والصور والفيديو في العرض المسرحي وذلك لخلق إيحاء بمكان مسرحي أو التفاعل مع حركة مكان أو زمن بعينه وما إلى ذلك، وتعتبر فرقة forkbeard fantasy التي أسسها الأخوين بريتون عام 1974م أشهر الفرق التي تستخدم هذا التكنيك حيث تقدم الفرقة عروضا تجريبية تمزج بين المسرح والسينما والدمى والرسوم المتحركة وأيضاً الأزياء السريالية لخلق شكل فني يعتمد على الصورة وتقل فيه الكلمة بشكل واضح.


لقد أصبح الإنترنت وسيلة تكنولوجية تفرض ذاتها على فنون العرض، حيث تعتمد بعض العروض المسرحية على التفاعل بين الممثل والجمهور على خشبة المسرح من خلال شبكة الإنترنت، فمن إحدى التجارب التي تفاعل فيها الممثل الغائب عن خشبة المسرح والحاضر إلكترونياً عبر الواقع الافتراضي مع الجمهور كانت تجربة قامت بين بلجيكا والعراق عام 2006م، حيث أدى الممثلين أدوراهم على هيئة حوار إلكتروني على أبليكيشن سكايب.


فقد ساهمت التقنيات الحديثة في إعادة صياغة استخدام العناصر التقليدية وتجديد مفهومها لتصبح أكثر مرونة كالخلفيات والإضاءة التي لعبت دوراً في جعل العروض أكثر تفاعلية على خشبة، وهو ما تمكن من كسر الكثير من حواجز الملل التي باتت تعكسها العروض التقليدية لما تحملها من عناصر ذات قوالب جامده لا جديد فيها، كما أدت هذه التحديثات إلى زيادة الصدى الإبداعي وتأثير جماليتها بفضل زيادة إمكانيات التعبير للمتلقي، وعليه بقي المتلقي ينتظر أن يخرج له العالم الرقمي بكل ما هو جمالياً وأكثر إبهاراً بفضل تقنياته التي لا تتوقف عند حد معين.


ومن ثم نجد أن العالم الرقمي ساهم بشكل كبير في تطوير فنون العرض، بصورة إيجابية لما خلقته من متعة وفعالية أكثر مما كانت تحققه الأساليب التقليدية، فقد لعبت تلك التقنيات وغيرها في العمل على إبهار المتلقي وأن تجذبه لفنون العرض، وهو ما نتج بفضل تزايد الإمكانيات التكنولوجية التي أظهرت الاحتياج المستمر لعمل تغيرات في تقنيات فنون العرض. ولهذا بدا من الطبيعي أن نُسلم بوجود التكنولوجيا وإنها بالفعل فرضت ذاتها في عالمنا وأصبح من الصعب التخلي عنها.