كان وسيبقى نموذجًا "للرجل المؤسسة"، لأنه لم يكن
أسطورة مثلما قال هو: "عبد الناصر ليس أسطورة".. فالأسطورة صنع غير
إنساني.. صنعتها الآلهة في مصر القديمة، وعند الإغريق والرومان وفي أقصى الشرق في البوذية
والهندوسية والزرادشتية.. أما المؤسسة فهي من صنع الإنسان، تتجلى فيها القدرة على الإبداع
والانضباط، وتنوع خطوط الإنتاج والتركيز على إنجاز الهدف بالأخذ بأسباب العلم والفن
مجتمعة.
لم يكن محمد حسنين هيكل حالة نمطية متكررة في دنيا الصحافة
والسياسة، إذ لطالما كان هناك كبار مصقولون في الصحافة، مثّلوا نجوما ساطعة في سمائها،
كالتابعي والصاوي ودياب وآل زيدان وآل تقلا وآل أمين.. ومعهم في سماء السياسة أفذاذ
قد يجلون عن الحصر، منهم شموس تدور من حولها الأفلاك نجوما وكواكب وكويكبات، ولكن هيكل
كان فاعلًا ورقمًا صحيحًا في الصحافة، خبرًا وتحليلًا ومقالًا واستشرافًا للمستقبل
وإدارة، وكان كذلك في السياسة متفردًا في مداره من حول شمس زمانه السياسي، جمال عبد
الناصر، مستشارًا ومحاورًا بل وأيضا متآمرًا.. وفوق ذلك كانت ميزته الكبرى مثقفًا متعدد
الجوانب، يحفظ شعرًا بآلاف القصائد من الجاهلي وما بعده حتى العباسي والحديث، ويقرض
الشعر ويتذوق فنون السينما والمسرح، ويسعى لرؤية العروض في عواصم الغرب، ومعها فن الموسيقى،
عربية وعالمية.. والمفاجأة أنه كان يجيد تقليد الأصوات الإنسانية، ويطلق القفشات والنكت..
وعند اللزوم كان يجيد بضراوة فنون التنكيل بالخصم، إذا لزم الأمر، وتظهر "العين
الحمرا" كلما احتاج المشهد.
لذلك كله لم يكن تميزه ككاتب صحفي مستندًا على إجادته المتفوقة
لفنون العمل الصحفي فقط، وإنما لارتكازه على ثقافة موسوعية تمتد من التاريخ إلى الجغرافيا
السياسية إلى علم السياسة والتوثيق.. ومن الأدب إلى الفلكلور.. ناهيك عن الاجتماع بشقيه
النظري والعملي، أي هواية النزول إلى الشارع والقرية والالتقاء بالناس.
كان هيكل يؤكد دومًا أنه
لا يمكن فهم السياسة، واقعًا ومتغيرات، إلا بوجود الخريطة أمام المحلل والكاتب.. والخريطة
عنده وفي الحقيقة أيضا ليست تسجيلًا لأماكن وفق خطوط العرض وخطوط الطول والتوزع بين
يابسة ومياه، وإنما هي- وكما هو مستقر- تضم التنوع والتعدد البشري "جغرافيا بشرية"..
فوق تنوع وتعدد تضاريس "جغرافيا طبيعية".. وتنوع في مصادر الثروات الطبيعية
"جغرافيا الموارد".. وهلم جرا لنصل إلى القول المشهور: "التاريخ جغرافيا
متحركة.. والجغرافيا تاريخ ثابت".
ولقد جمع الأستاذ هيكل
بين متناقضين، أو بالأصح ما يبدو أنهما متناقضان، حسبما كتبت له ما لم أنشره في عيد
ميلاده الثمانين، أي قبل رحيله بثلاثة عشر عاما، وبعدها اكتشفت أنهما ليس شرطًا أن
يكونا نقيضين، أولهما: اللورد الذي يعيش الوفرة والثراء والفخامة ويعمل لديه من يخدمه
في كل أمر، ابتداء من التنظيف لقيادة السيارة إلى جمع المادة العلمية اللازمة لمؤلفاته..
وثانيهما: ابن البلد الذي نشأ وترعرع في باسوس وباب الشعرية وحصل على الدبلوم المتوسط
وارتدى البالطو الكاكي المتواضع ليساعد والده في وزن أكياس القطن على ميزان القبّان!
كتبت له أنني وقد رأيت بجواره تمثالًا للكاتب المصري "جالس
القرفصاء"، وهو تمثال مشهور في مصر القديمة، أتخيله– أي الأستاذ هيكل– أننا لو
كنا في عصر آمون ورع إلهًا للكتابة، غير أنني أراه إلهًا شرقيا أكثر منه إلهًا غربيا،
لأن الشرقي من الآلهة معصوم منزهٌ عن الخطأ دومًا، أما الغربي ومثاله زيوس- رب أرباب
الإغريق- فإنه ينزل من قمته على جبل الأوليمب ليتسكع في أثنيا وسط البشر، يعاكس الفتيات
الصغيرات ويشاكسه الفتيان! وأرى أن ابن البلد كثيرا ما يصارع اللورد داخل شخصيته، فإذا
بالأول يصرع الثاني على أكتافه!
وعندما قرأ الأستاذ هيكل ما كتبته ضحك وسألني بغتة: كيف
التقطت هذه التركيبة؟! فرددت من فوري: كلما شاهدت منير عساف مدير مكتبك الأشقر، ذا
العينين الزرقاوين والشعر الأصفر نسبيًا،
وشاهدت من يقدم واجب الضيافة أسمر البشرة مبتسم الثغر في وقار وأناقة، وكلما ذهبت
إلى برقاش، حيث البيت الريفي والمزرعة.. وكلما رأيت ضيوفك ومنهم قامات سامقة وهم
ينتظرون دورهم في مكتب منير.. وكلما.. وكلما.. كنت أتخيل هذه الثنائية.. زد على
ذلك أنني شاهدتك واستمعت إليك وأنت تقلد صوت السفرجي، وترد على مكالمة من لا تريد
أن يعرف أنك موجود، إضافة إلى ما استمعت إليه من شعرك المرتجل في لحظته!
وكانت إجادته للإنجليزية نطقًا وكتابة، وإلمامه بغيرها
من لغات أوروبية؛ عاملًا رئيسيًا في تعميق معارفه وثقافته، مضافًا إلى ذلك سفره
الدوري للخارج ولقاءاته مع كبار عصره من صحفيين ومثقفين وساسة، لأنه كان صديقًا
شخصيًا لمثقفين من وزن مالرو وسارتر ولرؤساء من وزن ميتران.. وقابل العديد ممن
كانوا زعماء مرموقين في عصرهم كخروتشوف ومن بعده بريجنيف، وكنهرو ومن بعده أنديرا
غاندي.. وكماو تسي تونج.. وشو إن لاي.. والخوميني ومن قبله الشاه.. وكل زعماء إفريقيا
المرموقين تقريبًا.. اجتمع كل ذلك له، ولكنه لم يعرف التعالي لحظة واحدة على
المعلومة، أيًا كان مصدرها، لأنه كان دومًا يبدأ مع ضيفه أيا كان حجمه ومستواه: ما
الأخبار.. وماذا عندك؟!
نحن بالفعل إزاء مؤسسة محكمة التكوين، وفي اعتقادي أن
مقالاته التي انتظم فيها منذ الخمسينيات إلى أن مات.. وأن كتبه العديدة كمًا ونوعًا؛
لم تلق بعد الاهتمام المناسب بقراءتها قراءة نقدية متأنية، لأنه قال الكثير، ويمكن
أن يقال فيما كتبه الكثير أيضًا.