الأربعاء 26 يونيو 2024

سيرة الطعام في السرد العربي.. من «ألف ليلة وليلة» إلى« استقالة ملك الموت»

تحقيقات15-10-2020 | 20:35

 

الاحتفاء بالطعام وتوظيفه في الأدب ليس مجرد هامش في العمل، بل غالبًا ما يطرح أسئلته الحياتية. وهناك أعمال إبداعية عالمية احتفت بالطعام، وجعلت منه جزءًا أصيلًا في العمل، مثل رواية "الذوَّاقة" للروائي الصيني لو وين فو، ترجمة يارا المصري، ورواية "طعام..صلاة ..وحب" للكاتبة إليزابيث جيلبرت. وبالطبع لا يمكن لنا أن ننسى أجمل ما وصلنا من تراثنا الكوني "ألف ليلة وليلة"، بكل ما فيها من احتفاء بالطعام. وفي معظم كتب مصادر الأدب توجد أبواب وفصول عن الطعام، بل إنّ هناك شاعرًا ساخرًا اسمه عامر الأنبوطي له ألفية في الأكل والطعام يقلد فيها ألفية ابن مالك في النحو.


صحيحٌ أن سيرة الطعام في الإبداع العربي غريبة بعض الشيء، لكن ثمة احتفاء بالطعام، ليس لمجرد كونه طعامًا فحسب، بل لكل ما يحمله من إشارات تاريخية وجغرافيه وثقافية تشغل الكاتب العربي. وفي هذا التحقيق نحاول رصد سيرة الطعام في السرد العربي عبر شهادات ورؤى.


يشير الكاتب الصحفي سيد محمود إلى مفارقة مدهشة، هي أن المكتبة الأدبية المعاصرة تكاد تخلو من كتاب عن الطعام، لولا كتاب "وداعًا للطواجن" للكاتب الساخر محمود السعدني، على الرغم من غنى التراث العربي بهذه النوعية من المؤلفات التي ترتبط بما يُسمى "آداب الطعام". لكن يبدو أن هذا الحضور تراجع في السرد الروائي المعاصر، اللهم إلَّا في بعض النصوص الروائية أو السير الذاتية، ومن هذه النماذج التي حضرت فيها سيرة الطعام رواية "الأيام" لطه حسين، ففي بعض المواضع يشكو البطل من نوعية الطعام لشدة فقره وحاجته، وفي مواضع أخرى يركز على خجله من تناوله بين جماعة بحكم إصابته بالعمى. ولدى نجيب محفوظ يقترن حضور الطعام بتعزيز الألفة أحيانًا، وفي أحيان أخرى يأتي مرافقًا لجلسات تعاطي الحشيش، أو في الجانب الإيروتيكي المرتبط بالجنس، كما في "الحرافيش" بكافة حكاياتها، أو في "ثرثرة فوق النيل"، وبعض مشاهد من رواية "خان الخليلي" .


لفت الكاتب الصحفي سيد محمود إلى أن الكتابة عن الطعام احتلت مساحة في أدب جيل الستينيات، نموذجا لذلك منجز خيري شلبي، الذي ركز بالأساس على نقل مشاهد من الريف المصري، وإعادة تخييلها بشكل مبدع يحررها من الطابع التوثيقي، فامتلأت كتاباته بمشاهد الطعام كما في "الوتد" أو كتاب "الأمالي" بمختلف أجزائه، وذلك بحكم اعتناء شلبي بقوة حضور العائلة. وكذلك اعتنى أيضًا يوسف أبو ريّة بهذا الجانب في كتاباته خاصة "ليلة عرس"، وهي فريدة بحكم أنه منح بطولتها لصبي جزار.


وفي الرواية تحتل مشاهد الطعام مساحة مهمة. وبالطبع قرأ معظم روائيينا العرب أعمال إيزابيل الليندي، وخاصة "أفردويت" التي تولي الطعام اهتمامًا خاصًّا، بحيث ترتبط وصفات الطعام بنسيج الحياة اليومية، لكن المثير أننا لا نجد تعزيزًا لهذا الجانب في روايات المعاصرين.



الطعام بطلًا روائيًّا 


تقول الكاتبة ضُحى عاصي: أعتقد أن الطعام - في حد ذاته - يصلح بطلًا في نص روائي إذا ما أراد الروائي ذلك، ولكن في الأعم والأغلب يتم التطرق إلى ذكر الطعام والأكلات لمدلولاتها الكثيرة، بداية من المناخ والبيئة الجغرافية إلى الطبقة الاجتماعية، بالإضافة إلى السلوكيات الشخصية والديانة والعلاقة بالعالم. فإذا أخذت مثلًا من كتاباتي على استخدام الطعام وتوظيفه فسنجده في أحد المقاطع على لسان الكاهن القبطي الذي ترك مصر ورحل مع الحمله الفرنسية إلى فرنسا، في رواية "غيوم فرنسية" الصادرة مؤخرًا عن دار ابن رشد، وهنا يوضح الطعام البعد الروحي والطقسي لرجال الدين الأقباط.


يقول الكاهن القبطي: لم يكن أمامي بهذا الأجر الزهيد إلَّا أن أسكن في سان أنطوان. لم أكن أعرف آنذاك أنني سوف أعيش في شارع سكانه معروفون بأنهم دهماء الثورة الذين أطاحوا برأس حارس الباستيل، ولكني شعر3ت براحه شديدة؛ فعندي الآن مكان أستطيع أن أقيم فيه القداس لشعب الكنيسة القبطية، وشكرت الله على نعمة أن تكون راهبًا قبطيًّا يكفيك من الطعام خبز وقليل من الملح. 


وفي "غيوم فرنسية" أيضًا نجد نصًّا على لسان الفرنسية "جين فلوري"، التي كانت جارية في أحد بيوت المماليك، وبعد أن رحلت مع الحملة تكتشف قسوة الحياة. وتم توظيف الطعام لكشف مدى صعوبة الحياة في هذا الوقت في فرنسا، فتقول عن واقعها الجديد في فرنسا: الوضع هنا شديد السوء .. كان ما تبقى لفرانسواز لا يكفي لإطعامنا جميعًا .. كان الطعام فقيرًا، وفي كثير من الأحيان غير كافٍ .. كان طعامنا على النحو التالى: الخبز والحساء عدة مرات في اليوم؛ لأن اللحوم باهظة الثمن، حساء مع الأعشاب، حساء مع الجزر، حساء مع البصل والزيت.


مثلًا في رواية 104 القاهرة نجد مقطعًا عن زيارة الأضرحة والموالد مثل الحسين والسيدة زينب، وهنا يشرح الطعام جزءًا من الطقس الشعبي.

"شي لله يا ست يا طاهرة، نقيد الشمع ونبل الفول ونوفي الندر"وفي نفس الرواية 104 القاهرة نجد مقطعًا كاملًا عن الأكلات الأرمينية، حيث يتم من خلاله توضيح الفروق الثقافية بين الأسرة المصرية والأسرة الأرمينية.


تعوَّدت انشراح على مذاق أكلاتهم الغريبة، مثل المهلبية بالفراخ ومحشي ورق العنب بدون أرز واليارشيج.


قد تبدو هذه الأمثلة جُمَلًا قصيرةً في عمل أدبي كبير، ولكنها تُستخدم لرسم الشخصيات وتعميق واقعهم وثقافتهم وظروفهم الاجتماعية. وفي الحقيقة تحتاج لبعض الجهد للتأكد من المعلومات عنها، لا سِيَّما إذا كانت رواية تاريخية أو أبطالها من جنسيات أخرى، فقد تختلف طبيعة الطعام أحيانًا بين القرية والمدينة والشمال والجنوب، وكلها تفاصيل صغيرة ولكنها مُهِمَّة تخدم النص بشكل كبير.


الطعام .. نعمة وقُربى وصلاة 


في روايتها "استقالة ملك الموت"، تذكر الكاتبة الصحفية والروائية صفاء النجار أنها كانت بمثابة معرفة أنواع جديدة من الطعام لا يعرفها الفقراء في البلدة، تعبيرًا عن الصعود الاجتماعي والاقتصادي للشخصية الرئيسة في الرواية. فالشابة التي نشأت لأب يعمل "تُرَبِيًّا" في المدافن، ليس لديهم القدرة على خبز كحك العيد، ولم يكن لهم كحكهم الخاص الذي يحمل رائحة أو نَفَس أمها، بل خليط مما يبعثه أهل القرية إليهم. وبعد زواجها من "البيه" صار تجهيز الكحك طقسًا تحرص عليه وتمارسه كشعيرة تفدي بها عقدها القديمة.


وبمرور الوقت، وبعدما ترسخت مكانتها في السراي الكبيرة، تحوَّل تحضير الطعام إلى طقس محبة وتقارب، وهي تجهز الأطعمة المختلفة التي أحبها ابنها الراحل، وتحرص على إيصال هذه الأطعمة للفقراء مودةً وصدقةً على روحه. وعندما تعبر "حسنة الفقي" عن تغير الأحوال والمجتمع في أواخر أيامها نجدها تقول: طعم السمك تغير.


"كعك العيد ضمن أشياء كثيرة لم تكن ببيتنا، كل عائلة ترسل طبقًا أو اثنين، فتجتمع لدينا أشكال وأنواع عديدة. فهل يمكن للبنت التي كانت أهم سماتها أنها متفهمة، أن تطلب من أمها كعكًا له نكهتهم ودقيقهم وسمنهم ونقوشهم ورائحة أمها؟ لم يكن لها أن تتذمر، وهي تعرف أن تكاليفه يمكن أن توفر لأبيها ثمن "كيلة" قمح أو أكثر. وجاء اليوم الذي أصبح لها كعكها، أول عيد يمر بعد زواجها، اشترت كل أنواع النقوش، وظلت لسنوات طويلة تتفنَّن في عمله وتحشوه بالملبن والعجمية. كانت أول من قرأت عن "المعمول"، وقدمته لضيفاتها والمهنئات بالعيد، وكل واحدة تسألها عن الوصفة"..


ترى الكاتبة الروائية رشا سمير أن اللجوء للكتابة عن الطعام في الرواية التاريخية من أهم عناصر السرد وأكثرها قُدرة على إقناع القارئ بالعمل. فمن خلال وصفك الدقيق لشكل وأنواع الأطعمة والأماكن تستطيع أن تدفع القارئ ليعيش تفاصيل الرواية وكأنك سبقته إليها.


وتلفت إلى أن روايتها "جواري العشق" – كنموذج - حَرَّضَتْها على البحث في كتب التاريخ المملوكي والروايات القديمة عن عادات المماليك وملابسهم وأسواقهم، وبالقطع نوعية الطعام والخبز والفاكهة التي تميز بها العصر المملوكي، وهو ما أخذ مني أشهر عديدة في البحث.


ومن رواية جواري العشق، في احتفال بقدوم مولود لأحد سلاطين الرواية، يتلخص الاحتفال بوصف الطعام في تلك الكلمات: تم وضع الختمة، واللوح، والقلم، ورغيف الخبز، وقطعة من السكر، بجانب قُفَّة من المكسرات عند رأس المولود. ثم أمرهم السلطان بعمل رغيف كبير، أو أبلوجة من السكر توسطت المائدة، بجوار طبق كبير من الفاكهة بجانب الزلابية والعصيدة.


أما رواية "سألقاك هناك" فكانت التحدي الأكبر، لأنني لم أذهب إلى أصفهان، ولكني عشت تفاصيلها وملامحها من خلال أفلام وثائقية وكُتب وأعمال روائية. والمؤكد أن الطعام كان حاضرًا بجلاء في كثير من مناطق الرواية، وتم تضفيره بحيث يصبح جزءًا من الرواية وليس مُقحمًا عليها، ومنها - على سبيل المثال - الطعام الذي يتناولونه في عيد النيروز، وبعض الأطعمة الخاصة التي تحُل كضيف أساسي على المائدة في حفلات الزفاف وفي السبوع للاحتفال بالوليد. 


من رواية "سألقاك هناك" في وصف لسُفرة العُرس التقليدي - أو ما يسمونه في إيران "سُفرة أغد" - كتبت بعد بحث طويل: وبحسب التقاليد المعتادة وُضِعَ في منتصف المائدة مُصْحَفٌ كبيرٌ حتى تحل البركة بالعُرس، ومجموعة من الأطباق، أحدها فخار وبه سبعة أعشاب وتوابل بسبعة ألوان لطرد عين الحسود والأرواح الشريرة، وثانيها طبق من الخبز، مكتوب عليه بالزعفران والكمون "مُبارك". وبالطبع لم تنس سيدات العائلة طبق البيض والمكسرات، الذي توضع به مجموعة من البيضات الملونة وبعض حبات الجوز واللوز والبندق، وهو ما يرمز إلى الخصوبة في حياة العروسين. وكانت سلة الرمان والتفاح هي هدية من والدة رُبى.


في مشهد آخر من مشاهد رواية "سألقاك هناك" يدخل أبطال الرواية إلى أحد المطاعم الإيرانية، ويكون وصف الأطباق الفارسية كالآتي:

دعنا نبدأ بكباب البوتي، وطبق آخر من كباب الكاثي الذي يتم طهوه في التندور، وطبق ثالث من كباب جوجه متبل بالدجاج في البصل المفروم .. ولا تنس أن تأتي أوّلًا بخمسة أطباق من الدیزي قبل الطعام، وأضف لها عصير الليمون والزعفران .. وائتنا أيضا بتشكيلة متنوعة من السلطات، سلطة الزبادي وعصيدة القمح مع بروتين اللحم المتبل أو الخضراوات.

 

التاريخ السري للطعام في القصة القصيرة


 وعن الاحتفاء بالطعام في القصة القصيرة تناول الناقد جمال الطيب قصة "طبلية من السماء" من المجموعة القصصية "حادثة شرف"، تأليف الدكتور يوسف إدريس، وهي نموذج للاحتفاء بالطعام المصري وأطباقه المتنوعة.


"مائدة حالًا! جوز فراخ، وطبق عسل نحل، ورَصَّة عيش ساخن، على شرط عيش ساخن! وأوع تنسى السلطة! وديني، لعادِد لغاية عشرة، وإن ما نزلت المائدة ماني مخلي ولا مبقي."..هكذا هتف الشيخ "علي" وهو ينظر إلى السماء، بعد أن خلع جلبابه وعمامته، مهددًا متوَعِّدًا، ليدور اللغط والتوجس بين أهل القرية الملتفين حوله من أطفال وشباب وعجائز، وتسري الغمغمة بينهم: "الشيخ حيكفر"! ليشرعوا في استرضائه، فمنهم من تعرض عليه طبق "باميه" ليجيبها ساخرًا: "بامية إيه يا بلد كلها قرون"، ويجيئه عرض آخر بوجبة سمك طازج ليكرر رفضه بقوله: "سمك إيه بتاعكو ده؟! اللي قد العقلة يا بلد «صير»! هو ده سمك؟!"، ليصرخ فيهم: "حِلْيِت العزومة دلوقتي؟! ودِيني، مانى ساكت إلَّا أمَّا تيجي المائدة من عند ربنا!". يُهْرَع أهل القرية جادين في تلبية طلبه قبل أن تَحُلّ عليهم لعنة السماء لتأتي على الأخضر واليابس". وأخيرًا وجدوا عند عبد الرحمن رطل لحمة «بتلو» مسلوقًا بحاله، فأحضروه على طبلية، وأحضروا معَه فِجْلًا، وجوزين عيش مرحرح، ومخ بصل، وقالوا للشيخ علي: يقَضِّيك ده؟".


 هنا نظر الشيخ "علي" إلى السماء وإلى الطبلية وما عليها من طعام، ليصرخ فيهم: طلبت مائدة تأتوني بطبلية؟ ثم يطلب منهم علبة سجائر وفص أفيون وإلّا سيعاود تهديده. وهكذا كلما رأى أهل قرية "منية النصر" الشيخ "علي" يتوسط الجُرن ناظرًا إلى السماء مهددًا، سارعوا لإحضار الطعام.

وفي السياق نفسه تقول الروائية والقاصّة عبير درويش: الطعام يمثل ضرورة في بعض الروايات لإظهار تباين شريحة اجتماعية بعينها، أو إبراز مكامن شخصية العمل الروائي سيكولوجيًّا، وفي أحايين كثيرة يُستعان به في الرواية التاريخية والاجتماعية. وأعتقد أنه ليس بالأمر الهيِّن، لأنه يحتاج الكثير من العمل البحثي، والاستعانة بشواهد تأريخية، كالوثائق والمجلدات وكتب التراث.


وعن تجربتها القصصية التي تناولت فيها الطعام تقول: هناك قصص قامت على الإشارة إلى طعام كمؤشر نفسي مثل قصة "حياة". فيروي السارد عن أرمل مسن، يؤخذ من وحدته الباردة إلى ضجيج الأطفال، والروائح النفاذة للطعام بالمكان، مثل الـ"الثوم والخل" ورائحة اختمار الخبز اللدن الأسمر.. إشارة إلى الحياة ذاتها.


وفي رواية "سماء قريبة من الأرض" استعنت بكثير من القراءات والبحوث التي رصدت لتلك الفترة في مصر، وخاصة في الإسكندرية القديمة (1882)، ونَقَّبْتُ عن حالة المعيشة بعد الغزو الإنجليزي، ومستويات التقشف أو الرغد، وكذلك أنواع الطعام الشائع في الشريحة الاجتماعية الدنيا، خاصة أن البطل والمحيطين به من الطبقة المهمشة غير المرئية. ففي مشهد هروبه في محيط بحيرة "الحدراء" في أراضي "الخواجة سموحة" لم يكن يتوفر له إلَّا أن يتناول وجبة "قراميط"، وفي مشهد آخر سابق يروي أنه تناول الخُبيزة النابتة على حواف "ترعة الفرخة". وهنا إشارتان: الأولى"أنثروبولوجية" نظرًا إلى الطبقة المجتمعية، والثانية "جغرافية" لأن الترعة تم ردمها وأصبحت شارعًا رئيسيًّا يربط الأحياء وهو شارع "قناة السويس" بحي محرم بك.


وهناك مشهد للأسرة في فترة الحكم الفعلي للإنجليز، والحكم الظاهري للملك "فؤاد الأول"، يشير إلى استياء الزوج من شيوع "الخمر" ومقبلاته. ومشهد ثانٍ تتفاخر فيه الزوجة بأن ابنها يأتي لها بالبطيخ و"براغيت الست".


نشر التحقيق بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020

    الاكثر قراءة