رحل محمد حسنين هيكل وغاب معه نموذج رجل عصامي دخل الشأن العام من باب
الصحافة وغادره بعد عقود عديدة من الزمن لم يفارق خلالها المواقع الأولى إعلاما
وتحليلا واستشرافا. اختاره عبدالناصر محاورا له، وناطقا غير رسمي باسمه، يكتم
الأسرار حين يرتئي صاحبها بذلك، ويشيعها حين تقتضى المصلحة، ويبث بعضا من رحيقها
حين يعود له الأمر، وهو يربى في الأهرام جيلا بعد آخر من التلاميذ والمريدين، تألق
بعضهم وما وصل أحدهم إلى أستاذيته.
لم ينظر هيكل يوما للفارق بين النفوذ والمنصب، ولكنه كان يسعى للأول
بنهم، ويميل للابتعاد عن الثاني وكأنه مطلب العامة الذى لا يليق بأصحاب الرأي ان
يجدّوا في سبيله. كان يتحدث عن قبوله منصبا وزاريا في أوائل عهد أنور السادات
وكأنه خطأ ارتكبه ولن يسقط فيه مجددا. أما النفوذ فكان يستلذه بالذات لأنه يرتبط بشخص
صاحبه لا بموقعه. وكان يرى من شروطه سعة الاطلاع، والجرأة على ذكر التفاصيل،
والقدرة على استخلاص النتائج، والمجازفة باستشراف الآتي. أدمته وفاة عبدالناصر
المبكرة ولا شك، لكنها في الوقت نفسه حررته من كل الضوابط التي كانت تحد من نفوذه
بل تحصره بالقائد الكبير. فانتقل تدريجيا لوظيفة المثقف العام الذى يقيس تأثيره
بمدى اهتمام الناس بسماع ذكرياته، وبالتعرف على آرائه، وبرصد أحكامه. كان يخاطب
الأوحد ويستلهم منه اتجاهات الريح، بلا«صراحة» مفرطة، فصار يتوجه للجمهور «بصراحة»
فعلية لا تكليف فيها.
أخذني خير الدين حسيب لزيارته يوما من أيام 1981 فكان ود من اللحظة
الأولى. وجاء مؤتمر تونس عن «مستقبل الجامعة العربية» في السنة التالية ليوطد
علاقة ثقة لم ينتقص منها يوما فارق العمر، ولا اختلاف الجنسية، ولم يؤثر بها ذلك
البون البين في النجومية. كان اسمه لايزال على كل لسان وكان حسيب قد فاجأنا جميعا
بتمكنه من إقناعه بالمجيء إلى تونس. لم يتدخل كثيرا في النقاش بل فضل الاستفادة من
محبتنا المشتركة للممشى كي نتبادل المعلومات والأفكار عن السياسة العربية في
مشاوير صباحية على الشاطئ التونسي. ومنذ ذلك اللقاء لم أعد أذهب للقاهرة، وكنت
أكثر من التردد عليها، دون أن أزوره.
كنا نجلس في الصالون الملحق بمكتبه في منزله بمحاذاة الشيراتون القديم
وندخّن السيجار وكان لديه منه أصناف فاخرة، ثم ننتقل للغداء على مائدة من الأطايب
عز وجودها في القاهرة (وهى ليست بالضرورة معروفة بجودة موائدها). لم يكن هيكل
يتعشى وكان الغداء بالتالي وجبته الوحيدة وهو أدرك تدريجيا أنني لست معجبا
بالمأكولات الأوروبية مثل الميل فوي (الذى كان يزعم أن صديقه صدر الدين أغا خان
كان يطلبه مسبقا قبل أي زيارة). لذا كنت أتعرف عنده في كل مرة على طبق صعيدي جديد.
ثم، مع ازدياد مكوثه في عزبته في برقاش (قبل ان يقدم مناصرو «الإخوان» على تدميرها
وإحراقها غضبا من تأييد صاحبها لتسنّم السيسي رئاسة مصر) صار يرسل سيارته كي
أوافيه إلى هناك حيث رحت التقى بأفراد من عائلته لاسيما بأولاده الثلاثة الجراح،
والخبير المالي، ورجل الأعمال (ولم يكن أي منهم يسير في خطاه) كما بنبيل العربي
وهو نسيبه الذى واكبته من بيت هيكل دبلوماسيا فخبيرا قانونيا فوزيرا للخارجية
فأمينا عاما للجامعة العربية.
لاحقا صرت ألتقى أيضا هيكل خلال وجوده في أوروبا. كانت زوجته تهوى
باريس وتتحدث الفرنسية بطلاقة، وكنت أعوّل عليها لإقناعه بالمجيء إلى عاصمة النور.
هنا أيضا كان المشي اليومي على ضفاف السين مجالا للغوص في خبايا السياسة العربية
مع علمي انه كان هناك دوما خطر بأن أقرأ ما أقوله له بعد حين على صفحات جريدة أو
أسمعه من على شاشة تليفزيون، خصوصا أنه اكتشف، وقد تجاوز الثمانين، أن بوسعه
الإبهار بالتحدث من على الشاشات، لاسيما على «الجزيرة»، قبل ان تحمله مستجدات
«الربيع العربي» لهجرها لمحطات مصرية. كانت له أطباق محددة يهواها في باريس وكنت
أجد لاختيار المطاعم التي تتقنها. وكنت التقيه أيضا في لندن في فندق «الكلاريدج»
الذى كان معقله في عاصمة الضباب.
لم يكن هيكل يشعر بالغربة في أوروبا وهو الذى بدأ حياته المهنية كاتبا
بالإنكليزية بل كان يتجول فيها، من مطر لندن إلى شمس سردينيا، كباشوات مطالع
العشرين، يقيم في الفنادق الفخمة ويزور المتاحف والمعارض ويسأل عن كل جديد. لم يكن
يريد ان يغادر باريس في زيارته الأخيرة لها دون ان يتفحص متحف بيكاسو بعد ترميمه،
وكان يواظب على المسرح اللندني بشغف. كان يتلذذ بنوع من الندية مع أبناء القارة
العجوز، فيشعرهم بدقة اطلاعه على ثقافتهم وبشعوره بالألفة في بلدانهم فيمنعهم عن
أي مسلك فوقى. لكنه كان يتوقف طويلا مع أي عربي يقترب منه فيسعى فعلا للتعرف عليه
ويمطره بالأسئلة عن بلده وعن معارفه في ذلك البلد. وكان، في مصر كما في خارجها،
طويل البال مع الشباب يحاورهم بلا حرج وكأنه يئس من أبناء جيله وما عاد ينتظر منهم
شيئا يذكر.
وزرته مرارا في الفيلا التي كان يملكها على الساحل الشمالي إنما لم
أتمكن من لقائه في الغردقة (التي أصيب فيها بحادث صحى خطير في ربيع 2015 ونُقل
منها إلى لندن للمعالجة حيث جابه وضعه بالإصرار الذى عُرف عنه). كنت أستطيب لقاءه
بالفعل وأُعجب في كل مرة لحدة بصيرته رغم تقدم العمر، ولنهمه غير المحدود
للمعلومات والأفكار. وكنت أذهل لذاكرته الهائلة التي لم يؤثر فيها تقدم العمر وكان
يرد فاعليتها إلى القائه صباح كل يوم قصيدة كاملة، إجمالا لأحمد شوقي وأحيانا
للمتنبي، عن ظهر قلب. وكنت طبعا فخورا بالوقت الواسع الذى كان يخصني به على الرغم
من تدافع الناس لمجاورته. كان يجعلني أشعر بأنى صنوه وأن نقاشنا مفتوح دون ان
نحاول توظيفه في أي مصلحة آنية. كان يئن دوما من مبارك ومن طموحات زوجته، وكان
يسخر من المصريين المتهافتين للتقرب من الثنائي الرئاسي وبعضهم كان من مريديه. كان
مهتما أيضا بمجريات الأمور في سوريا ولبنان، وما كان على كبير إعجاب ببشار الأسد ولكن
حسن نصرالله استهواه باكرا بعدما عمل مصطفى ناصر على التقارب بينهما. أخبرني بمعظم
مراحل تعاونه مع عبدالناصر وبمضمون لقاءاته مع عدد من الزعماء العرب لاسيما معمر
القذافي (وكانت في برقاش قبل حرقها صورة أخذت في جزيرة كابري تزين الدار للشيخ حمد
يكتب والى جانبه هيكل وكأنه يملى، كتب حمد في أسفلها عبارة «الأستاذ والتلميذ»).
وما شعرت يوما الا بكثير من الثقة معه سيما وأنى لا أعتقد أن وصلت مسامعه يوما
كلمات نقلتها عن لسانه إذ كنت حريصا على إبقاء أحاديثنا ملكنا نحن الثنائي وحسب.
لكنه لم يكن يلتزم تماما بهذه القاعدة مما سبب لي في بعض الأحيان حرجا
حقيقيا. ففي إحدى المرات ذهبت اليه على الشاطئ الشمالي وكنت قادما للتو من بغداد
حيث كانت الأمم المتحدة قد انتدبتني فرأيته يستجوبني كضابط شرطة عن أحوال العراق
إلى أن علمت بعدها أنه باح بعدد من أفكاري في مقابلة تليفزيونية، لاسيما عن تقييمي
لعدد من الشخصيات العراقية، ولآية الله السيستاني بالذات، كما تبنّى علنا، وبذكر
المصدر، انتقاداتي العنيفة للممارسات الأمريكية هناك، وكل ذلك وانا ما زلت بعد
بالعراق. وفى مرة أخرى أخبرته عن ضغوط مبارك على الحكومة اللبنانية كي لا ترشحني
لقيادة منظمة اليونسكو، فإذ به يعيد فحوى اللقاء بالأسماء والتفاصيل من على شاشة
«الجزيرة». وفى مرة ثالثة حكى بالتفصيل على شاشة «دريم» قصة لقائنا مع عبدالسلام
جلود ونحن نحتسى الشاي في ردهة فندق بريستول الباريسي وكان لقاء طريفا للغاية،
وذهلت حين بدأ كل أنواع الناس يتصلّون بي من ليبيا لمعرفة المزيد عن ذاك اللقاء
(وليبيا كانت آنذاك في صدارة اهتمام الصحافة). كنت أحرج من ذكر اسمى كمصدر لهذه
الأخبار او كشاهد عليها والحق أنى كنت أسر أيضا للثقة التي كان يمحضني إياها علنا
وللصفات الإيجابية التي كان يعرفني بها دوما لمشاهديه.
أخطأ هيكل مرارا بإطلاقه أحكاما لم تكن مبنية على أساس معرفي كامل،
وأخطأ في أخرى حين تسلل حبه (وكان غالبا مستجدا) للبعض، وكرهه (وكان في الإجمال
مقيما من ازمنة بعيدة) لآخرين، إلى صلب تحليله. لكنه كان دوما حريصا على ثلاثة:
منطق عقلاني شديد العلمانية يتجنب الأيديولوجيا، وتنسيق موفق بين الجذور المصرية
الغارقة في بلاد المعز وهمٌ عربي منفتح (جعله يتفاخر مرارا باختيار جلال الطالباني
له وصيا على أولاده ان أصابه مكروه)، وهوس بالاستقلال الوطني القائم على عدم
الانخراط في لعب الكبار (أذكر مثلا محادثة طويلة أنهيناها بخلاصة أن العرب سيندمون
يوم لا ينفع الندم على وقوفهم مع الغرب وضد حليفتهم روسيا في حرب أفغانستان). كل
ذلك مع تأنى في اختيار المفردات وأناقة في الملبس والمأكل والتعبير والتعامل، بل
أن هوس الأناقة في كل أمور الدنيا حمله لاعتبار مخالفتها تتجاوز الخطأ العرضي
لتصبح خطيئة يصعب غفرانها.
وانتمى هيكل لجيل اعتقد بأن أمور السياسة هي أساسا ملك أصحابها ثم
تحول تدريجا لمبدأ يقول بأن الجمهور أولى بمعرفة بواطن الحكم واسرار الدبلوماسية،
فعمل وسيطا بين صاحب القرار والناس، وبات نموذجا للمثقف العام يؤرخ، ويفسر، ويعلل،
فيصيب مرارا ويخطئ أحيانا لكنه لا يفقد انتباه الناس أبدا. وكان معياره التفريق
بين أصحاب الإرادة وكان منحازا لهم، ودعاة التسيب والتسليم، وكان قاسيا في
تناولهم، فتحول هكذا أيضا وسيطا بين الأجيال ينقل لأبناء اليوم بعض مآثر رجال
الأمس، تاركا لهم مهمة المقارنة والتفضيل.
وكانت
حرب 1967 جرحه الأعمق الذى بقى دون بلسم. لم يكن راضيا عن أي تعامل معها يبتعد ولو
قليلا عن مبدأ محو آثار العدوان. وكان يقيس مواقفه من هذا وذاك على معيار اسهامه
المحتمل في ختم ذلك الجرح. اهتم بإيران أساسا من هذا الباب، وبالزعماء الفلسطينيين
والعرب منه أيضا، وكأن السياسة الدارجة هي للتسلية والفضول، اما الأساس فهو تعديل،
كان يخشى تلاشى احتماله، في المعادلة الموجعة التي نشأت صباح أحد أيام يونيو. كان
يريد لعبدالناصر ان يعيش ليكسر تلك المعادلة، ورحل هيكل بعده بعقود وغصة ثباتها لا
تغادره.