الأحد 12 مايو 2024

عاصف الخالدي: «تفاحة العابد» حين تكون الرواية شهادة على إنسان العصر الممزق

فن16-10-2020 | 15:43

 بقلم عاصف الخالدي


بالكادِ تستطيع البشرية التعامل مع الأوضاع الحالية في العالم في ظل وباء كورونا، ومن الواضح أن عديدًا من المجتمعات التي نمت وتغيرت منذ الثورات الصناعية الكبرى مطلع القرن الماضي ظهرتْ عاجزةً عن ممارسة ما كان يتم اعتباره حياةً طبيعية، في ظل عالمٍ رأسمالي يعمل فيه المرء وفق متلازمة الاستهلاك، أي أن يَسْتَهْلِك، وأن يتم استهلاكه. وبالتالي، ألقت الجائحة بظلالها على العالم، وتُرِكَ الإنسان لمصيره كما يحدث في كل كارثةٍ عبر التاريخ، إذ لا بُدَّ أن يموت البعض، وأن ينجو البعض الآخر.


لكن العالم – بالفعل - لم يكن ورديًّا قبل الجائحة، بل إننا اليوم ننشغل بما هو طارئ من كارثة الكورونا، عن كوارث يومية صغيرة وروتينية، تتكرر في حيواتِ الكثيرين، ولا يؤرخ لها الإعلام، ولا تتجمع حولها الحكومات محاولةً حلها، وجميعها تتعلق بإنسان العصر المُمَزَّق بالطبع، ولا رؤية واسعة لمشاكله الوجودية والعملية والواقعية، مثلما يُوجدُ في عالم الروايات.


ولعل "تفاحة العابد" هي واحدة من روايات النهايات، التي تحاول إلقاء الضوء على هذا الإنسان بعد تجاوزه لخط النهاية، أي في المرحلة التي يدفن فيها جزءًا من أحلامه، ويتخلى عن مساحات من مشاعره، تاركًا الواقع يحتلها، على حساب خيالٍ كان يلوح له في الأفق، ويدفعه إلى الحياة. ولعلها من الأعمال التي تتميز بتصوير إنسان يَرْفُلُ في ذيول الهزيمة حتى النخاع. لذا، فإن الكوارث والجوائح لن تضيف إلى حياته شيئًا، ولن تعينه على التشبث بالبقاء، لأنه - في الأصل - لا يحمل أي دوافع ذاتية حتى تقوده في مسيرته، وهو ما نجح الكاتب والروائي الأردني "جهاد أبو حشيش" في إظهاره من خلال هذه الرواية.


والرواية، الواقعة في مئتي صفحةٍ وقليل، تكشف عن حياة أبطالها، كأنهم نجوم في مرحلة الموت، كان لهم لَمَعَانُهم وأحلامهم وطموحاتهم، لكن كل ما يظهر للقارئ الآن هو الماضي فقط، الذي يبحث فيه القارئ بلا جدوى عن بصيص أملٍ في أن تلك النجوم لم تأفل. إلَّا أن العلاقات المُشوهة - بينهم وبين العالم - تكشف أنهم انطفأوا بالفعل، ومثلما يقول الروائي نفسه في مقدمة أحد فصول الرواية: "الماضي هو الظل الذي يتبعك ليفترسك في أول لحظة ضعفٍ تمر بها".


وربما ينطبق هذا على شخصيات الرواية الرئيسة بوضوح، مثل بطلها "عواد" الذي يتحول إلى رجل مافيا وتاجر ممنوعات، ولديه ولدان، هما عادل وعصرية. وبينما يمثل الأب روحًا من الشر المطلق في اللحظة الحاضرة، فإنه في الوقت ذاته يواجه ماضيًا بات مرعبًا بالنسبة إليه، يتمثل فيما كان يحمله هو وأصدقاؤه في الماضي من قيم وطنية وإنسانية وأخلاقية عميقة. وفي المقابل، يتجسَّد له هذا الماضي المُرعب في ابنه عادل الذي يرفض عمل والده ونمط تفكيره وحياته، بل وتحرمه الحياة من الإنجاب، في اعتراضٍ قَدَرِيٍّ رهيب على والده، وصل إلى حد انقطاع النسل وعدم استمرار العائلة بانعدام القدرة على إنجاب حفيدٍ لعواد. أما الابنة، التي تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال خوض غمار السلطة، فإنها تبدو نموذجًا آخر مختلفًا تمامًا عن والدها، بل تبدو أنها في مواجهةٍ دائمة معه، إذ تجعله دومًا على النقيض من طموحاتها الشخصية وطموحات المجتمع بصورةٍ عامة، في حياةٍ "خالية من الفساد والشر" كما تتخيلها هي.


إذنْ، يواجه عواد ماضيه كل يوم. ويبدو أن الرجل الذي مات فيه منذ أمدٍ بعيد، أكثر قوة ورهبةً من الرجل الذي هو عليهِ الآن. وبما إن معظم شخصيات الرواية تخوض مأساة المواجهة بين ما هي عليه، وما جعلها عليه العالم ضد ما كانت تريد أن تكونه بالفعل، لذا فإن الحياة اليومية - من هذه الزاوية - تصبح عذابًا يتكرر.


كما يقول الناقد والباحث المعروف كمال أبو ديب، فإن الرواية تتميز بـ"تعدد المنظور، وتطور تقنيات القَصّ، وتعدد الأصوات الروائية"، وهي تطرح السؤال الكبير: هل يتحكم إنسان اليوم في تكوينه ومسار حياته؟


في عالمها المملوء بصراعاتٍ جانبية كثيرة، تتحرك الرواية في فلكٍ تشاؤميٍّ، يحيل شخصياتها إلى نوعٍ من السلبية تجاه الحياة كما يبدو في اللحظة الأولى، ضمن عالمٍ انتهت فيه المبادئ، وأصبح كل شيء قابلًا للتعليب والاستهلاك، ما يعني أنهم عدميون إن صح التعبير. لكن مستوى الخطاب لدى عادل وأخته مثلًا  يشير إلى رغبةٍ كبيرةٍ في تغيير العالم، مهما تراكم فوقه من حطام. وهو ما يشير بدوره إلى أن بذرة الذاتية، والرغبة في الحب والخير والعدل، ما تزال مُعَشِّشَةً داخل الإنسان، رغم محاولات طمس هويته لصالح هوية رأسمالية لا تعرفه إلا كمُسْتَهْلِكٍ ومُسْتَهْلَكٍ. لذا، وأمام كل ما صار موضوعًا، كالدين والحب والعائلة، وكل ما أصبح قابلًا للدراسة والتحليل، وإعادة نحته في الدماغ كما يقول جان بورديار، يحاول هؤلاء شق طرقهم، مُتَحَدِّين القهر البيولوجي والأنطولوجي والتاريخي والاقتصادي. لذلك، فنحن في هذه الرواية أمام شخصيات تتوق إلى التحكم بمصيرها مهما كان الثمن، وتحاول إعادة بناء ذواتها، في عالمٍ انتهت فيه الذات.


جهاد أبو حشيش، صاحب "ذئب الله"، وهي روايته الأولى التي تُعَدُّ هذه الرواية امتدادًا لها، استخدم أصواتًا متعددة في روايته هذه، تحمل جميعها هَمًّا واحدًا مع اختلاف الطموحات والأهداف، فهي كلها يجمعها ويفرقها الحُبُّ، والرغبة في حرية الذات ونجاتها من جحيم العالم، حيث بدا الخلاص الجماعيُّ أمرًا مستحيلًا. إذ يبدو من خطوط شخصيات أبو حشيش أنه لا بديل عن الخلاص الفرديّ، وهذا بالضبط ما استدعاني للكتابة عن هذه الرواية الصادرة عن دار "فضاءات" للنشر والتوزيع نهاية عام 2019، حيث كانت البشرية على أبواب جائحة كورونا، وأصبحت الدول مَعْنِيَّةً بنفسها وشعوبها، كما أصبح الأفراد مَعْنِيِّين بأنفسهم وسبل نجاتهم، وأضحى التباعد الاجتماعي سيد الموقف، وصارت الأيام عداداتٍ لإحصاء الضحايا، بعدما كان الانتباه لضحايا انهيار الأحلام والحب والعدل في هذا العالم، بالكاد تتم ملاحظتهم، أصبح ممكنًا اليوم بعد انقضاء الجائحة أن نستعيد من الأدب الروائي إشاراته لما يحل بإنسان اليوم من كوارث يومية، في ظل عالم "ما بعد حداثيّ"، صفته الأولى هي تشوه الهوية والمعرفة والحب، وعدم الاكتفاء – ولو بالانتباه فقط - إلى كوارث البشرية الكبرى.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020

    Dr.Radwa
    Egypt Air