يظل محمد حسنين هيكل الصحفي المصري
والعربي الأشهر وربما الأكثر إثارة للجدل خلال النصف الأخير من حياته، ولكنه يظل
بالنسبة للعاملين في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية الأب الحقيقي
لفكرة تأسيس أول مركز للبحث والتفكير في مصر والعالم العربي، ومن الصدف أن تتواكب
ذكرى ميلاد الأستاذ بذكرى تأسيس المركز الخمسين، الذي يتم تصنيفه حاليا على
المستويين الإقليمي والعالمي كأول وأهم مركز للبحث والتفكير في الشرق الأوسط، كما
يحتل موقعا لا يحتله غيره في الترتيب العالمي لمراكز الفكر، طبقا لتصنيفات سنوية
تقوم بها جامعة بنسلفانيا الأمريكية.
ولعل حكاية تأسيس المركز تشير إلى أهم
بذرة من بذور تكوين هيكل وهي الانتباه إلى أهمية البحث، وتأصيل الظواهر السياسية،
وامتدت في حالة الرئيس الأسبق السادات إلى
التأويلات النفسية.
هذا التكوين النادر في جيل حسنين هيكل
من الصحفيين ربما، هو سبب تحويل فكرة نشر كتاب عن إسرائيل للأستاذ حاتم صادق إلى
مركز للأبحاث الفلسطينية عام ١٩٦٨، فصادق روى لنا في إطار المجهود الذي يقوده
حاليا د. وحيد
عبد المجيد لتوثيق تاريخ مركز الأهرام للدراسات، أنه قد ذهب إلى هيكل وهو الفتى
العشريني وزوج ابنة جمال عبد الناصر ليستشيره في نشر كتابه الذي كان تحت عنوان
نظرة على الخطر، وذلك في أعقاب هزيمة ١٩٦٧، فما كان من الأستاذ إلا أن عدّل عنوان
الكتاب ليكون نظرة على الخطر الصهيوني، لينشر في دار المعارف، وتتحول الفكرة إلى
مركز للأبحاث؛ حيث يذهب هيكل إلى جمال عبد
الناصر ليعرض عليه فكرة دراسة إسرائيل من الداخل ويكون حاتم صادق هو أول المنضمين
إلى المركز الوليد والذي نشأ في صحيفة الأهرام ليتطور عبر ثلاث سنوات ويتحول اسمه
إلى مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية بعد أن تم ضم مركز الأبحاث التاريخية إليه.
على المستوي الشخصي لم أزر هيكل أبدا
في مكتبه، سعيت إلى ذلك مرة واحدة فقط أثناء إعدادي لرسالتي للدكتوراه عن العلاقات
المصرية السودانية، ولم أوفق ربما لموقف الأستاذ السلبي من السودان والذي تأسس منذ
عام ١٩٦٤ حينما كتب هيكل مقالا عن ثورة أكتوبر السودانية تحت عنوان “وماذا
بعد”، فما كان من السودانيين في حراكهم
الثوري ضد الرئيس عبود إلا أن تظاهروا ضد هيكل أمام السفارة المصرية بالخرطوم،
هذا المقال كما قرأته، ووثقته في رسالتي للدكتوراه لم يكن ضد
الحراك الثوري السوداني، وربما هذه الحالة السودانية من المقال، جعلت هيكل يبتعد
عن السودان وشئونه وتفاعلاته لبقية عمره حتى أنه لم يستقبل أبدا أي فاعلين سياسيين
سودانيين سواء في الحكم أو المعارضة، رغم إلحاح البعض في ذلك خصوصا من فصائل
التجمع السوداني التي كانت موجودة بالقاهرة منذ منتصف التسعينيات وحتى منتصف العقد
الأول من الألفية الجديدة.
بطبيعة الحال التقيت الأستاذ في كثير
من المناسبات العامة، وأذكر أن اللقاء الأول كان في مؤتمر نظمه مركز البحوث
والدراسات العربية برئاسة العلم اللبناني خير الدين حسيب في فندق رمسيس هيلتون،
وكنت مازلت شابة في مقتبل حياتي المهنية ولفت نظري أن الأستاذ رغم تقدمه في العمر،
يمتلك حيوية وشبابا مميزا يومها سألته عن سر التألق فقال لي ضاحكا جملة واحدة ”العمل
يحافظ على الشباب”.
وعلى الرغم من حرص الأستاذ أن يوصف فقط
بالجورنالجي ويعتبره الوصف الأعز إلى قلبه إلا أن اهتمامه بالتوثيق، جعله مؤرخا من
طراز رفيع ساهم في بلورة الرؤى حول كثير من المحطات المفصلية في التاريخ المصري
والتفاعلات العربية والعالمية، فكتب
شهادته عن عصر عبد الناصر في كتابه لمصر لا لعبد الناصر، وعن حرب السويس
١٩٧٧والطريق إلى رمضان.
أما كتابه خريف الغضب فقد صفّى فيه
حساباته مع الرئيس الأسبق السادات، وكان أحد أسباب إثارة الجدل حول هيكل ،خصوصا
فيما يخص علاقاته بهرم السلطة السياسية في مصر من الرئيس جمال عبد الناصر وحتى
الرئيس عبد الفتاح السيسي، فالرجل لم يذهب إلى الظل أبدا بعد أن ربطته بثورة يوليو
وضباطها الأحرار علاقة وثيقة، ثم ربطته بجمال عبد الناصر علاقة شخصية مكنته من أن
يكون لاعبا سياسيا علي الأقل في المستوى الداخلي، مكلفا بمهام سياسية أحيانا على
المستوى الخارجي خصوصا في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر حتى عام ١٩٧٠.
أما في فترة السادات، فقد كتب التوجيه الاستراتيجي الصادر من الرئيس السادات إلى
القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول أحمد إسماعيل علي، وفي هذا التوجيه تحددت
استراتيجية الحرب، بما فيها أهدافها، وترتب على هذا التوجيه تكليف مكتوب أيضا
للفريق أول أحمد إسماعيل علي ببدء العمليات، وقعه الرئيس السادات يوم 5
أكتوبر١٩٧٣. وكتب
هيكل للرئيس السادات خطابه أمام مجلس الشعب بتاريخ 16
أكتوبر من نفس العام .أما
أسباب انهيار هذه العلاقة الوثيقة بين
هيكل والرئيس السادات، فقد كانت بسبب هنري كيسنجر، وقبول السادات بسياسة فك
الارتباط خطوة خطوة - جبهة
جبهة، التي رآها هيكل مقدمة لصلح مصري - إسرائيلي
منفرد يؤدي طبقا للأستاذ إلى انفراط في العالم العربي يصعب التنبؤ بتداعياته
وعواقبه.
من هنا أخذ السادات موقفا من هيكل
وأخرجه من قلعته الأثيرة صحيفة الأهرام يوم السبت 2
فبراير1974 .
وقد تعرض هيكل لمحنة سحب جواز سفره ،
ومنعه من الخروج من مصر عام ١٩٨٧ وكذلك التحقيق معه لمدة ثلاثة شهور بتهمة الإساءة
لسمعة مصر بعد نشر كتاب بالإنجليزية هو Sphinx & Commissar،
والذي ترجم إلى 25
لغة، شرح فيه أسباب رفضه لاتجاهات السادات في السلام مع
إسرائيل.ولم
يكتف الرئيس السادات بذلك بل أقدم أيضا علي سجن هيكل مع زمرة كبيرة من النخب
المصرية في سبتمبر 1981.
في أعقاب رحلة السجن العسيرة والقصيرة،
اختار هيكل لبقية حياته موقع الكاتب والمحلل السياسي ،مشتبكا مع السياسة المصرية
واتجاهاتها وخصوصا في لحظات الاحتقان، وأنهى مهامه الصحفية المنتظمة كرئيس لمجلس
إدارة مجلة "وجهات نظر"، الصادرة عن دار "الشروق" حين بلغ الثمانين من العمر عام 2003
، ورغم ذلك نبه إلي بداية تخليق مشروع توريث
مبارك الابن، وما ينطوي عليه من مخاطر ليس علي ورق الصحف هذه المرة ولكن عبر
الشاشات التليفزيونية، وكان هذا الموقف سببا في أن يستأذن هيكل في الانصراف من
العمل العام بأكمله من نافذة صحيفة الأهرام هذه المرة ،بعد أن تعرض لمضايقات من
جانب نظام مبارك، كرد فعل متوقع علي موقف هيكل ربما غير المتوقع.
كان من الثابت عن محمد حسنين هيكل
التعفف، والترفع عن الصغائر،،ولكنه أبدا لم يحب أن يبتعد عن الأضواء رغم ادعاءته
عن الانصراف ، وكان يسعي إليه بأساليب غاية في الذكاء والحرفية، فحينما أصبحت
الشاشات وسائل التأثير الأكثر فعالية بدأت لقاءات قناة الجزيرة “مع
هيكل “، ثم من قناة مصرية
خاصة في الفصل الأخير من حياته، وبطبيعة الحال لا ينفي سعي هيكل للضوء أن حلقاته
كانت تسجل أعلي نسب مشاهدة عبر العالم العربي كله وربما في العواصم العالمية،
خصوصا وأنه ظل ممسكا بأوراق وأسرار لم يمتلكها غيره، نشر بعضها في كتبه الــ ٣٩ ،
وأشار إلى غيرها في آلاف المقالات ، ولكنه لم يقدم أبدا علي تقديم وثائقه إلى أية
جهة توثيق مصرية تابعة للدولة لتطوي برحيل هيكل أسرارا لا نعرفها عن تاريخ مصر
المعاصر .
رحم الله محمد حسنين هيكل الذي علمني
شخصيا أن العمل سر الشباب الدائم.