الخميس 5 سبتمبر 2024

سميرة موسى شهيدة الوطنية المصرية

فن15-10-2020 | 13:09

استيقظت الطفلة النابغة سميرة موسى، ذات العاشرة، ربيعاً يوم 23 أغسطس عام 1927 ،على صوت دبيب أقدام كثيرة خارج الدار..  هرولت مسرعة إلى الخارج، أبصرت جموعاً من رجال قريتها  سنبو الكبرى - بندر زفتى - محافظة الغربيةعلى غير عادتهم، يسودهم الصمت الحزين، فقد كانت تألفهم يجتمعون فى فناء الجُرن الفسيح المواجه لصحن الدار، وأريكة والدها تتوسط الدائرة، يتسامرون ويتشاورون فيما بينهم من موضوعات..  ويتناقلون الأخبارالسياسية والاقتصادية والاجتماعيةبالإضافة إلى هموم الفلاحين..  وغير ذلك.

لكنها اليوم.. أبصرت والدها يجلس على أريكته وحوله الكثير من رجال القرية والقرى المجاورة.. لا حديث لهم.. ولا صوت يخرج من بينهم سوى صوت نحيب خافت متقطع..  اتجهت إليه.. وعندما اقتربت منه وجدته ولأول مرة.. تتساقط الدموع من عينيه تنهمر على خديه، وبطفولة بريئة..  مدت يدها الصغيرة تمسح الدموع..  ثم نظرت إلى من حوله من الرجال.. وجدتهم مثل حال أبيها، انتابها الفزع..  فأجهشت هى الأخرى بالبكاء.

أقبل أحد الرجال ومعه صحيفة .. تابعه الجميع بأعينهم حتى وصل إلى الحاج موسى على أبوسليمة.. وأعطاه الصحيفة.. ودون أن ينظر فيها أعطاها لسميرة، وطلب منها أن تقرأها بصوت مسموع،أمسكتها.. ونظرت إليها، فإذا بالصحيفة على غير صورتها التى كانت تقرأها لوالدها وأصحابه،مانشيت كبير أسودينعى الزعيم العظيمسعد زغلولابن قرية إبيانه مركز فوه بمديرية الغربية آنذاك أقصدابن مصر كلها”.

جلست الصغيرة تقرأ على الفلاحين.. صفحات الجريدة.. صفحة.. صفحة، بلغة عربية صحيحة.. ومع أول القادمين.. كانت سميرة قد أتمت قراءة الصفحات كلهاورغم أن من بين هؤلاء الرجال من يعرف القراءة، لكنهم فى هذه اللحظة غير قادرين على القراءة.. من فرط هزتهم العميقة على رحيلزعيم الفلاحين”.

توالى وصول الوفود من الفلاحين، لمعرفة حقيقة الخبر من خلال الصحف وكانت سميرة قد حفظت ما كتب فى تلك الصفحات عن ظهر قلب، كانت قد تأثرت بالدموع التى رأتها تتساقط من عيون الجميع.. وكان ذلك وراء صبرها على القراءة حتى ترضيهم وتخفف عنهم.

ومثلما حدث فى الدار.. حدث أيضاً فى المدرسة..  ففى اليوم التالى - ذهبت سميرة إلى المدرسة .. فطلب منها المدرس المسئول عن الإذاعة المدرسية قراءة الجريدة لتوعية التلاميذ.. فقالت له، إنها تحفظ ما كتب فيها، ثم بدأت تتلو عليهم من ذاكرتها كل كلمة كتبت عن وفاة الزعيم الراحل، وعندما عادت من المدرسة جلست مع والدها وأصحابه تستمع منهم إلى حكاية الزعيم ورفاقه وثورة 1919 وأسبابها ونتائجها.

وكانت بداية الحديث.. عن بندر زفتى وما قام به الشقيقان عوض ويوسف الجندى من تأسيس أول جمهورية فى تاريخ مصر وهىجمهورية زفتيوالحدث الجلل الذى أشعل مصابيح التنوير، وبعث الروح الوطنية وغرس بذور الانتماء وحب الوطن والكفاح من أجل النهوض به فى شتى المجالات.

وامتد الحديث عن بيت الزعيم سعد زغلول فى قرية مسجد وصيف المجاورة والذى أصبح فيما بعد مستشفى لمعالجة أبناء القرى المجاورة من مرض البلهارسيا الفتاك، وكذلك محطة قطار البلدة التى تذهب إليها للسفر إلى البندر اسمهامحطة سعد زغلول باشافإذا كان للزعيم بصمات واضحة وجلية على الأمة كلها، فإنها أكثر وضوحاً فى بندر زفتى خاصة.

وعن أسباب قيام الثورة فكثير منها السياسية، فالقطر المصرى مستعمر من الإنجليز والسلطة الحاكمة ملكية عاجزة عن فعل أى شىء، أو بمعنى أدق كل حرصها المحافظة على الملك، والاقتصادية.. فى أسوأ حالتها.. فقر وتخلف.. والاجتماعية.. تعمها السخرة والبطش والتنكيل وعدم الاستقرار.

فالمستعمر الغاشم حريص دائماً على غرس بذور الثالوث المدمر لأى أمة متمثلاً فىالفقر والجهل والمرضفى الريف.. الإقطاعى يسيطر على الأرض بمن عليها من زرع وبشر معاً..  فلا قيمة للإنسان المصرى عندهم وفى المدن سيطرة رأس المال..  فالعمال يعملون فى المصانع بأبخس الأجور..  فلا حماية ولا استقرار لهم.. وغير ذلك.

وأى ثورة تسبقها إرهاصات..  وإرهاصات ثورة  1919م تبدأ عندما تولدت الروح الوطنية والمخاض الوطنى والثورى يظهر ويتجلى لرفض الظلم والاستبداد، ونداءات التحرر ارتفعت مع بزوغ نجم الزعيم الوطنى مصطفى كامل.. ابن محافظة الغربية أيضاًقرية كتامه بندر بسيون كتب المقالات الثائرة وأسس جماعة أدبية وطنية.. يخطب من خلالها.. وأتقن اللغة الفرنسية.. والتحق بجمعيتين وطنيتين، وأسس الحزب الوطنى، وصاحب فكرة إنشاء الجامعة المصرية.. وتوالت خطواته على طريق النضال..  وسافر إلى باريس يعرض قضية مصر.. وحقها فى الاستقلال وشاركه فى أفكاره كثير من رجال مصر الأوفياء مثل سعد زغلول وقاسم أمين وغيرهم.. وهو صاحب القول المأثور:

لو لم أكن مصرياً  لوددت أن أكون مصرياً.. وغير ذلك.. فهو مشعل شرارة الوطنية والروح الثورية.. ومن بعده جاء تلميذه محمد فريد..  سار على ذات الدرب وحمل مشعل الحرية..  وطالب برحيل المستعمر وإنهاء الحماية الأجنبية ووضع صيغة للدستور من خلال جمع عشرات الآلاف من التوقيعات..  ونجحت حملته وذهب إلى القصر ليسلم أول دفعة منها.. وكان قد كتب مقدمة لديوان شعر ندد فيها بالأصوات التى خفتت وخطب الجمعة فى المساجد التي تدعو إلى التكاسل والتواكل..  وكثف حركة الشارع الوطنية والثورية وأسس حركة النقابات العمالية، وطالب الوزارة بالاستقالة، وحثهم على عدم قبول أى وزارة فى ظل الاحتلال.. وعلم بنية المحتل الغدر به فسافر إلى الخارج..  وتقل صوت المطالبة بالاستقلال خارجاً ولكن وافته المنية بالخارج.

كانت الحرب العالمية الأولى..  بين ألمانيا من جهة وإنجلترا والحلفاء من جهة أخرى..  والتزمت مصر جانب الحياد فى حين أن تركيا دخلت الحرب ضد إنجلترا..  فأصيب المستعمر بالجنون..  فأعلن الأحكام العرفية، واستخدم كل أشكال القمع والتنكيل بالخديوِ ذاته، فخلعه وتولى حسين كامل العرش، وتولى حسين رشدى الوزارة، وألغيت وزارة الخارجية تبعاً لنظام الحماية.. وبذلك تم إلغاء الهُوية المصرية.

تولت السلطة العرفية حكم البلاد..  واضطهدت الحزب الوطنى وطاردت أعضاءه.. والمتعاطفين معه..  واعتقلت الكثير منهم..  واتخذت إنجلترا من مصر قاعدة حربية لحلفائها..  بدأت تخطف الفلاحين والعمال وتقذف بهم فى آتون الحرب بجانب الجيش الإنجليزى..  واستولت على محصول القطن بأبخس الأثمان وفرضت على الفلاحين والمصانع زراعة وصناعة كل ما يحتاجه الإنجليز فى الحرب وسرّحت الكثير من الموظفين.. فعمّ الغضب كل فئات الشعب المصرى..

وفى صباح يوم 8 مارس 1919.. بدأ طلبة المدارس الثانوية والأزهرية والجامعة يطوفون بشوارع القاهرة بمظاهرات سلمية تندد بالاحتلال، هتافاتهم جلجلت أركانه، تطالب بالاستقلال التام، وجلاء المستعمر، وإلغاء الحماية البريطانية عن مصر.

استمرت المظاهرات..  وتصدى لها المحتل بكل قوة غاشمة من عنف، وغطرسة، فانضم لها كل فئات الشعب المصرى بعد ذلك.. الفلاحون خلعوا قضبان السكك الحديدية، وحفروا الحفر العميقة فى الطرق التى تسير عليها العربات الحربية، وهجموا على القطارات والعربات الحربية، واستولوا على ما فيها من مؤن وذخيرة..

بدأ الوفد المصرى يتكون، واختاروا ثلاثة منهم وهم سعد زغلول وعلى شعراوى وعبدالعزيز فهمى، لمقابلة المندوب السامى البريطانى من أجل السماح لهم بالسفر إلى إنجلترا للحوار مع الحكومة البريطانية للمطالبة باستقلال مصر.

رفض الطلب.. وحذرهم الكومندان، بمنع أى نشاط ضد الحماية الإنجليزية وهددهم..  لم يستجب الوفد..  فألقى القبض عليهم وتم نفيهم إلى جزيرة مالطا.. ولما زادت حدة الثورة..  أعلن وودرو ويلسون الرئيس الأمريكى المبادئ الاثني عشر بعد انتهاء الحرب بانتصار إنجلترا والحلفاء..  وكان من بين هذه المبادئ  حق تقرير مصير الشعوب المستعمرة”.

اضطرت بريطانيا للإفراج عن سعد زغلول ورفاقه والسماح لهم بالسفر إلى فرنسا لحضور مؤتمر الصلح،لكن فكر المحتل ودهاءه لم بنتهيا يعد، نظمت إنجلترا أوراقها..  فرفضت سماع مطالب الوفد المصرى..  بل تأكيد الحماية البريطانية على مصر.

عاد سعد زغلول ورفاقه،وواصلوا الكفاح ضد الاستعمار، فتعرضوا للنفى مرة أخرى..  ولكن إلى جزيرة سيلانسريلانكاحالياً ثم إلى جزيرة سيشل.

استمر المجال دائراً بين القوى الوطنية من جهة والاستعمار وأعوانه من جهة أخرى..  حتى انتصرت الإرادة الشعبية وخرج دستور 1923 إلى الفور وتولى سعد زغلول رئاسة الوزارة.

نعود إلى شهر مارس الذى جمع ميلاد ثورة 1919 مع ميلاد طفلتنا النابغة..  المولودة 3 مارس 1917.. ترى من تكون تلك الطفلة وكيف أصبحت بعد نشأتها فى ظل هذه الروح الوطنية،إنها عالمة الذرة المصرية الدكتورة سميرة موسى.. التى تأثرت وشربت من معين الوطنية..  فعندما واتتها الفرصة شاركت فيها وهى طالبة فى ثورة الطلبة عام 1932 ضد اللورد البريطانىصموئيلاحتجاجاً على تصريحاته المستفزة،وساهمت فى مشروع القرش لإقامة مصنع محلى للطرابيش مع أستاذها عالم الذرة الجليل الدكتور مصطفى مشرفة.

وأسست "موسى" هيئة الطاقة الذرية المصرية بعد 3 أشهر فقط من إعلان إسرائيل عام 1948. ،نظمت مؤتمراً دولياً بعنوانالذرة من أجل السلامأعدته إعدادًا جيداً فى كلية العلوم بالجامعة المصرية، وحرصت على حضور عدد كبير من علماء العالم، وقدمت فيه أبحاثها التى توصلت فيها إلى معادلة علمية لم تكن تلقى قبولاً عند العالم الغربى.

وتركت سميرة موسى مقالات مهمة عن الطاقة الذرية وأثرها وطرق الوقاية منها، وتحدثت عن الانشطار النووى وآثاره المدمرة، وخواص الأشعة،والتحقت بالعديد من اللجان العلمية المصرية، وتبرعت بمكتبتها التى تحوى العديد من الكتب العلمية والأدبية والتاريخية والسير الذاتية لكبار الشخصيات، وغير ذلك لمركز البحوث القومى.

ومن فرط حبها لوطنها وإخلاصها له..  رفضت كل المغريات التى عرضت عليها فى أمريكا..  وكانت قد أرسلت لوالدها خطاباً تخبره فيه يرفضها كل المغريات، وأنها عازمة على العودة للوطن لخدمته وبناء تعامل على نفقتهاالخاصة - وحددت ميعادًا لعودتها”.

فقبل عودتها بيوم واحد دعتها وكالة ناسا لزيارتها.. وخصصت لها سيارة بسائق كنوع من التكريم لها.. وأثناء ذهابها.. فوجئت بسيارة نقل ثقيل تخرج من بين الجبل قطعت عليها طريقها..  وقفز السائق فقفزتها السيارة من فوق طريق الجبل فلقيت مصرعها فى حادث أليم لا يزال غامضاً حتى الآن.

وهكذا دفعت الطفلة سميرة موسى .. أقصد عالمتنا الجليلة حياتها ثمناً لحبها لوطنها الغالى.. الذى يستحق منا بذل كل غال ونفيس.