السبت 18 مايو 2024

لوحة "فردوسٌ يرقص" للفنان سعد علي نموذجًا.. فرضيات وعلاقات في الفنّ والتَّلقي

فن13-10-2020 | 22:22

لا يمكن لإنسان مهما كانت ثقافته أن يدرك شيئًا أو حدثًا لم يجربه ولم يعشه، ولا يعني هذا أنني أقلل من شأن الثقافة والمعرفة وفائدتهما والمتعة المترتبة عليهما، لكنني بكل بساطة أفرد ظلالي على العالم من بداية وعيي به، إنني أجرِّبُهُ كل صباح ومساء وأمنحه الفرصة كاملة ليجربني..

لا انتظر وحيًّا ولا أترجَّى حالةَ إلهام، إنني أذهب بثقة واندفاعٍ متناهيين أذهب إلى الآلهة وأطرح أسئلتي..


على كلٍّ ثمة طريق تعلن عن نفسها وتلوحُ من بعيد، ثمة غموض يسكنها وليته يدوم هذا الغموض الآسر. ثمة ما يشبه النداء وما يشبه رجع الصدى. ثمة حنين مجهول إلى أبدٍ مجهول -. ثمة ما يمكن أن نصفه بأنه فني. ثمة ما يؤكد امتياز الحالة واختلافها وعلوّها الإنساني الكاشف. ثمة ما يوسع نهمي ويزيد من سرعة تياري. ثمة ما أود التخلص منه، ما أودُّ لو ألقيه كما يلقي النيلُ طَمْيَهُ على ضفتيه فتخضر الصحراءُ وينام أبي سعيدا في قبره الفرعوني.


والحديث هنا ليس موجها للإنسان العادي الذي يرى في نفسه مجرد ثمرة في الحقل وإنما موجه للإنسان الذي يرى في نفسه الحقل ذاته.


وهذه نظرة لروح الفن وأدواته وأحواله تحاول تفسير العلاقة الأزلية _في ثوبيها المعقد والبسيط_ بين الفنان والجمهور وبين الأثر الفني والمتلقي وتسعى إلى أن تكونَ مدخلا لقراءة الفن بكل أنواعه.


وإننا لن نستطيع أن ننتج فنا أصيلا ما لم نفهم العلاقة بيننا وبين المتلقي، إننا لن ننجح في عزلتنا الفنية إلا بالقدر الذي نكون فيه متشبعين وممتلئين بهذا المتلقي _أي بواقعه وأحلامه وآماله وآلامه_ مهما بعدت بيننا المسافات وحجبتنا الحدود والجغرافيا وجوازات السفر.. كاشفين له عن نفسه وعن رؤية جمالية وممكنةٍ للحاضر والمستقبل، وفي المقابل لن نكون منصفين كمجمتع أو جمهور إذا أردنا لهذا الفنان لونا محددًا أو ثوبا معينا، إننا نخطئ كثيرا حين نصنع أطرا وبراويز ونضع فيها الفنان مطالبينه ألا يخرج عنها _وسواء في ذلك أكان البروازا لقديس أو لشيطان_ فإذا قاوم وخرج عنها صببنا عليه جام غضبنا وسخريتنا.


..ومثلما يولد العالم من رحم الصراع بين قوى الطبيعة والإنسان من جهة وبين الإنسان والإنسان من جهة اخرى، يولد الفن (بتعبير الدكتور تليمة في كتابه مداخل إلى علم الجمال طبعة مكتبة الأسرة ٢٠١٣) من رحم الواقع ومن صراع الفنان مع هذا الواقع بكل ما فيه، ومن هنا كانت الحاجة إلى أن تكون علاقة الفنان بالجمهور شبيهة بالشهيق والزفير أو بحركة المدّ والجزر "إننا موجاتٌ من ذات البحر تحت سماء واحدة" – (سطر من الشعر الصيني) بحيث تمنحه الشعور بالحرية وتمنكه من تأمل ذاته وفهمها والتصالح مع تناقضاتها وصراعها المستمر، والأخذ والرد وفهم  دوره في المجتمع والعالم، وبالتالي من التعبير عن قضايا وهموم هذا المجتمع وذلك العالم، وفي الوقت نفسه تطرح للمتلقي مساحاتٍ وأسبابا مشتركةً بينه وبين العمل تُأهّلُهُ للاستقبال والتلقي وكأن جزءا غامضا وعميقا كان غائبا داخله بدأ يحضر ويتضح وينكشف رويدًا رويدًا كلما انْسجم واسغرق في تأمل العمل.


..ويلحُّ عليَّ الآن أن أذكر لك فيما أذكر عن عالم التلقي موقفا مرَّ منذ أكثر من ثلاث عشرة سنة أو أكثر، وهو أنَّ جماعةً من الطلاب الشعراء التفوا حول أستاذهم ذات نهارٍ في حجرة يتشاركُها معَهُ معيدون آخرون، لكنها كانت مسرحا كبيرا مُهِمًّا لنا نحن جماعة الشعراء الملتفين  _في خشوعٍ ومرحٍ وحريةٍ تكادُ تُلمسُ باليد الرحيمة العارفة_ كما يلتفُّ بسطاءُ العالمِ حول مواقدهم في الشتاء.


ولتعلم عزيزي القارئ أنني تعلمتُ التلقي من مصادرَ كثيرةٍ أهَمُّها وأعظمها أثرا حكاياتُ أمي وبرامج إذاعة الراديو الفنية والأشجار والبحر وشارع "النبي دانيال" والقاهرة التي لاتنام ولا تهدأ حتى في أوقات الخطر، ومن مكتبة الشاعر والمناضل  نبيل قاسم (شاعر ومناضل يساري مصري  ١٩٣٩- ٢٠١٦ وله دواين شعرية وترجمات فلسفية وأدبية متنوعة) والتي قرأتُ ودرستُ فيها ما شكلني من جديدٍ وأعاد َ تأسيسَ علاقاتي بالعالم، ومن قبلها دراستي للغة وآدابها بكلية دار العلوم, ولهذه الأخيرة نصيبُ الأسدِ في تقويمي وتعليمي ومحبتي للغة والأدب والفنون، ولقد حظيتُ فيها باهتمامٍ خاص _إذ كنتُ الشاعرَ المختارَ من الجماعة ليضع الأستاذ اسمي وقصيدتي في كتابه المُقَرّر على طلابه بالفرقة الثانية بالليسانس، وحظيتُ بأساتذةٍ عارفين مُلهمين متواضعين (كأستاذ الأدب الجاهلي وأستاذ النحو والصرف، ورائد جماعة الشعر _والذي التففنا حوله كثيرًا أيضا_ آنذاك صديقنا الشاعر محروس بريك) وغيرهم.


نعود إلى جماعة الشعراء وجلستهم (بالأمس كانت إحدى القنوات تعرض فيلم (تاتنيك) ويبدو أن معظمنا قد شاهده) والحديث الدائر عن قصائدهم، ثم حول الرومانسية في الشعر والأدب والفنون عموما.. يتوقفُ الأستاذُ فجأةً عن الحديث ويسألُ: هل شاهد أحدُكم الفيلمَ، وهل رأيتم آخرَ مشهدٍ جيدًا؟


..المشهد يصور النهايةَ وفيها يتشبَّثُ البطلُ العاشقُ بقطعة من خشب السفينة المنكوبة الغارقة ومعه البطلة المعشوقة، ولما كانت الخشبةُ ضعيفةً والبحرُ يكادُ يتجمد ولن تصمدَ قشَّةُ النجاةِ هذه بهما معا. وعلى أحدهما أن يضحي بنفسه في سبيل نجاة الآخر_ ويختارُ المؤلفُ/المخرجُ أن يموتَ العاشقُ لأن البطولة تقتضي ذلك، كما أنَّ استمراريةَ الحياة تقتضي نجاة المرأة/ العاشقة، ولأن الأستاذ عاشقٌ مجربٌ وفنان _هو صديقنا الشاعر أحمد بلبولة (شاعر مصري ورئيس قسم الدراسات الأدبية كلية دار العلوم – القاهرة) أجاب بعد أن سمع مداخلاتنا وإجاباتنا المتنوعة: وإضافة لما ذهب إليه كلٌّ منكم_ فإنَّ المرأة هي الرَّحِمُ والتجدُّدُ والحياةُ، فهتفتُ: وهي أيضا البحرُ والطبيعةُ.


سُقت لك هذا المثل وهذه الذكرى لأبينَ وأوضحَ مدى بساطة وعمق العلاقة التي تقوم بيننا وبين الأشياء وعلى رأسها علاقتنا بالفن، ألمْ يحتفِ تاريخُنا الإنسانيُّ الممتدُّ بمثل هذه الموضوعات والأمثال والمشاهدِ ويخلَّدٌها من خلال الأثر الفني، ثم ما يؤسسُهُ ويبنيه هذا الأثرُ من علاقاتٍ وفرضياتٍ ودلالاتٍ في الوعي الفردي والجمعي أثناء عملية التلقي عبر الأمم والعصور.


.. وببينما كنَّا من تراب وماء ولَوْنٍ، من نفْخَةِ نَفَسٍ صادقةٍ، ومن كلمةٍ منتقاةٍ ومُلقاةٍ بعناية، كم أعجبتنا اللوحةُ وأسَرَتْنا الكلمةُ وكم وكم شَعرنا بالعناية والنَّغَم، فلا اللون ينفدُ ولا الكلمة تجِفُّ ولا العناية تغفلُ أو يزولُ الأثر.

..أثر حبيبتي الدائم، موسيقى ألف ليلة وليلة لكورسكوف، ولوحة (الفردوس الراقص) لسعد علي (فنان عراقي يقيم بإسبانيا منذ 2004) وقصيدتي التي تسكن بالي دائما، أوراقٌ طازجةٌ لم تمسَّ، وقلمٌ شغوفٌ متحفزٌ كالحصان لحمل كلماتي، ومؤونةٌ ودخانٌ يكفيان ثلاث ليال سويًّا..


أتمدَّدُ  وأتقلبُ من جنْبٍ لآخر. استقرُّ للحظةٍ، وأُصَفِّرُ كالحُوتِ الأزرقِ حين ينادي أنثاه. تعلو الموسيقى وتملأُ المكانَ، وتغسل روحي والسقفَ والحوائطَ وتنفضُ سُهْدَ الأريكة، تمسحُ قلقَ الستارة، وتُمَهِدُ الليلَ معي لمشاهدة هذه الرقصة _أقصد اللوحة_ وتلقي هذا العمل.


أعتدلُ في جلستي. أنصت أكثر لذاتي، أحاول فهم الحالة كلها الموسيقى واللوحة والقصيدة التي تسكن بالي.. أتحسس مسيرة الصراع بين الثلاثة إلى أن يتناغموا ويَطيبُ لهُمُ المقام معا هكذا في رقصة دائمة وحنونة.


وأفكرُ.. الموسيقى ليست بعيدة عن اللوحة وهما معا ليسا بعيدتين عني _كمتلقٍ هنا_ وعن أحلام يقظتي ومنامي.


تختفي الموسيقى ببُطءٍ وهدوءٍ ويبقى أثرها الذي يشبه أثر المحبوب _قليلا طبعا_.


اللوحة أمامي أو بمعنى أدق أنا في اللوحة، تغرقُ عينايَ المفتوحتان في بحر الألوان المختلط المحتفل السَّاهي، وذراعاي تحتضنان وتبتلعان المشهد. وقدمايَ  تتحسَّسُ موقعها في الريح وترتجلان الرقصةَ والخطوات، وحواسي هائمة منتبهةٌ تلقائيٌّة معًا..،


..أمشي في اللوحة وأفكر..


"أليست الفرضيات كثيرة هنا، ألسنا نبحث عن دلالات متعددة للصيغة الواحدة، أولسنا مختلفين حقا ومتمايزين ومتنافرين ومتناغمين.. إذا كانت الفرضياتُ كثيرةً والدلالاتُ تتعددُ بتعدُّدِ السياقات والظروف. فإنها أبدا لن تستوي _هذه الفرضيات_ جميعًا على درجة واحدة، كما أنَّ كثرة هذه الدلالات لا تعني بالضرورة نجاح العمل _أي عمل_. 


إنما تصبح الفرضية الأكثر تمايزا وصدقا هي الفرضيةُ التي تسعى إلى الاقتراب من روح العمل ومحاولة قراءته وفك خيوطه وخطوطه وألوانه وكلماته ورموزه، والبحث عن دوافعه وعما وراءه، كذلك فإنَّ أنجح الدلالات وأقواها تلك التي تأتي من المُعطى الأول ثم تأخذُ في التبلور ثم تترسَّخُ ثم تتشعبُ فتستوي شجرةً مثمرةّ تؤتي أكُلَها مع كلّ خطوةٍ نخطوها في رحلتنا لمحاولة فهم العمل، وما يمكن أن تنتجَهُ هذه الرحلةُ وهذا الفهمُ لدى المتلقي العابر أو الشغوف المقيم أو لدى الدارس والباحثِ المتخصص والذي يطلُّ علينا الآن من نافذة المنهج والنظرية والمدرسة."


.. وأفكر..


أهذه رقصةٌ أم مناجاة، وهذه الوضعية التي لراقصة باليه خبيرةٍ تستعرض نفسها وحركاتها في دلال وخفة وسكون قبل بدأ العرض،  أو أنها الأميرة شهرزاد تبدأ رقصتها المنفردةَ لشهريار _لإغوائه وإغرائه وإزاحة الكآبة الأسطورية التي تسكن روحه وتحرمه الأنس والنوم والرفقة الدائمة، وبينما هي على حالتها تلك _في الروايات الشعبية والتصاوير التي تتناقلها الأجيال عبر العصور  والأمم_، حتى تحولت هنا في حلم الفنان ولوحته إلى الفردوس ذاتها. لقد تحولت من مجرد ملكةٍ أو أيقونة أو رمز إلى شيء إلى الكل في واحد والواحد المتضمن الكل.، إنها اللغزُ والمعجزةُ والطريقُ والرفيقُ والرحلةُ والجائزة.


 أهذه إذن المرأة/ الفردوس/ الأم الأولى/ الطبيعةُ حين ينامُ على ساعديها الربيعُ ويَصحو الربيعُ، كما يقول الشاعر(عبد المنعم رمضان شاعر مصري من جيل السبعينيات وهو أحد أبرز أسماء هذا الجيل.. من قصيدة ببيروت) وقد تحررتْ من فراشها على مهلٍ، تحممت في البحيرةِ المقدسةِ فخرجتْ شفافةً بيضاءَ من غير سوء، جففتْ جسدَها في الحديقة فاستيقظت الحديقةً، تناولت إفطارها من ماءٍ وشمس وهواء وتركت شعرها للريح، جلست طويلا أمام المرآة _مرآة الكون_  وفكرت.. وسألت نفسها وأسكرها السؤال وأغْرَتْها الغريزةُ.. ووصلت لذروة النشوة فتهيأتْ وخرجت راقصة طائرة ، تهتز جنباتها كما تهتز البئر والبحر والغيمةُ العابرة،  كلُّ عُضوٍ فيها يسافرُ في جهةٍ ويحملُ أمْنِيَةّ ولَهُ روحٌ منفصلةٌ متصلةٌ، ويشيرُ إلى مقامٍ من مقامات الفردوس.


"فمن شريك الرقصة إذن؟ ولمَ لمْ يجعلْ لها الرسامُ شريكا في رقصتها.؟


أكان لك شريكٌ أيتها الراقصةُ، ومنذ متى تسكنين بالَ الرسام  وتخطرين في أحلامه وفي أية ليلة دخلتِ المرسمَ وبأيّ صباح تسللت؟


 ويأتي الصوتُ العميقُ من الداخل _كأنه يأتي من المثل والذكرى اللذين سُقْتُهُما لك سابقًا أو أبعدِ منهما_ هامسا: إنَّ شريكَ الرقصة ومُتمِّمَ رحلة العمل هنا هو أنت وأنا والجمهور الجالس على مقاعده الآن، والذي يميل برأسه صبوةً وانتشاءً مع كل حركة لون والتفاتَةِ خطٍ وإشارة جسد، إنه المتلقي بعد أنْ تأملَ وفكرَ وحاولَ الفهمَ واطمأنَّ إلى فرضياته وكثَّفَ الدلالاتِ وقارب بينها يصلُ أخيرًا، وكمؤمن يدخل جنته التي وُعِد بها أو ضالٍ وجدَ فردوسه المفقود يدخل اللوحة ويشاركها الرقصة.. رقصة والميلاد والبعث واللحظة الخالدة.


وإننا لنرى الألوان تتمايل وتتمازج وتتعانق صانعة دوامة دوارة تشبه في حركتها حركة التنورة الصوفية أحيانا، كما أنها تصنع بحرا من الأمواج المتغيرة المتجددة أحيانا اخرى،  وإذا دققنا النظرَ والحسَّ أكثر _وحملَنا صبرُنا_ سنرى الغاباتِ بألوانها وعشبها وزهرها الأصفر والأحمر القاني والأخضر الخجول والرمادي المتدرج.


 غير أننا حين نفيق من نشوة الرقصة واللقاء سنجد أن هذه الدوامةَ وهذا البحرَ وهذه الغاباتِ يمثلون في الأساس والأصل لون تنورة فستان المرأة(الطبيعة/ الفردوس) وقد تخلصتْ من أرقها وخوفها وارتدتْ كلَّ فصولها(الربيع والصيف والشتاء والخريف) وخرجت ترقص لابنها وأبيها وحبيبها الإنسان..

فلا اللونُ ينفدُ ولا الكلمةُ تجِفُّ ولا يزول الأثر.


    الاكثر قراءة