الخميس 28 نوفمبر 2024

فن

محمود الغيطاني يكتب: «الشَّرْقُ يبدأ في القاهرة».. الخوض في مدينة أُسطورية

  • 16-10-2020 | 15:24

طباعة

بقلم محمود الغيطاني

كثيرٌ من الكُتَّاب والرحالة كتبوا عن زياراتهم إلى مصر وانبهارهم بمدينة القاهرة الأسطورية – حسبما يرونها  - ومن ثم رأينا كتاباتهم تزخر بالكثير من الإعجاب بسحر هذه المدينة التي تركت أكبر الأثر داخلهم؛ فظلوا يحلمون بمشاهداتهم فيها، وسحرها الذي لا يعرفون سببه. 

من هذه الكتب الكثيرة - على سبيل المثال - "تاريخ المصريين" لإسحق عظيموف، و"رسائل من مصر" لهانز جورج بيرجر، وهيرفي جيبير، و"على ضفاف النيل"، و"مصر في زمن الفراعنة" لإدا بيرسياني، و"رحلة في الشرق" لجوستاف فلوبير، و"مذكرات مصرية" لأندريس أولجين، و"القاهرة، المدينة المنتصرة" لماكس رودنبيك، و"الصدمة الثقافية، مصر" لسوزان إل ويلسون، وغيرها الكثير من الكتب المختلفة، التي أبدى كتابها مدى عشقهم وانبهارهم بالقاهرة، المدينة ذات الألف وجه.

هذا السحر - الذي لا يعرف أصحابه سببه - كان هو السبب الرئيس الذي جعل الروائي والصحفي الكولومبي إكتور آباد فاسيولينسي يُعِدُّ عدته من أجل الترحال إلى مصر، لا سيما مدينة القاهرة التي كثيرًا ما قرأ عنها في الكتب؛ الأمر الذي أصابه بحالة من العشق والتَّوَلُّه والتخيلات تجاه هذه المدينة الأسطورية؛ ومن ثم أنتج كتابه "الشرق يبدأ في القاهرة"، الذي حكى فيه حياته فيها، والسحر الذي لاقاه هناك، رغم الأتربة والتلوث والفوضى التي لم يكن يحتملها للوهلة الأولى، لكنه اعتادها وتآلف معها فيما بعد.

يؤكد فاسيولينسي منذ البداية أن قراءاته المختلفة عن مصر وتاريخها كانت هي السبب الرئيس خلف هذه الرحلة، محاولًا تتبع ما قرأه والتأكد منه ومعايشته على أرض الواقع؛ لذلك يقول: "المسافر الفضولي جوستاف فلوبير أخبرنا منذ حوالي قرنين: "الشرق يبدأ في القاهرة"، وبما أننا لا نستخدم الجياد أو الجمال، أو نسافر فوق الحمير، أو نُبحر على هوى الأمواج؛ قررنا شراء رحلة نحو القاهرة. يبدأ السفر قبل الرحيل بوقت طويل، إنها مخيلة الرحلة، ما نقرأه وما نتخيله. أول ما قرأته كانت الصفحات التي يَقُصُّ فيها فلوبير رحلته إلى مصر في خطاب لوالدته في 14 ديسمبر 1849م، في بداية رحلة ستستغرق أكثر من عام. يقص فلوبير أنه قرر ألَّا يهذب لحيته: "تنمو لحيتي مثل حشائش السافانا في الأمريكتين". 

لكي أوفر الكثير من الوقت، ولكي أبدو مثل الصورة النمطية الموجودة لديّ عن الشرقيين؛ قررت تقليد فلوبير. إن لم أتمكن من القيام بذلك عبر الكتابة، فعلى الأقل سأقلده في تصرفه؛ لذا قررت ترك لحيتي تنمو". ربما نلاحظ هنا أن المؤلف منذ قراره الرحيل يحاول التماهي مع العديد من الكُتَّاب الذين قرأ لهم عن زياراتهم إلى مصر، لا سيما فلوبير؛ لذلك فهو يستعير مقولته عن مصر ليجعلها عنوانًا لكتابه الذي كتبه بعد هذه الرحلة، كما يحاول أن يحاكيه بترك لحيته، ظنًّا منه أن المشرقيين أصحاب لِحًى طويلة؛ ومن ثم فعليه أن يكون مثلهم في المظهر الخارجي حتى لا يبدو غريبًا بينهم، وهو الأمر الذي ظنه سيجعلهم يتآلفون معه منذ البداية ولا يتعاملون معه كغريب.

إذنْ، فهذه الأفكار الجاهزة عن الشرق - والتي يكاد يصدقها كل أهل الغرب - تكاد تكون هي المُحرك الأساس لهم في التعامل مع المجتمعات الشرقية؛ ومن ثم فهم يُصابون بصدمة ثقافية كبيرة حين يخوضون الحياة في الشرق على أرض الواقع؛ حيث تنهار كل تصوراتهم النمطية عن الحياة في هذا الركن من الكرة الأرضية، ويشاهدون أناسًا عاديين لا يختلفون عنهم كثيرًا في أنماط الحياة، فتبدأ هذه الأفكار في الاندثار والمحو تمامًا من أذهانهم، كأن يتخيلوا أن أهل الشرق في مصر مثلًا ما زالوا يتنقلون على ظهور الجمال، باعتبار مصر – في ظنهم - ليست سوى صحراء ذات حياة بدائية، مثل الصورة النمطية التي نتخيلها نحن عن أفريقيا، باعتبارها مجرد أدغال وغابات وبشر بدائيين يعيشون في صراع مع الحيوانات.

هذا التنميط في الأفكار، سواءً كان عندنا أو لدى الغربيين، هو ما يجعلنا غير قادرين على التصور الحقيقي للأنماط الثقافية الأخرى، وبالتالي نقع أسرى التخيلات والتصورات الخاطئة.

ربما كان أهم ما نلاحظه في كتاب "الشرق يبدأ في القاهرة" هو الأسلوب الأدبي الذي كتبه به مؤلفه، لا سيما أنه من أهم الروائيين في كولومبيا، وهو الروائي الذي منحته إسبانيا جنسيتها في 2017م؛ لكونه "أحد أفضل المؤلفين باللغة الإسبانية". وينبغي الاعتراف بأن الترجمة التي قام بها محمد الفولي كانت من الأهمية بمكان، ما جعلنا نشعر وكأنما الكتاب قد كُتب باللغة الأدبية العربية؛ نظرا لبساطة الأسلوب وأدبيته. نلاحظ هذا على طول الكتاب فنقرأ: "اشترينا رحلة إلى القاهرة"، كان هذا هو ما قلته ومن الأفضل أن أفسره، سبب استخدام الجمع هو أنني سافرت مع زوجتيَّ (آ) و(ك)، الرحلة تتضمن السفر بالطائرة بكل تأكيد، وبرنامجًا طويلًا، من ميديين إلى نيويورك مع شركة (أفيانكا)، ومن نيويورك إلى بوسطن مع (أمريكان)، ومن بوسطن إلى مدريد مع (سابينا)، ومن مدريد إلى القاهرة مع (مصر للطيران). دُوَل ومطارات وشركات العالم الأول تحتفظ دائمًا بمفاجأة لمواطني العالم الثالث. ليست الطائرات المُتهالكة بسبب عامل الزمن، أو المواعيد المتغيرة بسبب الفوضى أو الفقر أو الإهمال، كل هذه الأمور تعمل بطريقة شبه مثالية في دول العالم المُتقدم. وإنما تكمن مشكلة مواطني العالم الثالث - أثناء السفر نحو القارات الثرية - في التأشيرات. الرعب المُبجل الذي يسمح لهؤلاء الهنود - أي نحن - بالدخول لأرض الأطهار". من خلال هذا الاقتباس وغيره على طول السرد، نلاحظ أن الكاتب يكتب رحلته وتأملاته وملاحظاته من خلال أسلوب أدبي / روائي سلس؛ الأمر الذي يُشعر القارئ أنه أمام عمل أدبي، أو قطعة أدبية فيها من التشويق والسلاسة ما يمكن أن يشعر به في أي رواية قد يقرأها يومًا، وهو ما يجعل العمل قريبًا من القارئ مُحَبَّبًا إليه.

هذه القراءات المكتظة، والرغبة الشغوفة بالمدينة، كانت سببًا رئيسًا في صدمته للوهلة الأولى، وهي الصدمة التي من الممكن أن نقول عنها: الصدمة الحضارية، أو الثقافية، أو حتى صدمة الطقس ورؤية المجتمع الذي لم يكن يتصوره بهذا الشكل، بل كان يراه من خلال خياله وأفكاره النمطية التي كَوَّنَها من الكتب التي تحدَّثت عن المدينة؛ لذلك نراه حينما يصل إلى القاهرة في صدمة حقيقية، لن يخرج منها إلَّا بالاندماج في هذا المجتمع فيما بعد؛ وبالتالي يراه عاديًّا ويتآلف معه مثل سكانه تماما. 

"القاهرة لا تزال ناجية بفضل النيل، لكن النهر مجرد تيار وليس رشاشًا للمياه، الأمطار هي رشاش المياه، وكل شيء هنا ينقصه الاغتسال، لا تقدر المباني على الاستحمام بالانغماس في النهر، ولا الشوارع ولا الأرصفة، فكل شيء مُغَطًّى بالتراب والرمل، لذا فإن كل شيء يحتاج إلى "دُش"، هذا هو الانطباع الأول. هنا لا تُمطر مياهًا، بل ترابًا، ورائحة الهواء دون دش المياه المُنظف هي دخان المصانع وعوادم السيارات. يعيش ما يقرب من 17 مليون نسمة - ربما تكون البيانات الديموغرافية غير دقيقة، حيث يتراوح التعداد بين 16 و19 مليونًا، وفقًا لطريقة الحساب - يعيشون هنا بكل دخانهم وقماماتهم ودون المياه التي تُطهر. أول شعور تملكني كان فظيعًا، قاومت رغبتي في التنفس، رفض جسدي هذا وانسدت أنفي، وبقيت رئتاي في منتصف الطريق، وعانيت في كل الأيام التالية لي بالقاهرة من حالة ربو نفسية؛ لأنني لم أرغب في تنفس هذا الهواء". 

رغم محاولة الكاتب أن يكون شديد الدقة في كل ما يكتبه عن القاهرة وعاداتها ومشاهداتها، إلَّا أنه يقع في بعض الأخطاء البسيطة التي تحدث مع أي شخص يتعامل مع المدينة باعتباره سائحًا، فنراه يقول مثلًا: "من كل الكلمات التي ورثناها من العربية ربما تُعَدُّ (Ojala) هي الأكثر استخدامًا، وبعد قضائي عدة أيام هنا أصبح هذا الأمر مفهومًا؛ بسبب كثرة استخدام المسلمين لعبارة "إن شاء الله". بات هذا الإرث مفهومًا بسبب الإفراط في استخدام هذا الاسم المقدس، وهذا الأمر يُفسر شيئًا آخر من ضمن الخصائص المحلية، فلوحة الآلات الكاتبة بالعربية بها زِرٌّ مُخصص لكلمة الله وآخر لمحمد؛ لأن جانبًا كبيرًا من الأدب يتعلق بالدين وبضرورة الإشارة إليه، ومن ثَمَّ يتعلق بهذين الاسمين، لهذا يتكرر دائمًا اسما الرب والنبي لدرجة أدت لتخصيص زِرٍّ لكل منهما". ربما نلاحظ هنا أن الكاتب مخطئ تمامًا فيما ذهب إليه، بل إنه يُكرس لأسطورة جديدة عن الشرق في القاهرة؛ فلا توجد بالفعل هذه اللوحات الكاتبة المُخصصة لكلمة الله أو محمد في مصر، كما أن تعلق الجانب الأكبر من الأدب في مصر بالدين، وضرورة الإشارة إليه غير موجود، حتى لو عُدْنا إلى تاريخ رحلة الكاتب التي كانت في 2000م، فلن نجد الأدب المصري – آنذاك - مُتعلقًا بالجانب الديني أو له أي علاقة به. 

هذا ما نراه مرة أخرى في قوله: "أن تكون كاتبًا في مصر ليس أمرًا هينًا، لا تربح كثيرًا وهو عمل خطير. نحن جميعًا نعرف الفتوى بخصوص سلمان رشدي، التي لم تصدر في مصر بل في إيران من قِبَل نظام آية الله، لكن الأمور صعبة هنا مثل هناك، فلكي يُنشر أي عمل أدبي في مصر لا بُدَّ وأن يمر عبر رقابة شيوخ الأزهر، أقدم جامعات القاهرة والعالم الإسلامي، التي تعمل منذ أكثر من ألف عام". هذه المعلومة أيضًا تفتقد كثيرًا من الموضوعية والدقة على أرض الواقع؛ لأن الأزهر لا علاقة له من قريب أو بعيد بإصدار الكتب، إلَّا فيما يتعلق بإصداراته الدينية فقط، أمّا عن الكتب الثقافية أو الأدبية أو الفكرية فلا علاقة للأزهر بها، بل لا يوجد أي شكل رقابي على إصدار الكتب في مصر، أو محاولة مراجعتها، أو قراءتها قبل صدورها.

يُعَدُّ كتاب "الشرق يبدأ في القاهرة"، للروائي الكولومبي إكتور آباد فاسيولينسي، من أهم الكتب التي صدرت عن القاهرة في الآونة الأخيرة؛ حيث يحاول من خلاله المؤلف تتبع كل دقائق الحياة في القاهرة، ويعمل على تصحيح مفاهيمه ومفاهيم الغرب الجاهزة عن الشرق، والتي تمنحه الكثير من الأسطورية غير الحقيقية. ومن هنا جاء الكتاب من أجل تصحيح هذه المفاهيم، وبناء أسطورة حقيقية على أرض الواقع، لمدينة لا يمكن وصفها إلَّا بعبارة: "هي مدينة ذات ألف وجه"، ومن هنا تكتسب مشروعية أسطوريتها التي لا تنتهي على مر التاريخ.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة