الخميس 26 سبتمبر 2024

«إيبو العظيم».. «الهلال اليوم» تنشر الفصل الأول لرواية حسن عبد البصير

فن17-10-2020 | 06:11

أصدرت "روايات الهلال" العريقة، رواية "إيبو العظيم" للروائي وعالم الآثار المصري الدكتور "حسين عبد البصير".

 

وتدور أحداث هذه الرواية المتخيلة في مصر الفرعونية، وخصوصًا في فترة ما بعد عصر الدولة القديمة من خلال سرد قصص مجموعة شخصيات في تلك الفترة شديدة التوتر والاضطرابات، فيتعلم القارئ من الحكيم "إيبوور"، كبير الكتَّاب في القصر الملكي في العاصمة "مَنف"، المهموم بمراقبة أحوال العباد في البلاد.

وتنشر "الهلال اليوم"، الفصل الأول منها والذي جاء كالتالي:


  «ميريت» تطل بوجهها الجميل من شرفة قصر أخيها على الحديقة الكبيرة المحيطة به كى تشم عبير الأزهار في هذا الوقت من العام. يشع وجهها، هذه المحبة المحبوبة الجميلة التي تتطلع إلى العالم بكل الشوق والنور والجمال والضياء والسعادة والبهجة. حديقة القصر تسعد قلبها لأنها شاسعة، وبها الكثير من الأشجار والأزهار والطيور والفراشات والحيوانات الأليفة والنباتات النادرة. تعيش مع أخيها القائد العسكري القوي، «نَخت»، في هذا القصر الكبير الذي يشبه قلعة عسكرية حصينة، أو كما تحب أن تطلق عليه «السجن الكبير».

 القصر ذو طابق واحد مقام على مساحة واسعة فوق مكان مرتفع، تحيط به المياه من كل جانب. وهناك بحديقة القصر أكثر من جوسق للتمتع بالجلوس فيه في شمس الشتاء الدافئة أو في الربيع حين تهب نسمات الزهور المنعشة. وتنتشر أبراج الحمام على أسوار القصر. وتتدلى عناقيد العنب على تكعيباته الموجودة بمحاذاة السور الخشبي المحيط بالحديقة. وتمثل الأشجار السياج الطبيعي المنيع المحيط بالقصر والذي يصعب اقتحامه. وعلى مساحات محددة من جوانب القصر هناك جسور خشبية صغيرة محدبة طويلة، تُستخدم كمعابر تصل القصر بالبر. والحراس ينتشرون على مسافات متساوية على كل جانب لصد أي هجوم قد يُقصد به أهل القصر. وتحديدًا وسط كل جانب، هناك جسر محدب أكبر مصنوع من الخشب، وله سور من أفرع الأشجار المجدولة بعناية فائقة. وبه جوسق تحيط به أزهار وشجيرات صغيرة. ويُستخدم كبوابة أمامية. ويقود أكبر هذه الجسور إلى بوابة كبرى، تؤدي إلى مدخل منكسر، ثم إلى بوابة أخرى، تقود إلى ممر طويل مسقوف بالأخشاب المتقاطعة ثم إلى بوابة القصر الحجرية الضخمة المقامة على كتل حجرية كبيرة، ويغلقها باب خشبي كبير ذو مصراعين. يقف عليه حراس غلاظ شداد.

 ويفصل القصر عن الطريق الرئيسي مجارٍ مائية صغيرة، تستمد مياهها من ماء النهر. ويسبح فيها البط والإوز والأسماك وكل أنواع الطيور المائية. وتوجد على جوانب المجاري المائية قوارب صغيرة للتنزه على سطحها. وتم تبطين جوانب المجاري المائية بكتل كبيرة من الأحجار المصقولة المشذبة. وفي الجانب الملاصق لحديقة القصر، يرتفع سور كبير من الأشجار الضخمة. ويقع خلفه سور خشبي كبير مرتفع لا يسمح لمن بالخارج بمشاهدة حديقة القصر ومن بداخلها. وعلى مسافات متساوية على جوانب القصر الخارجية، هناك سلالم صُنعت درجاتها وأسوارها من الأخشاب وأفرع الأشجار، وتصل إلى المجاري المائية، وتغلق بأبواب خشبية من داخل الحديقة حتى لا يتسلل أحد من خلالها إلى داخل الحديقة.

 تشعر «ميريت» بالملل. تتحرك في جناحها بالقصر جيئة وذهابًا في قلق وتوتر. تحاول حاملة اللقب المهم والراقي «المعروفة لدى الملك»، والسيدة التي تنتمي للطبقة العليا، الهروب من سيطرة مجتمعها الراقي الخانق لها، والذي يكبت كل رغباتها، ويقمع كل حريتها. تحاول أن تخرج من القصر وأن تعيش حياتها المتمردة خارجه كما يحلو لها، خصوصًا وأن فيضان النهر على أشده هذا العام. تريد أن تصلها رسالة من حبيب مجهول يقول لها فيها:

- اشتقت لكِ.

 تحلم بمن يتسلل إليها خفية ويسرق قلبها، يهرب من كل شيء إلا منها ومن حبها، يهرب من هيمنة الحياة الصاخبة والطاغية. ويصل إلى قلبها الثاوي في صدرها المتشوق للعشق. يختلق لها ألف حجة وحجة وألف مبرر ومبرر كي يصل إليها، ويحظى بقربها، ويخطف قلبها الجميل، وينعم بها ويستمتع بحبها، وكي تسعد هي الأخرى بحبه إلى الأبد؛ فقلبها ممتلئ بأشياء كثيرة لكنها لا تهمها، غير أنه فارغ من الشيء الوحيد الذي تهفو إليه:

- الحب.

 من كثرة ما عرفت وسمعت وقرأت عن قصص العشق والعشاق تخشى أن ينكسر قلبها، أو أن تُصدم في حب شخص ما غير جدير بالاستحواذ على قلبها البريء. سوف تسعد لو أسعدها زمانها ومنحها الحب، وجاء لها بالحبيب الذي تحلم به وتريده، حب العمر كله سوف تبثه فيه وله.

- غير أن الحب، يا «ميريت»، تعب وجهد، ولابد للإنسان أن يتعب كي يحقق ما يحلم به، ويجتهد كي يحصل على ما يصبو إليه.

هكذا علّمها معلمها «آمنموبي» في المعبد، وهي صغيرة تدب بقدميها الصغيرتين على أرضية مدرسة «بر عنخ»، أو بيت الحياة، الملحق بمعبد الإله «بتاح»، رب الفنانين والصّناع، في العاصمة «منف».

تبعد شعرها الأسود الفاحم الناعم الطويل إلى الخلف من رأسها. شعرها المفروق من المنتصف، ويصل إلى مؤخرتها. تخفي شعرها تحت غطاء رأسها الرجالي. ترتدي ملابس التخفي في زي الرجال كي تنجح في الخروج من القصر العتيق. تغافل الحراس بذكاء دومًا. وتختار أحد السلالم الذي تظلله الأشجار، وتوجد بينه وبين البر الآخر مسافة قصيرة للغاية. تستقل في الغالب قاربًا صغيرًا. وعادة يكون هذا القارب الصغير في انتظارها، بعيدًا عن أعين الحراس، عند ثغرة ما في الأسوار، وعند موعد تغيير نوبات الحراس. ويكون، المدعو «رِن»، أحد الحراس المقربين إليها قد أعدّ قاربها، بعد دراسة هذه الثغرات لفترات طويلة ومعرفة أماكن وأوقات خلوها من الحراس عند تغيير الحراسة. تبحر متخفية في القارب الصغير بعيدًا عن عالم القصر المقبض لها.

 إذا نظرت إلى وجهها الآن، سوف تجده منورًا كالبدر في ليلة التمام. كم هي سعيدة الآن بفعل هذه المغامرات التي تطرب نفسها وتسعد بها روحها. ترتد إليها ثقتها في نفسها. تقبل على الحياة بروح جديدة، روح تعيد إليها روحها الهاربة منها رغمًا عنها، روحها التي هربت منها بعد رحيل والديها اللذين كانا يحبانها بشدة، وكانا يدللانها بكل حب وحنان. لقد فُرضت عليها تلك الإقامة الإجبارية في قصر أخيها حتى تكون تحت عينيه اللتين لا تغفلان عنها أبدًا.

 تمر من أسفل أحد الجسور الصغيرة سعيدة، وتضحك لتظهر سخريتها من العالم كله، ومن أخيها، ومن قصره ومن حراسته المشددة. تضرب بقوة بالمجدافين، فرحة ومسرعة، حتى تخرج إلى المجرى الصغير الذي يقودها إلى النهر الكبير. تحس بأن الحياة تدب في أوصالها، تسري في روحها، تختلج لها نفسها، تحب الحياة وكأن الحياة لها وحدها. الحياة فريدة وجميلة بالنسبة لها. وحيدة «ميريت» مع كلبها المخلص توتو. تحس أنها منتصرة. تمارس حريتها كما يحلو لها، وبأقصى عنفوانها وجنونها الشقي اللذيذ. تبدأ نزهتها الخلوية بعيدًا عن أعين الحراس المراقبين لها من قبل أخيها المزعج لها دومًا. 

«ميريت» عذبة كالنهر، وثائرة وهائجة ومتمردة كالبحر. جميلة في كل شيء؛ فهي الجمال كله، كل الجمال، تجدف بقاربها الصغير، فيظهر طولها الفارع. يتطاير شعرها الأسود الطويل في الهواء، تزيحه بعيدًا عن عينيها بين لحظة وأخرى. لونها الخمري العذب الشيق المثير يذيب الأفق عشقًا وشوقًا. تكشف حركتها للمجدافين عن فخذين ممتلئتين قويتين رياضيتين، وساقين طويلتين ممتلئتين، وقدمين صغيرتين، ومؤخرة بارزة مدملجة نافرة مشدودة كالوتر الحاد، تهتز مع ضرباتها للمجدافين. تشد أعين الرجال لها بقوة. بطنها مستدير وبه سرة جميلة، وخصرها نحيل، وثدياها بارزان مشدودان، وذراعاها ممتلئتان مثيرتان قويتان، وأصابع يديها طويلة ودقيقة. توقع الجميع في عشقها بجنون. وجهها مستدير صغير. جبهتها عريضة. عيناها نجلاوان مكحلتان على اتساعهما. رموشها طويلة سوداء سواد الليل. حاجباها منحنيان طويلان دقيقان. أنفها طويل يقسم وجهها إلى نصفين متساويين. خداها ممتلئان مشدودان. وتبرز شامة صغيرة أعلى خدها الأيسر تزيد من حسنها وبهائها. شفتاها ممتلئتان مكتنزتان.

 يقف كلبها الأسود الكبير الوفي المدلل الأثير، «توتو»، في القارب ملتصقًا بها. تداعب ذيل «توتو» الأبيض. يرافقها في كل خطواتها، كأنه ظلها. يهز ذيله الطويل. للكلب أذنان كبيرتان، وشعر كثيف، ولسان يلهث طوال الوقت. وجهه طويل ونحيل ومدبب. وصدره أبيض اللون. تربت على ظهره، ينتفض في الهواء، ثم يهبط في القارب. يهب واقفًا. يهز ذيله الطويل السميك ذا اللون الأبيض. مقدمات أرجله الأربع بيضاء اللون. يتوسط مقدم رأسه خط أبيض، ومقدمة فمه بيضاء أيضًا. تنظر إليه بحب، يفرح بشدة، ويهز ذيله، ويفتر ثغره. هو مؤنس وحشتها، ومبدِّد وحدتها، وصانع بهجتها في تلك الحياة الجافة التي تحياها، ومجدِّد أملها في حدوث أي شيء يفرح قلبها في المستقبل القريب أو البعيد أيًا كان. يربض على أرض القارب كأسد جسور. ينام على جنبه الأيمن. تداعبه. يقف. يجلس ثانيةً. يقترب منها. تقبل رأسه. يجلس إلى جوارها. يتمسح في جسدها. تقبله ثانيةً.

تنهي رحلتها السعيدة السرية وتصل إلى المجرى المائي الذي يقودها إلى حديقة قصر أخيها. تدخل إلى المجرى المائي الصغير بهدوء. تبحث عن المكان الذي سوف تتسلل منه إلى داخل حديقة القصر، كما أشار عليها حارسها «رن». تدخل متخفية، كما جاءت، دون أن يشعر بها أحد. تجري سعيدة في الحديقة. ويجري «توتو» وراءها، سعيدًا هو الآخر. تدخل إلى القصر متعجلة، دون أن يحس بغيابها أحد. تغلق باب القصر من ورائها، وتترك كلبها بالخارج أمام باب القصر؛ كي تثير غضبه غير جادة. ينبح بصوت مرتفع. يقف على قدميه الخلفيتين. يخبط على الباب برجليه الأماميتين. يعلو صوته. يأخذ في البكاء. تفتح له الباب مسرعة. مبتسمة. معتذرة. تحتضنه. يدخل وراءها إلى القصر. تدخل إلى حجرتها. يهز ذيله، سعيدًا، واضعًا إياه بين ساقيه الخلفيتين. تنام على الفراش. يصعد إليها. ينام إلى جوارها. في حضنها. تنزل من على الفراش. أشارت له بالبقاء. تبعد عنه. ينظر إليها الكلب متلهفًا مستفسرًا عن السبب. لا يقدر على البعد عنها، ولا يقصر أبدًا في حمايتها.

 يجلس على الفراش مشرئبًا. متطلعًا إلى لحظة عودتها. ترتد إليه روحه حين يراها قادمة من بعيد. يفرح. يهز ذيله. يدور حولها. يحني رأسه للأرض. تعطية قطعة من القماش. يقبض عليها بفمه بقوة. تدخل كي تستحم. يقبض على قطعة من ملابسها الداخلية. تخرج من الحمام، عارية، تبحث عنها، فتجدها في فمه. ترجوه أن يعيدها إليها. يرفض. يريد أن يلعب معها. تغضب. يقترب منها مسرعًا. يفتح فمه. فتلتقطها منه. يضرب برجله اليمنى الأرض سعيدًا برضاها عنه. تخرج من الحمام في كامل ثيابها الجميلة. تلعب معه. يفرح. تأمره أن يجلس على الأرض. يجلس مطيعًا، وذيله ملتصق بالأرض خلفه. تقدم له طعامًا وشرابًا. يرفع رأسه. تُطعمه. يأكل من يديها الجميلتين. تضع له الماء في إناء تحمله في يدها. يشرب. يحرك أذنيه. يخرج لسانه لها مداعبًا. يهز ذيله. يأكل سعيدًا. يشرب فرحًا. لا يشرب ولا يأكل من أى أحد غيرها، ومن يديها فقط. ينبح. تربطه في الطوق، الذي كتبت عليه اسمه واسمها، وتمسك الحبل بيدها، وتسير.

تخرج من حجرتها بالقصر. تسير في الحديقة. تجد طفليّ أخيها الصغيرين، البنت الجميلة «نفرت» والولد الوسيم «عنخ»، يدوران سعيدين حول جذع شجرة ضخمة. يتعب الكلب من السير. تجلس. ينام الكلب على حجرها. تداعب فمه بأصابعها. تطعمه لقيمات صغيرة. يقفز الكلب في الهواء سعيدًا. بقدمه اليسرى الخلفية يحك الكلب أذنه. تعاود السير به في جولتها الصباحية في حديقة القصر، وحوله، بين سوره الخشبي الداخلي وسوره الكبير المبني من كتل ضخمة من الأحجار المصقولة والمشذبة ذي الأشجار الضخمة المرتفعة الموجود، خلف المجاري المائية الصغيرة المحيطة بالقصر. عادت مع كلبها من جولتهما الصباحية. وفي الغروب، تأخذ «توتو» في جولة مسائية شبيهة، وتكرر نفس التجول في حديقة القصر وبالقرب من أسواره المنيعة.