السبت 18 مايو 2024

سيناء قبلة الأنبياء والرهبان وكاترينا..

فن16-10-2020 | 13:28

سيناء، أو بالأصح شبه جزيرة سيناء هى مكان ذات تراث إنسانى كبير، فقد شهدت حروبا وجيوشا ومعارك تاريخية، وعاش فيها أنبياء ورسل ورهبان ورجال الله ومتصوفة، وهى منطقة طبيعية تتمتع بالجمال ووجود الحيوانات وفى باطنها أنواع متباينة من البترول والمعادن والذهب، وهى تزخر الآن بوجود السياحة العالمية.

كانت سيناء منذ البدء، من أهم مفارق الطرق فى العالم، ففى القرن السادس عشر قبل الميلاد شق قدماء المصريين طريقا باتجاه الغرب وبئر سبع والقدس، وشقوا طريقا أخرى ساحلية طويلة تربط وادى النيل ببلاد ما بين النهرين على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، لكن الرومان والأنباط كانوا يستخدمون طريقا أخرى كانت تشق شبه جزيرة سيناء من الشرق إلى الغرب، وقد سميت فيما بعد"  درب الحج" حيث كانت تستخدم طريقا للحجاج الذاهبين من مصر إلى مكة المكرمة ..

وشبه جزيرة سيناء وصحراؤها هى نقطة التقاء قارتين وخط فاصل بين بحرين، وكثيرا ما كانت توصف بأنها أرض قاحلة لا تصلح لشيء فى البداية وأن أهميتها تقتصر فى أنها باب لأفريقيا وآسيا، وجسر بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، أى أنها أقرب طريق مؤدية من أوروبا إلى الهند والشرق الأقصى.

اسم سيناء مشتق من كلمة "سين" بمعنى إله القمر لأن سكانها القدامى كانوا يعبدون القمر، ويقال إن الكلمة مشتقة من الكلمة السامية "سن"  بمعنى سن الإنسان ذلك أن شكل جبالها شبيهة بتطور سن الإنسان منذ الطفولة إلى الشيخوخة فى مراحلها المختلفة.

 تبلغ مساحة سيناء أربعة وعشرين ألف ميل مربع، وتظهر للمرة الأولى مجرد صحراء مجدبة تكسوها الجبال الصخرية القاحلة، وأرضها غير صالحة للزراعة وأمطارها قليلة، بالإضافة إلى طقسها القارى، أى شديدة الحرارة فى النهار وشديدة البرودة فى الليل، ومع ذلك فإن سيناء ليست بطبيعة واحدة، فالقسم الشمالى منها الممتد من العريش حتى قناة السويس، يشكل مساحات رملية واسعة، شهدت فى الماضى عبور عدة جيوش عظيمة مثل الجيش المصرى القديم الذى عبر ليحتل أرض كنعان وسوريا، ومن الجهة الأخرى غزا الهكسوس والأشوريون والفارسيون واليونانيون والعرب والأتراك سهول النيل الخصبة، وتعتبر منطقة التيه وسط سيناء سلسلة جبال كلسية، أما القسم الجنوبى منها مليء بالحجارة الجرانيتية، ومن أهم جبالها الشديدة الانحدار، جبل سيناء، وجبل القديسة كاترينا، وجبل القديسة إبستمى، وجبل سريال وأم سوماد.

 وتتمثل عظمة هذه الصحراء بجمالها الجذاب البكر، ويسكنها عدد قليل من البدو مع قطعانهم الصغيرة وأحجار البلح وزراعتهم المتواضعة، كما يعيش فيها أيضا رهبان دير القديسة كاترينا هذا باستثناء المدن الساحلية، أما باقى الجزيرة التى لا يعيش فيها بشر فهى موطن للذئاب والضباع والظباء والنسور والماعز البرية، ويوجد فى باطنها أنواع البترول والمعادن الأخرى الكثيرة.

وتراث سيناء الروحى حافل بالأحداث والزيارات، فقد كان سكانها القدامى يعبدون إله القمر والإله الأعلى "الأليون" وهاجر النبي سيدنا موسى من مصر وهو فى الأربعين من عمره، ووصل إلى جبل حوريب، وهناك التقى ببنات، بوثور، السبع عندما كن يسقين قطيعهن من ينبوع الماء، الذى لا يزال موجودا حتى يومنا هذا، فى الجانب الشمالى من كنيسة الدير المركزية، تزوج موسى إحدى بنات، بوثور، وعاش أربعين سنة مع حميه يرعى قطعانه ناذرا نفسه للهدوء والعزلة فى صحراء سيناء، حيث القصة الشهيرة إذ ظهر له الله فى أعجوبة العليقة المشتعلة، التى رآها موسى وهى شجرة خضراء تشتعل النار داخلها دون أن تممسها بأذى وتظل خضرة أوراق الشجرة كما هى ناضرة؛ وقد فسر آباء الكنيسة معجزة شجرة العليقة هذه بأنها رمزا لبشارة السيدة العذراء والدة السيد المسيح التى حملته فى بطنها تسعة أشهر بمعجزة إلهية ولم يقترب منها بشر.

 من خلال معجزة العليقة تكلم الله مع موسى دون أن يراه، وأمره بأن يعود إلى مصر ويأتى بشعب إسرائيل إلى جبل حوريب كى يعبدوه مر شعب إسرائيل فى سيناء فى القرن الخامس عشر قبل الميلاد فى طريقهم إلى أرض كنعان، أرض الميعاد من عبودية مصر، هذا حسب الكتابات المعروفة التقليدية ، وإن كان هذا موضع جدل وخلاف بين العلماء ، استقرت رحلة موسى مع شعبه فى البحر الأحمر، فى عليم، هى الطور حاليا، ومن وادى عبران، الذى اتخذ اسمه نسبة للعبرانيين، اجتازوا صحراء سين فى رفيديا وصلوا إلى جبل حوريب بعد مسيرة خمسة أيام، استلموا الناموس، أى القاعدة من الله الذى دعاهم أن يبنوا تنظيمهم الدينى والاجتماعى، وبعد مرور 600 سنة، جاء نبى عظيم آخر من إسرائيل هو إيليا إلى هذا المكان، للتخلص من الملكة إيزابيل، وداخل كنيسة النبى إيليا فى جبل سيناء المغارة التى عاش فيها واستحق أن يتكلم مع الله.

هكذا كانت سيناء قبلة عشاق الهدوء والتفرغ للعبادة والتقرب إلى الله، والبعد عن ضجيج روما، فتكونت منذ القرن الثالث الميلادى جماعات دينية ورهبان وسكنوا فى أماكن منعزلة هادئة حول جبل حوريب - مكان العليقة المقدسة - ليعيشوا حياة مسيحية طاهرة هادئة . ولم تكن حياة هؤلاء هادئة سالمة كما أرادوا بل كانت هناك منغصات طبيعية من برد وحرارة وثلج، ومنغصات بشرية من اللصوص والغزاة وقطاع الطرق ومع ذلك كان هؤلاء الرهبان والمريدون يعيشون وحدهم فى كهوف فى فقر وحرمان ولا عمل لهم إلا الصلاة والصوم، يجتمعون أيام الآحاد والأعياد فى مكان العليقة المقدس ليستمعوا إلى كلمات رئيسهم الروحية، ويتناولون سر الأفخارستية، سر الشكر والمناولة المقدسة.

 فى سنة 313 م حدث حدثٌ عظيمٌ تاريخيٌ هو صدور أمر الإمبراطور قسطنطين الكبير بحرية الديانات فى أنحاء الإمبراطورية، ففرح الناس واهتم الأباطرة البيزنطيون بالحياة الروحية والرهبنة، وطلب من والدة القديس قسطنطين القديسة هيلانة أن تحميهم فشيدت لهم كنيسة صغيرة فى مكانة العليقة سنة 330 م على اسم القديسة مريم العذراء، كما أقامت برجا كملجأ للمتوحدين، فى القرن السادس الميلادى أمر الإمبراطور يوستينيانوس  565 - 527م ببناء حصن عظيم يحيط بأبنية القديسة هيلانة الكنيسة وصومعة النساك.

بعد موت يوستينيانوس وتشييد الكنيسة  بعشرات السنوات أضاف آباء الدير عملا فنيا شهيدا بأن وضعوا فسيفساء تجلى يسوع المسيح، ومغزى هذا الفسيفساء ظاهر، لاسيما حينما يفكر أحدنا بأن النبيين موسى وإيليا تكلما مع الرب، أثناء التجلى الإلهى، كان قد سمعا صوته واستحقا أن يرياه برموز، منذ الدهور هنا على جبل حوريب . لذلك دعيت الكنيسة فيما بعد بكنيسة تجلى المخلص يسوع المسيح، ومازالت هذه التسمية حتى الآن.

وفى نهاية هذه الفترة أنعم الله على هذا الدير بهدية عظيمة قيمة هى رفات القديسة كاترينا التى كانت على الجبل المسمى باسمها، يقال إن الدير تمتع بحماية المسلمين فى العهد الإسلامى مقابل ضرائب يدفعها، بل يقال أيضا إن محمدا - النبى الكريم - زار الدير أثناء أسفاره التجارية . ويقول ) أفانجلوس بابايو انو(  مؤلف كتاب دير طور سيناء . ترجمة (صليبا خورى وفيليب دحابره ( وهو من إصدار دير طور سيناء، يقول إن زيارة النبى الكريم أمر محتمل لأن القرآن الكريم يذكر الأماكن المقدسة فى سيناء، وهكذا مارس الدير حياته الاعتيادية تحت سلطة العرب عام 641م دون أى إزعاج، لكن عدد الرهبان أخذ يتناقص يوما بعد يوم حتى أصبح ثلاثين راهبا، فى بداية القرن التاسع، أما سبب ذلك فيرجع إلى اعتناق البعض الإسلام وهجرة البعض الآخر من سيناء، ومن الطبيعى ألا يكون ذلك قد حدث طواعية.  وهناك جامع فى هذا المكان له قيمة أثرية بنى فى القرن الحادى عشر تقريبا وهى من الفترات العصيبة التى مر بها الدير.

القديسة كاترينا والدير ..

هناك قديسات كثيرات باسم كاترينا مصريات وأجانب ونحن نتحدث هنا عن كاترينا المصرية صاحبة الدير المعروف.  ولدت عام  194م فى الإسكندرية  لأسرة أرستقراطية وثنية، اسمها الحقيقى "ذوروثيا"  تلقت تعاليمها الأولى فى مدارس ومعاهد ذلك العهد، اشتهرت بذكائها وجمالها وكثرة تأملها واهتمت بدراسة البلاغة والشعر واللغات والفلسفة والمنطق، تقدم الكثير من الشباب للارتباط بها لكنها لم تهتم بالزواج، اعتنقت والدتها المسيحية وأخذت تشجعها على أن تفعل ذلك لكنها اهتمت بقراءة الإنجيل ودراسته والتأمل فى الوثنية، آمنت ذوروثيا بالمسيحية واعترفت بإيمانها أمام الإمبراطور ماكسميانوس فى القرن الرابع الميلادى، وكان عدوا للمسيحين يضطهدهم ويعذبهم وحاول فى البداية أن يجذبها إلى الوثنية ووعدها بأنه سيتزوجها لجمالها وثقافتها، لكنها رفضت ذلك وأصرت على رفضها للوثنية وتمسكها بالمسيحية، فأعطاها فرصة لأن تجرى محاورة ومناقشة بينها وبين خمسين من علمائه وخطبائه من كل أنحاء الإمبراطورية حتى يقنعوها بالوثنية، أجريت المناقشة بين الفتاة القديسة وبين رجال الإمبراطور فى القصر فدخلت بشجاعة وحاورتهم والغريب أنها استطاعت أن تقنع رجال وفلاسفة الإمبراطورية بالمسيحية وتعاليمها الإنسانية وقوة شخصية السيد المسيح وحبه للجميع مما دفع الإمبراطور إلى الجنون والعصبية وتهديدها بالعذاب بل والقتل . وحتى تثبت إيمانها الحقيقى فقد تعمدت حتى تصبح مسيحية فعلا وأصبح اسمها كاترينا أى الإكليل أو كثيرة الأكاليل.

عندما وجد الإمبراطور ماكسميانوس كاترينا تفعل ذلك بل وتهاجمه شخصيا فى حضرته وجها لوجه وتدعوه هو للمسيحية أمر بتعذيبها بل وأكثر من ذلك أمر بقطع رأسها والتمثيل بجسدها وتقسيمه إلى أربع أجزاء ودفن كل جزء فى ناحية .

فعل ذلك بعد أن حاول أكثر من مرة أن يستميلها إليه ويعدها بالزواج منها هددها بالتعذيب وجلدها مدة ثلاث ساعات وسجنها 12 يوما، وأخيرا وجدها متمسكة بالإيمان بالمسيح فأمر بقتلها وقطع رأسها، وبعد ثلاثة قرون رأى أحد رهبان الدير فى نومه رؤية عن القديسة كاترينا إذ رأى رفاتها المقدسة فجمعها فى صندوق رخامى ووضعت فى هيكل كنيسة الدير الذى كان قد أقامه الإمبراطور جوستنيان فى القرن السادس.

 العجيب أن الطيب مازال ينساب من رفات القديسة فينثر فى الجو رائحة جميلة، يهتم المسيحيون فى كل دول العالم بزيادة هذه القديسة وديرها العامر المسمى باسمها، وكان اسمه السابق دير التجلى ومنذ القرن الحادى عشر يعرف باسمها.

 الدير يقع فى وسط شبه جزيرة سيناء وهى أرض مصرية لكنه لايتبع الكنيسة المصرية الأرثوذكسية مع أنه يتبع العقيدة الأرثوذكسية إذ أن الرهبان الذين يعيشون فيه يونانيون وحكومة اليونان هى التى تشرف عليه.

مازال مكان العليقة الملتهبة المقدسة داخل بستان جميل أمام الكنيسة، كما توجد كنيسة العليقة اليوم خلف كنيسة الدير الرئيسية، حيث يدخل الزائر إليها بعد أن يخلع حذاءه لأنه مكان مقدس، إحياء لذكرى أمر الله لموسى ..) اخلع حذاءك من قدميك لأن الأرض التى تقف عليها أرضاً مقدسة( وقد كرست هذه الكنيسة لبشارة السيدة العذراء والدة السيد المسيح، وتوجد أيقونة على يسار المائدة المقدسة، أثرية رائعة تظهر فيها السيدة العذراء مريم البتول وهى تحتضن ابنها السيد المسيح جالسة وسط العليقة الملتهبة، ويظهر على يسارها النبى موسى ساجدا، والأيقونة تعبر عن رمز حمل السيدة العذراء من المسيح دون زرع بشر.

الجدير بالذكر أن نوع زرع وورق شجرة العليقة المقدسة فريد من نوعه ولا ينبت فى أى مكان فى شبه جزيرة سيناء، وقد جرت محاولات لزرع هذا النوع من شجرة العليقة فى مكان آخر فشلت جميعها.

من معالم هذه المنطقة جبلان هما : جبل سيناء والثانى جبل القديسة كاترينا الذى يعتبر أعلى جبال سيناء، إذ يصل ارتفاعه إلى ألفين وستمائة وستة وأربعين مترا، يبعد عن الدير خمس ساعات تقريبا، وتوجد على قمته كنيسة أخرى باسمها والمكان الذى وجد فيه رفاتها.

لا يمكن الحديث عن دير سانت كاترينا دون الحديث عن مكتبة الدير الكبير المهمة ثقافيا وعالميا، إذ تأتى المكتبة فى المرتبة الثانية فى العالم بعد مكتبة الفاتيكان من حيث عدد الكتب والمخطوطات، يوجد فيها ثلاثة آلاف مخطوط ثلثها يونانية وباقيها عربية وإسلامية وقبطية وأيبيرية وأرمينية وإثيوبية، أغلبها لها أهمية دينية مسيحية، والأخرى ذات قيمة تاريخية، وفى المكتبة يوجد إنجيل يونانى يعود إلى سنة 717م قدمه الإمبراطور ثيودوسيوس الثالث هدية للدير.  ويعتبر السجل السريانى القديم، الذى يعود تاريخه إلى عام 400 م أهم درر المكتبة.  وبالدير معرض مهم ضخم للأيقونات والرسوم بعرض 150 أيقونة مهمة من مجموعة حوالى ألفى أيقونة ذات قيمة روحية وتاريخية من بينها أيقونات نادرة الوجود تتراوح ما بين القرن السادس إلى العاشر الميلادى.

    الاكثر قراءة