فى 25 أبريل سنة 1982، عادت لنا سيناء. بعد احتلالها احتلالاً صهيونياً منذ
1967، يومها تغنت مصر بعودة سيناء. وسأتوقف أمام الغناء. ليس لأن هذه رغبتى. ولكن
لأن الأستاذ هيكل – يرحمه الله رحمة واسعة – قال لى أكثر من مرة – عندما كنت أجرى
معه حوارى الطويل عن تجربة عبد الناصر مع الثقافة الذى نشرته فى كتابى: محمد حسنين
هيكل يتذكر: عبد الناصر والمثقفون والثقافة -.
قال لى هيكل وأقواله لها منزلة عندى، إنه ليس مثل الغناء مُعَبِّر عن روح
الشعب. كان يقصد طبيعة اللحن السائد فى أى عصر. إن الموسيقى تعبر عن روح الزمان
الذى انطلقت فيه وسمعها الناس وتأثروا بها وسعدوا بنغماتها. وربما كان هذا أكثر من
الكلمة المكتوبة، شعراً كانت أم نثراً. وربما سبق أشكال الفن الأخرى، الفيلم السينمائى.
والعرض المسرحى. ولوحة الفن التشكيلى.
لن أتوقف طويلاً أمام سيادة النغم على الأذن، أذان الشعوب. لأن ذلك سيأخذنى
لقضية أخرى. ولكنى أعترف أن ذكرى سيناء لا بد أن تستدعى الألحان التى غنيناها فى
زمن قديم لسيناء. أى منذ 37 عاماً مضت. عدد من السنوات لا يفصله عن نصف القرن سوى
سنوات قليلة. ومع هذا فالإنسان يتذكر ولا بد أن يتذكر ما مضى به. بل إننى أقول:
وهل أملك فى وضعى الراهن سوى أن أتذكر؟ اللهم امنحنى القدرة على الاستمرار فى هذا
التذكر.
عند عودة سيناء فى 25/4/1982، سمعنا جميعاً الأغنية التى شدت بها الفنانة التى
اعتزلت فى أيامها الأخيرة: شادية. وكم من خسارة حدثت للغناء المصرى باعتزالها وقت
أن اعتزلت. ثم برحيلها بعد ذلك. لكنها حكاية أخرى. غنت: مصر اليوم فى عيد. قالوا
لنا الأغنية من كلمات عبد الوهاب محمد، ولحن جمال سلامة.
ما زلت أذكر ما قيل يومها عن الأغنية. خصوصاً بعد نجاحها المذهل. وعندما
نفاجأ بنجاح ما نحاول أن نفرغه من محتواه. فقد قيل أن تاريخ الأغنية يعود إلى عام
1956، عندما لحنها وغناها الفنان والمونولوجست عمر الجيزاوى، فى احتفالات بور
سعيد، بانتصارها على العدوان الثلاثى. وأن مؤلفها كان مصطفى الطائر.
لم أصدق هذه الحكاية، بل وتشككت فيها، حتى لا يظن أحد بىَّ السوء، إلا
عندما كتبتها أكثر من مرة الدكتورة ياسمين فراج، المتخصصة فى دراسات عن الغناء.
خصوصاً الغناء الوطنى الذى أفردت له أكثر من كتاب من مؤلفاتها المهمة. وهى مهمة
لأنها متخصصة. ولا تكتب إلا فى تخصصها الدقيق.
تقول كلمات الأغنية:
- ياللى من
البحيرة وياللى من آخر الصعيد/ ياللى من العريش الحرة أو من بور سعيد/ هنوا
بعضيكوم وشاركوا جمعنا السعيد/ سينا رجعت كاملة لينا ومصر اليوم فى عيد/ ألف ميت
مبروك علينا بالسلام/ حقنا عاد بين إيدينا بالتمام/ واحنا حنصونه فى عينينا ع
الدوام/ أصل ما فى ع الإراداة أى شئ بعيد/ سينا رجعت كاملة لينا ومصر اليوم فى
عيد/ ليل نهار عاهدونى نبنى ليل نهار/ لاجل مصر بلدنا تبقى فى ازدهار/ نبنى
ونحولها جنة بالعمار/ والأمل ضليلة فوقنا وكل إيد فى إيد/ سيناء رجعت كاملة لينا
ومصر اليوم فى عيد/ بكرة أحلى من النهاردة بكرة يا جيلنا الجديد/ تحصدوا خير ما
زرعنا والجميع يسعد أكيد/ مصر علشان تقوى بينا لازم الإنتاج يزيد/ والكلام مش وقته
خالص العمل هو المفيد/ سينا رجعت كاملة لينا ومصر اليوم فى عيد.
عندما كنت أستمع لهذه الأغنية – وما زلت وسأظل – تحدث لى حالة من النشوة
الناتجة عن الطرب الوطنى، الذى يذكر الإنسان بما جرى لبلاده. ويربطه من جديد بوطنه
عبر نغمات جميلة. لكنى أتساءل بعد الفرحة والطرب: سيناء عادت لنا. هذا حدث فعلاً.
وهى قصة من قصص الوطنية المصرية، بدأت من الحرب فى ميدان القتال، ووصلت إلى
التفاوض والمباحثات والجهد الدبلوماسى الضخم. ألم يقل علماء الاستراتيجية والحروب
أن السياسة قد تكون استمرار للحروب بصيغ أخرى؟ وأن الحروب ربما كانت استكمالاً
للجهد السياسى.
ما زلت أذكر كلام جمال حمدان بعد عودة سيناء فى أوائل
الثمانينيات عندما تحدث مطولاً عن تصوره لمستقبل سيناء. وقد كتبه مرات. لكن لم
يتوقف أحد أمامه. قال الرجل إن الجيوش عندما تتقدم لمعاركها يكون وراء كل جيش
مؤخرة. فيها الزاد والزواد العتاد والذخيرة. لماذا لا نجعل من سيناء مقدمة لمصر؟.
فكرة جمال حمدان بسيطة. لكنها عملاقة أن تنشئ كل محافظة
مصرية مقدمة لها فى سيناء. تأخذ مساحة من الأرض. تنقل إليها مواطنين من أبنائها
يعيشون فيها. وبذلك تلخص سيناء الأمة المصرية بعاداتها وتقاليدها. بقضها وقضيضها.
بفقرها وغناها. بخيالها وارتباطها بالأرض. ثم إن الأجيال التى ستولد فى سيناء
ستصبح جزءاً من رمال سيناء. وقد تنسى مع قادم الأيام أن الآباء والأجداد أتوا من
محافظات أخرى من قلب مصر. فى هذه الحالة سيختلط على رمال سيناء البحاروة
والصعايدة. الفلاحون والبدو الرحل. أهالى الموانى وسكان البنادر. وستسمع أجواء
سيناء لهجات آتية من كل مكان فى بر مصر.
عندما كتبت كلمة: "صحراء سيناء" تذكرت على
الفور رواية الروائى الإيطالى: دينو بوتزاتى: صحراء التتار. كانت الرواية الوحيدة
التى سألنى نجيب محفوظ عنها لكى يعيد قراءتها. فالرجل كان لا يحتفظ فى مكتبته إلا
بالكتب الأساسية فى حياته. الكتب المقدسة وكتب التراث الجوهرية. التى لم يكن
يستغنى عنها أبداً.
صدرت "صحراء التتار" فى ترجمتها الأولى. عن دار
الكتاب الجديد. وكانت إحدى شركات مؤسسة الأهرام للنشر والتوزيع فى ستينيات القرن
الماضى. وكنت من شدة إعجابى بهذه الرواية قد اشتريت نسخة منها وقدمتها لنجيب محفوظ
فى أحد لقاءاتى معه فى مقهى عرابى بميدان الجيش. ورغم أنه لم يذكر الرواية بكلمة
واحدة سواء بالذم أو المدح. بل لم يذكر أنه قرأها. إلا أنى فوجئت به يطلبها منى
لكى يعيد قراءتها.
خلال هذه الفترة كنا قد شاهدنا – صديق العمر جمال
الغيطانى وكاتب هذه السطور – فيلماً عنوانه: صحراء التتار. والذى يمكن أن يربط بين
صحراء التتار وصحراء سيناء. ولأن صحراء التتار كانت تقع فى شمال إيطاليا. وسميت
صحراء التتار لأنهم كانوا ينتظرون مجيء التتار من هذا المكان لغزو بلادهم. وكان لا
بد من الدفاع عن أرضهم وعرضهم ضد التتار. وهو ما حاول بطل الرواية الضابط الشاب
دروجو أن يقوم به.
أصل إلى مربط الفرس من كتابتى هذه. أين رواية سيناء بعد كل
هذه السنوات من عودتها إلينا؟ أنتظرها بفارغ الصبر. وأدرك خلال انتظارى لها أن من
سيكتب هذه الرواية لا بد أن يعيش هناك. ليس بهدف كتابة رواية. ولكن لأنه يحيا فى
هذا المكان الخصب والعظيم من العالم برغبته الكاملة وحبه غير العادى لكل ما يجرى
هناك.