بقلم شادى عبد الحافظ
أثناء كتابة هذه الكلمات، كان العالم على وشك تسجيل مليون إصابة مؤكدة بفيروس كورونا المستجد، الذي تسبب فيما بات يُعرف الآن باسم "كوفيد-19". أمّا إذا تأمّلنا العدد اليومي للإصابات بهذا المرض فلا ريب أننا سنُصاب بخيبة أمل، إذْ يبدو أنها ستتصاعد - بلا توقف - خلال فترة ليست بالقصيرة.
بشكل أو بآخر، تنتظر الإنسانية معجزةً ما لكي تخرج من هذا الكابوس. وإلى أن تحدث هذه المعجزة سيستمر الإقبال الهائل على مصادر المعرفة التي تتحدث عن طرق العدوى، وقدرات الفيروس على التفشي، وكيفية تجنبه عبر العزل الاجتماعي، أو استخدام أدوات التطهير بأنواعها. وسوف يتغيّر المجتمع البشري لا محالة، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والحرب والسلام. وكل شيء آخر سيدخل عصرًا جديدًا، لكنها ليست أول مرة يحدث فيها ذلك.
أسلحة وجراثيم وفولاذ
لكي نفهم هذه الفكرة سوف نبدأ من جاريد دايموند، الكاتب والعالم أمريكي الجنسية واسع الشهرة، والذي غيّر من وجهة نظر الكثيرين عن طبيعة جريان التاريخ، والفوارق بين المنتصر والمنهزم. ففي كتابه "أسلحة وجراثيم وفولاذ" يقرر أن الطبيعة البيئية المحيطة بهؤلاء الذين عاشوا قبل أكثر من عشرة آلاف سنة في منطقة الهلال الخصيب، كانت السبب في كل ما نعرفه اليوم.
الجراثيم بشكل خاص كانت هي الشُّغل الشَّاغل لدايموند، فهو يرى - على سبيل المثال - أنها كانت أحد أهم الأسباب في فناء الغالبية العظمى من شعب الإنكا، أكثر من 20 مليون شخص. فبجانب السلاح الإسباني المتقدم - مقارنة بهؤلاء الذين لم يعرفوا أي شيء عن الحديد الصلب - انتقلت بعض الفيروسات بسهولة من الإسبان إلى سكان أميركا الجنوبية الأصليين، وانطلقت فيهم كالجراد الذي قضي على الأخضر واليابس.
السر في ذلك ببساطة هو أننا - نحن البشر - على مدى تاريخنا الطويل استطعنا استئناس حوالي 15 حيوان، غالبيتها العظمى وُجِدَتْ هنا حولنا، في الهلال الخصيب، وهي المنطقة في الشرق الأوسط التي تنحني (مثل الهلال) وتبدأ من الخليج العربي، عبر العراق، ثم سوريا، ولبنان، والأردن، وفلسطين، وشمال مصر. وعبر آلاف السنين انتقلت خبرات الاستئناس تلك إلى المناطق المحيطة بالهلال الخصيب، حتى وصلت إلى أسبانيا غربًا.
خُلاصة القول إن سكان هذه المناطق قد عاشوا، على مدى آلاف السنين، إلى جانب كثير من الحيوانات، بعضها نقل إليهم فيروسات شديدة العدوى تسببت قديمًا في مقتل الملايين، لكن مع الوقت تكونت لديهم مناعة من تلك الأمراض وبقيت ساكنة فيهم مع الزمن. لكن الأمر يختلف مع سكان قارة أميركا الجنوبية الذين لم يتمكنوا إلَّا من استئناس اللاما فقط، وهو يختلف كثيرًا عن الأبقار مثلا أو الخيل أو الجمال أو غيرها، حيث لم يكن يعيش في محيط السكان هناك، ولم يستخدموه كأداة جر أو سفر.
في كتابه، يشرح دايموند تاريخ البشر من منطلق قاعدة رئيسية تقول إننا كنا، منذ البداية، أبناء الجغرافيا الخاصة بنا، تلك التي تتسبب في طرق عيش محددة، وهي بدورها التي أنتجت - فيما بعد - السلاح والجراثيم والفولاذ، هذا الثلاثي الذي حكم العالم. يبدأ الكتاب بسؤال عن السبب في تَخَلُّف سكان بابوا غينيا الجديدة عن العالم، ثم ينتقل إلى غزو الأوروبيين للأمريكتين، ثم ما حصل في أفريقيا بدءًا من جنوبها صعودًا لأعلاها.
تاريخ الاستعمار مع المرض
في الواقع، هناك كتاب آخر يركز على الفكرة الخاصة تحديدًا، إذْ يسرد تاريخ مجموعة من أكثر الأوبئة العالمية خطورة، مثل الطاعون والجذام والجدري والحمى الصفراء، بداية من العام 1347 ووصولا إلى 1928، وهو "الأوبئة والتاريخ - المرض والقوة الإمبريالية"، الكتاب صدر مُترجمًا عن المركز القومي للترجمة عام 2010.
في هذا الكتاب، يشير المؤلف، شيلدون واتس، إلى بعض السياقات السياسية والاجتماعية الهامة المحيطة بتلك الأوبئة، والتي توضح أن علاقة الإمبريالية بانتشار الأوبئة في أماكن لم تكن موجودة بها من قبل كانت معقدة، وأن الطب - كغيره من الأشياء - استخدم كإحدى أدوات دمج وتأسيس الأفكار الإمبريالية في آسيا وأفريقيا والأمريكتين.
على مدى فصول الكتاب السبعة، التي يتحدث كل منها عن مرض بعينه، يمكن أن نتبين بسهولة أن الطب الغربي كله، وليس الجزء الخاص بالأوبئة فقط، لم يكن أكثر من أداة ضغط على الشعوب المُسْتَعْمَرَة. فالمشروع الاستعماري - في جوهره وأساسه - كان قائمًا على تلك الفلسفة السريعة والحاسمة، ومن ثَمَّ فإن الاستعمار هو أساسًا من جلب الوباء.
هذه النقطة يمكن أن نلاحظها بشكل أكثر وضوحًا في كتاب آخر، تُرجم إلى العربية قبل حوالي العقدين من الزمان تحت عنوان "الطب الإمبريالي والمجتمعات المحلية"، عبر سلسلة عالم المعرفة الكويتية، من تحرير الأستاذ بقسم التاريخ في جامعة لانكستر، دايفد أرنولد، حيث يشير في جنباته إلى أن الإنجازات الطبية المزعومة للاستعمار لم تكن سوى حبر على ورق.
يهدف الكتاب إلى استكشاف الأهداف الرئيسة للطب الغربي الإمبريالي، والتي لم تكن قَطُّ عقلانية أو إنسانية. وخلال رحلة طويلة تمتد من الكونجو إلى جزر الفلبين إلى العالم العربي يمكن أن نتبين أن الجذور الأساسية للممارسات الوبائية المعاصرة كانت يومًا ما فرصة لإنقاذ المستعمر نفسه وليس لأهل المستعمرات.
التغير قادم
أما روبرت جوترفيلد، في كتابه "الموت الأسود.. جائحة طبيعية وبشرية في عالم العصور الوسطى"، والصادر أيضًا مُترجما عن المركز القومي للترجمة، فيترك التغيرات السياسية المصاحبة للوباء جانبًا، ويحدثنا عن نطاقات متنوعة - بيولوجية وطبية وأدبية وفنية واجتماعية وفلسفية - تمكن من خلالها الطاعون أن يجتاح أنحاء أوروبا بين عامي 1347 و1352 ويتسبب في موت ما لا يقل عن ثلث سكان القارة آنذاك.
في هذا الكتاب، الذي يتتبع تاريخ هذه الكارثة العالمية بطريقة شائقة، يصل الكاتب، روبرت جوتفريد، في النهاية إلى استنتاج يقول إن الموت الأسود - على قسوته - كان سببا في انتقال أوروبا من عصور وسطى راكدة إلى مجتمع حديث. لكن السؤال المطروح هو: إذا كانت كانت كل الأوبئة الوخيمة سببًا مباشرًا في تقدم البشر، أو تقدم الطب في عمومه، فلماذا لم نتعلم من أقرب الأوبئة لنا؟!
تطرح لورا سبيني هذا السؤال في كتابها "Pale Rider: The Spanish Flu of 1918 and How It Changed the World"، والذي تجمع فيه المعارف العلمية والتاريخية والسياسية عن وباء الإنفلوانزا الإسبانية التي قتلت من 50 إلى 100 مليون شخص في العام 1918، حين لم يكن أحد يعرف أي شيء عن الفيروسات من الأساس.
لفهم المقصود من تلك النقطة سنقتبس من سبيني قولها: "حينما يُسأل أحدهم عن الكارثة الأكثر فداحة في القرن العشرين، لا أحد يجيب بأنها الإنفلوانزا الإسبانية"، ثم تضيف بعد قليل: "يتذكر الناس الإنفلوانزا الإسبانية بشكل فردي وليس كلّيًّا، أي ليس ككارثة تاريخية وإنما كحكايات فردية مثل ملايين الحكايات التراجيدية الصغيرة".
متى كانت آخر مرة سمعت فيها عن الإنفلوانزا الإسبانية؟. في العالم المعاصر، دائمًا ما نهتم أكثر بالحروب والسياسة والاقتصاد. نعم .. لقد سمعنا عن الإنفلوانزا الإسبانية، لكن ذلك لم يحدث إلَّا حينما ضرب "سارس" SARS الصين في العام 2003، وهو الفيروس المتسبب في المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة. وسمعنا عنها مرة أخرى في العام 2014 حينما ضرب "ميرس" MERS جزيرة العرب، وهو الفيروس المتسبب في متلازمة شبيهة بالسارس، وكلاهما من نفس عائلة كورونا المستجد.
لكن آفتنا هي سرعة النسيان، فنحن لا نستخدم قصص الوباء القديم إلَّا لإضفاء أجواء مثيرة عند حديثنا عن انتشار الأوبئة المستجدة. السياسيون كذلك ينسون، فبعد الـ "سارس" والـ "ميرس" توقف البحث العلمي الخاص بهما، بذريعة عدم الاحتياج للتفكير في المستقبل الخاص بالأوبئة الشبيهة، ولأن اللقاحات ليست مصدر ربح كبير، رغم إجماع العلماء أنه سيقفز إلى عالم البشر - في مرحلةٍ ما - فيروس جديد من نفس الفئة، ولكن أكثر فتكًا. ثم ها نحن أولاء في مواجهة جائحة يقارنها كثير من الباحثين، من حيث الشدة والتفشي، بالإنفلوانزا الإسبانية. الآن فحسب تذكرنا الإنفلوانزا الإسبانية.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020