الثلاثاء 26 نوفمبر 2024

فن

جمال الطيب يكتب: مُداعبات الماضي ومُشاغباته قراءة في المجموعة القصصية «شوكولاتة نيتشه»

  • 16-10-2020 | 20:54

طباعة

يقلم جمال الطيب

أيام الصبا والشباب كثيرًا ما تداعب الذاكرة وتناغشها، تترك آثارها على الوجوه، بالابتسامة تارةً، وبالدهشة تارةً أخرى، لجرأتها ورعونتها. هذا ما يأخذنا إليه القاصُّ "صابر رشدي" في مجموعته القصصية "شوكولاتة نيتشه". جميعها تدور حول أحداث يرويها لنا السارد العليم، منها ما كان له دور فاعل في مجرياتها، ومنها ما شاهدها أو استمع إليها. نبدأ بشقاوة الطفولة والمقالب الصبيانية التي مارسها الصبي، أحدها كاد يُودي بحياة صديقه "رياض السيد"، كما يحكيها لنا في قصة "برطمان زجاجي" الذي يحوي "بوتاس"، مُوهمًا إياه بأنه "سُكّر"! الأمر الذي كاد أن يفتك بصديقه، لولا إسراع عربة الإسعاف لنجدته، تصطحبه أماني أهل الشارع له بالشفاء، وهم يُضمرون له الموت، للتخلص من شقاوته وشيطنته. 

في قصة "انتصارات" يُعرّفنا على صديقه "محسن والي" وسلوكه الشاذ في عراكه مع خصومه، حيث يلتقط إصبع السبابة للخصم، ثم يهرسها بين أسنانه. في قصة "النيل عند وكالة البلح" نشاهد رهانًا بين المتنافسين "محمود حنفي" و"سامي السيد" على التسابق في النيل للوصول إلى الضفة الأخرى، على أن تكون بداية السباق بالقفز من أعلى كوبري أبو العلا! وسط دهشة الصبي ومرافقيه من الأصدقاء، الذين تقهقروا عائدين إلى منازلهم، انتظارًا لوقوع الفاجعة بغرقهما معًا. تأتي المفاجأة بعودة المتنافسين ولكن عاريين تمامًا! بعد اكتشافهما سرقة ملابسهما رغم خروجهما سالمين من النيل. 

ما زالت الرغبة لدى الصبي في سبر أغوار عوالم جديدة تُكسبه متعة فض بكارتها. ففي قصة "مخدرات الطفولة" نرقب عالم "الحشيش"، ولكن من خلال نافذتين نُطِلُّ من خلالهما عليه. أولاهما الحي الشعبي الذي يقطنه، وبعيون كاميرا سينمائية يلتقط لنا ما شاهده في حي "الباطنية" معقل التجارة لهذا الصنف، مُستعرضًا مدخله حيث "الناضورجية"، ثم داخله حيث السادة من كبار التجار. وفي طريق العودة يهمس للبائع: "الحشيش هنا له طعم مختلف". 

نأتي إلى ختام حكايات "شقاوة الطفولة" بقصة "قُرص مُسَكِّن"، وفيها يلعب على الإيحاء المراوغ لخداع عم "زلط" العامل العجوز بالمقهى، والذي يعاني من فتور قواه الجنسية. يجد مبتغاه عند صبينا الذي ناوله قرصًا يعاونه على استعادة نشاطه وحيويته، التقطه منه سعيدًا، آملًا فيه الرجاء. يعود الصبي في اليوم التالي إلى المقهى، فيُقَابَل بحفاوة من العم "زلط"، جرّاء مفعول القرص "السحري"، والذي لا يعلم أنه "قرص مُسَكِّن" قد كُشِطَتْ كتابته البارزة. 

ينتقل بنا إلى هوايات مرحلة الصبا والمراهقة وعشقه للسينما، كانت "سينما فلوريدا" خطوته الأولى لدخول هذا العالم الفضي، ويصف كيف تلقّفه "البلاسير" فور دخوله يتحسس طريقه في الظلام. يحكي لنا عن مشاهدته لشاشة العرض الضخمة، وكيف كاد يقع مَغْشِيًّا عليه، وهو يرى القطار مندفعًا ليدهسه. عشقه لكرة القدم في قصة "الطريق إلى الاستاد"، وذهابه لمشاهدة اللاعبين والمناوشات التي تنشب بين جمهور الناديين المتنافسين. وأمام عدم تصديق أصدقائه لما يرويه من حكايات، يتعمد أن يناديهم بأسمائهم أثناء المباراة!. عشقه لسماع الموسيقى الكلاسيكية في قصة "جاهل في الأوبرا"، وحضوره لحفل "أوركسترا القاهرة السيمفوني"، حيث يبدأ العزف بمقدمة موسيقية قويه، وما إن تتوقف حتى يبادر بالتصفيق الحماسي، تلاحقه نظرات التأفف من الحضور. تواصل الأوركسترا عزفها إلى أن تنتهي، وهنا يقع في متاهات الحيرة: "هل أُصَفِّقُ أم أنتظر؟!". 

في قصة "الولد الذي"، يُعرّفنا على البطل الذي أسبغ عليه لقب "الولد الشاحب.. مُطفأ العينين.. المُخَدَّر دائمًا بأحلامه المحرومة". وعلى الجانب الآخر هناك مُعلمة الرياضيات.. "تتمتع بكثير من الأشياء الجذابة التي تظهرها .. بدانة خفيفة ومحببة". تنتبه المُعلمة إلى ملاحقته لها بعينيه، وما يدور بخلده من رغبات تجاهها، فتتقدم نحوه وهي تبدو منشغلة بقراءة كتاب، ترمقه بعينيها، حتى اقتربت منه ونظرت أسفل قدميه... "ثم بدأت في الصراخ على نحو هستيري، صراخٌ مدوًّ، مخلوطٌ بالبكاء والشتائم الرقيقة المهذبة". يستكمل: "لكني أستطيع الجزم بأنها كانت المرة الأخيرة التي رأينا فيها هذا الولد داخل مدرستنا". 

في قصة "جولات س.ع"، التي يشير عنوانها إلى أول حرفين من اسم بطلها، يتحدث عن ولعه المهووس بالأنثى، وتجربة ارتياده وكرًا للدعارة، حيث تم خداعه وسلب أمواله، ثم ركوبه "للباصات" مُتَحَيّنًا ازدحامها، لإفراغ رغباته المكبوتة، ينال عقابه من جموع راكبي الباص، رجالًا ونساءً. يصل الأمر إلى قيام رجال الأمن بطباعة ملصقات تحمل صورته، مكتوب تحتها: "من يجد هذا الشخص داخل الحافلة يقوم بتسليمه فورًا". 

في قصة "النافذة"، شاب مراهق يعمل مساعدًا لأحد مقاولي أعمال البياض، ينظر من نافذة البناية الحديثة التي يعمل بها، والتي تطل على بنايات قديمة، يلمح من ضلفتها المواربة مَشهدًا لعلاقة حميمية بين زوجين، يلجأ إلى ممارسة "العادة السرية" لإطفاء نار الشهوة التي تلهب جسده، ولكنه ما كاد يفعل حتى ارتفع صراخه". تذكر لعابه الرطب فوق كفه، وتفاعله مع هذه العناصر الكاوية، أثناء بحثه عن اللذة فيما وراء النافذة. 

تنتقل قصص المجموعة إلى العادات والتقاليد التي تنتشر في الأحياء الشعبية. ففيما يتعلّق بالطب، نجدها في قصة "العلاج بالماعز"، حيث يتم استخدام لبن الماعز بغرض علاج الأطفال الرُضّع من السخونة والهزال عن طريق الفم، وعلاج البثور التي ترمي بطفحها على الوجه، بإسالة اللبن عليه، فهم يعتقدون أن "اللبن يرطب الفم ويطفئ سخونة الوجه والحلقوم". وفي "الطابور" نشاهد ما يحدث في المستشفيات الحكومية، فالعلاج لا يتبدّل لجميع الأمراض على اختلافها، سائل برتقالي يغرفه الصيدلي المُسِنُّ في زجاجة من براميل بلاستيكية، مع كيس يحتوي على أقراص غير مغلّفة. 

في قصة "المترنحات وذكور البط"، يحدثنا عن الزار وحلقاته التي تنعقد بغرض طرد الجن من جسد المريضة، تترأسها "كودية"، تتجمع فيها السيدات حول الضحية، يتطوّحن على نغمات الدفوف والأهازيج، التي يرددنها في طقس فولكلوري يطغى عليه الافتعال. يواصل حكاياته عن مشاهداته في صباه، فيحكي لنا عن "سرادق السيدات"، وما يصاحبه من عديد ونُواح، يلهجون فيه بذكر محاسن الميت - ويسخرون منها في سريرتهم - ولكنهم يواصلون المواساة بافتتاحية من إحداهن للإشارة بمقدمهن، لتبادلهن النسوة بداخل السرادق الصرخات والندب، لتقوم الشيخة التي تقرأ القرآن بنهرهن. 

قصة "شوكولاتة نيتشه"، التي تحمل اسم المجموعة القصصية، نجدها تحمل رمزيات عديدة يمكن إسقاطها على الواقع. فالزوجة ترمز إلى "مصر"، والزوج / الرئيس "السادات"، ومشروع الشوكولاتة / الانفتاح الاقتصادي، أما الجِنِّيُّ الصغير فهي "إسرائيل"، ومعاهدة الصلح بين الزوج والجِنِّيِّ إشارة إلى معاهدة السلام، التي كانت ضحيتها الزوجة / مصر بعد أن شاخت، أما بطنها المُكَوّر فهو تنامي "الجماعات الإسلامية" بعد خروجهم من السجون، لينقلب السحر على الساحر، وتأتي نهايته على أيديهم في حادث المنصة / الطفل المشوّه. 

أما قصة "المزلقان"، فهي لا تخرج أيضًا عن أفعال الجن، ولكنه هنا هو الجِنِّيُّ الأكبر/ أمريكا، والذي يقوم بهدم المنزل وتحطيمه / العراق وما أصابها من دمار وانقسامات ما زالت تُلقي بظلالها حتى وقتنا الراهن. يطرح المؤلف بوادر الوعي السياسي لدى الصبي، ففي مرحلة الصبا شهد انتفاضة يناير 1977م، كما يحكي في قصة "اشتباك"، وتفاعله مع مظاهراتها بدافع الفضول والمشاهدة، دون خلفية سياسية لما يحدث. بعد مرور أربع سنوات على هذه المظاهرات، أصبح لديه من الوعي السياسي ما يُعينه على قراءة الأحداث الجارية. يحكي لنا في قصة "الرئيس سيمر بعد دقائق": كانت الأجواء السياسية متوترة في البلاد، بعد أن اعتقل "السادات" 1536 شخصية بارزة على مختلف الأطياف والأيديولوجيات، والتي شهدت مقتله في السادس من أكتوبر 1981م أثناء العرض العسكري، لتتحقق نبوءة الراوي / الكاتب قُبيل أسبوع من هذه الواقعة. قبل ختام هذه القصة، أسجل اعتراضي على جملة: "ذكاء القائد يخونه للمرة الأولى في حياته" (ص95)، فهذه ليست المرة الأولى، بل هناك مرات عديدة خانه فيها ذكاؤه، بدءًا من "الانفتاح الاقتصادي"، وانتهاءً بمعاهدة "كامب ديفيد". 

"شوكولاتة نيتشه"، مجموعة قصصية تتنوع أفكارها، تدور حول استرجاع شريط الذكريات لأحداث ومشاهدات قديمة، قد تتماسّ مع ذكريات الكثير منّا، تتسم بالطرافة وخفة الدم، رغم نزاقتها ورعونتها، في أسلوب نأى به "صابر رشدي" عن الزخرفات اللفظية والصور البلاغية، مع تنوعه في عرض أفكار القصص، خاصة في قصة "مخدرات الطفولة" التي اقترب فيها من السرد السينمائي، المعتمد على الصورة والقطع لا على السرد المتتالي، في أسلوب رشيق ولغة محكمة.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 44 - مايو 2020