الجمعة 5 يوليو 2024

حكاية‭ ‬فيروز‭ ‬الفرنسية

فن17-10-2020 | 16:45



ضجت وسائل الإعلام فى العالم العربى باللقاء الاستثنائى بين الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون والمطربة الكبيرة فيروز فى منزلها فى الرابية قرب بيروت فى لبنان، حيث منحها أرفع وسام فرنسى هو وسام «جوقة الشرف» برتبة قائد الذى أنشأه نابليون بونابرت عندما كان القنصل الأول للجمهورية الأولى فى التاسع عشر من مايو 1802، وقد أهدته فيروز لوحة فنية قيل إنها قطعة من خشب الأرز اللبنانى حفر عليها إسم ماكرون. حول العلاقة بين فرنسا وفيروز والتي تعود إلى نحو ستة عقود، تدور جولتنا على الصفحات التالية.....


 

على عكس ما أُشيع مؤخراً، جاء أول ظهور لفيروز على التليفزيون الفرنسى فى عام 1963 وليس 1975، فى ديسمبر من ذلك العام زارت بعثة من التليفزيون الفرنسى لبنان لتصوير شريط إخباري عن لبنان، وزارت تلك البعثة فيروز وعاصى الرحبانى فى منزلهما فى أنطلياس واتفقت معهما على تصوير فيروز وهى ترتل فى مناسة عيد الميلاد المجيد، وقامت البعثة بتصوير فيروز وهى ترتل فى كنيسة جبيل الصليبية الأثرية مع جوقة الكسليك بقيادة الأب يوسف خورى، غنت فيروز ترنيمة سيريانية هى «شو بحب هاو قولو» أو كما تعنى بالعربية «سبحان الكلمة» أنشدتها فيروز باللغة العربية خلال التصوير ورددت خلفها الجوقة باللغة السيريانية.

المعروف أن الفنانة فيروز من طائفة السيريان الكاثوليك، وتجيد الترتيل باللغة السيريانية ورتلت بها فى غير مناسبة، وترنيمة «سبحان الكلمة» صدرت باللغة العربية بصوت فيروز على أسطوانات فى بداية الستينيات، ثم رتلتها فيروز بصوتها باللغة السيريانية فى عيد الميلاد فى ديسمبر من عام 1986، وصدرت بعد عامين ضمن أسطوانة «فيروز فى كنيسة سانت مارجريت»، ويحتفظ التليفزيون الفرنسى فى مكتبته بهذا التصوير النادر الذى يتمنى الملايين من عشاق فن فيروز مشاهدته خصوصاً بعد عرض التليفزيون الفرنسى أخيراً وبعد لقاء ماكرون بفيروز، مواد مصورة من أرشيفه على الإنترنت من بينها مقابلة نادرة أجراها معها بمناسبة إحيائها حفلتين فى مسرح «أوليمبيا»  عام 1979.

 شتى يا دنيى بالفرنسية

فى العام التالى 1964 أقام الأخوان رحبانى دعوى قضائية ضد المغنى الفرنسى ساشا ديستيل بعد قيامة بغناء كلمات فرنسية على لحن أغنية فيروز «شتى يادنيى» وطبعها على أسطوانة فى فرنسا، دون الحصول على إذن منهما أو حتى ذكر اسميهما على غلاف الأسطوانة باعتبارهما مؤلفى العمل، وربح عاصى ومنصور الدعوى وحصلا على تعويض من ساشا.

قبل أن تغنى فيروز فعلاً فى مسرح أوليمباد باريس عام 1979، كانت تلقت عرضين للغناء فيه لم يتم تنفيذهما للأسف، أولهما كان فى عام 1971، ففى أغسطس من ذلك العام زار فيروز فى بيتها الصيفى فى بكفيا فى لبنان المغنى الفرنسى الشهير شارل أزنافور الذى حضر إلى لبنان وقتها لإحياء حفلات فى دير القلعة، كان اللقاء مع فيروز وعاصى حميمياً، قدمت فيروز له ولأسرته المشروبات بنفسها وقدمت ساندوتشات صنعتها بنفسها لأطفاله، وتحدثت معه عن حفلاتها المقبلة فى مسرح «أوليمبيا» فى باريس. وأعرب أزنافور عن سروره لحضور فيروز للغناء فى باريس خصوصاً أنها من بين فنانيه المفضلين وأخبرها بأنه يقتنى فى منزله الباريسى مجموعة كبيرة من أسطواناتها، وعندما علم بأمر جولتها فى الولايات المتحدة الأمريكية المقررة فى خريف ذلك العام، نصحها بوصفه عائداً لتوه من هناك، حيث أحيا حفلات، نصحها بوجوب التعاقد مع الأمريكيين على كل صغيرة و كبيرة وذكر ذلك فى العقود نصاً.

تلقت فيروز العرض الثانى للغناء على مسرح «أوليمبيا» فى صيف عام 1974، وفى يوليو من ذلك العام جاء المغنى الفرنسى جورج موستاكى إلى لبنان ليحيى عدة حفلات، وطلب لقاء فيروز واستقبلته فى منزلها الصيفى فى بكفيا، وفى تلك الغضون حضرت الفنانة الفرنسية ميراى ماتيو إلى بيروت لإحياء ثلاث حفلات فى قلعة جبيل الأثرية، وأعربت عن رغبتها فى مقابلة فيروز، وكان اللقاء فى البيت الصيفى نفسه، فى ذلك اللقاء دعتها ميراى ماتيو للمشاركة معها فى مهرجان ميراى ماتيو الغنائى الذى يصور فى تليفزيون مدينة ميونيخ فى ألمانيا، ويعرض على محطات تليفزيونية عالمية ويشارك فيه إلفيس بريسلى، وتوم جونز، ودانى كاى، وعشرات من أشهر مغنى العالم.

تحدثت معها فيروز عن حفلاتها المقرر إقامتها فى يناير من العام التالى 1975 فى مسرح «أوليمبيا» فى باريس، التى كان مقرراً أن تشارك فيها مع فيروز شارل أزنافور، غير أن فيروز لم تشارك للأسف فى مهرجان ميونيخ، ولم تغنِ فى مسرح «أوليمبيا» كما كان مقرراً، لكنها رحبت بدعوة ميراى ماتيو لها بالمشاركة معها لتحل ضيفة فى حلقة من حلقات برنامج « الرقم 1 خاص مع ميراى ماتيو» الذى قدمت منه ماتيو عشر حلقات خصصت لكبار المغنين فى العالم، ومن بينهم فيروز، غنت فيروز فى البرنامج للجمهور الفرنسى أغنيتها المشهورة «حبيتك بالصيف» التى ذاعت فى فرنسا وسبقت شهرتها حضور فيروز، فى تسجيل جديد من توزيع إلياس الرحبانى.

 كانت فيروز قدمت الأغنية لأول مرة ضمن مسرحية «يعيش يعيش» عام 1970 وبعدها بنحو عامين أُعجب بها المغنى الفرنسى جان فرنسوا ميكائيل، وقدمها فى نسخة باللغة الفرنسية حملت عنوان «كومبابلو» بعد الحصول على إذن من الأخوين رحبانى مؤلفي وملحني الأغنية، حققت وقتها النسخة الفرنسية رواجاً كبيراً فى فرنسا وخارجها. ورغم حرص جان فرنسوا على كتابة اسم الأخوين رحبانى بخط واضح على غلاف الأسطوانة باعتبارهما صاحبى اللحن الأصلى، إلا أنه مازال حتى اليوم كثير من الجمهور العربى يعتقد العكس، بأن الأغنية فرنسية اقتبستها فيروز.

 فيروز لأول مرة على مسرح فرنسى

فى مايو من عام 1979 وقفت فيروز أخيراً على خشبة مسرح «أوليمبيا» فى باريس لتغنى فى حفلين أمام جمهور عربى وفرنسى، بدأت فيروز حفليها بأغنية جديدة حملت عنوان «تحية إلى باريس» كلمات وألحان الأخوين رحبانى، يقول مطلعها: «باريس يازهرة الحرية يادهب التاريخ يا باريس/ لبنان بعتلك بقلبى سلام ومحبة وبيقلك لبنان/ راح نرجع ونتلاقى عالشعر وعالصداقة/عالحق وكرامة الإنسان».

 لاقت فيروز استقبالاً حاشداً رسمياً وإعلامياً واستقبلتها السيدة برناديت شيراك، زوجة عمدة باريس وقتها جاك شيراك الذى أصبح رئيساً لفرنساً فيما بعد، غير أنها لم تقلد أوسمة فرنسية وقتها، وتعد الحفلتان من أجمل الحفلات التى أحيتها فيروز وكانت آخر عمل مشترك جمع بينها وبين الأخوين رحبانى، قبل انفصالها عن زوجها عاصى الرحبانى وعن الأخوين رحبانى فنياً.

فى صيف عام 1987 كان مقرراً أن تحيى فيروز حفلاً كبيراً فى مدينة كان الفرنسية فى قصر المهرجانات الذى يقام فيه مهرجان «كان» وهو يتسع لنحو 2500 مقعد، ورغم وصول فيروز إلى مدينة كان ومعها فرقتها الموسيقية، ونزولها فى فندق «ماجيستك»، إلا أن الحفل أُلغى قبل ساعات قليلة من موعده، لأن فيروز رفضت أن تغنى لأسباب جاءت ملتبسة، قيل إن معظم بطاقات الحفل لم تكن قد بيعت بعد؛ بسبب عدم وجود مصطافين عرب فى المدينة، وأن فيروز رفضت أن تغنى فى مسرح شبه خاوٍ، وقيل أن المتعهد لم يكن وفياً مع فيروز فى التزاماته، وتبع ذلك قضية تداولتها المحكام الفرنسية، وتم تسويتها فيما بعد.

عادت فيروز إلى باريس فى خريف العام التالى 1988 لتحيى حفلاً كان استثنائياً بالفعل فى قاعة «بيرسى» فى باريس حضر الحفل خمسة عشر ألف شخص فى قاعة كانت تتسع لعشرة آلاف فقط، وذلك بسبب الإقبال الكبير، ناهيك عن آلاف أخرى كانت تنتظر فى الخارج على أمل الحصول على بطاقة، صاحب فيروز فى الحفل زياد رحبانى عزفا على البيانو، استقبلت فرنسا هذه المرة فيروز استقابلا رسمياً لم يسبق له مثيل، كانت فيروز قد أضحت رمزاً وطنياً لبنانياً توحدت خلف صوتها كل الفصائل الطافية فى لبنان، استقبلها وزير خارجية فرنسا رولان دوماً فى مقر وزارة الخارجية فى سابقة استثنائية، وقلدها وزير الثقافة الفرنسى جاك لانج، باسم رئيس الجمهورية فرنسوا ميتران وسام الآداب والفنون برتبة كومندور فى مقر وزارة الثقافة، فيما يشبه المؤتمر الصحفى، ألقى لانج كلمة فى المناسبة جاء فيها: «إنك تملكين سيدتى صوتاً أكبر فى ذاكرتنا وحنيننا إلى هذا آل «لبنان» الذى كان فردوساً أرضياً، وبرهاناً حياً عبر عشرات السنين على التكامل الضرورى والمثرى للثقافات، كنتِ تغنين أمام أعمدة بعلبك وكانت آلهة الرومان وآلهة الفينيقيين تبتسم وتنصت إليك، جعلتِ من نفسك ليس فقط سفيرة لبنان إلى النجوم ولكن أيضاً رمزاً لمجموعات ترفض أن تموت ولن تمـوت، لقد استمعت إليك سيدتى، صوتك يملك نقاء البداهات الأولى، البداهات التى لا تسمح بأى تناول وبأى تواطؤ، إنه يشع بهذا التأثر الذى يعجز اللسان عن وصفة والذى تنشره عطور لبنان وألوانه، وإيقاعاته صوتك سيدتى هو استثنائى فعلاً لأنه لا يمكن الاستماع إليك دون الإحساس بتأثير كبير حتى ولو لم نفهم كلمة واحدة من لغتك».

ظهرت فيروز فى مقابلة تليفزيونية جديدة على القناة الثانية فى التليفزيون الفرنسى مع مقدم البرامج المشهور فريدريك ميتران، ابن شقيق الرئيس الفرنسى فرانسوا ميتران، الذى خصص لها حلقة من برنامجه «دو كوتيه دى فريد» كان من بين الحضور فى الحلقة الأديب الجزائرى الطاهر بن جلون، والمخرج اللبنانى برهان علوية، ومندوب جامعة الدول العربية فى باريس حمدى الصيد، ورئيس بلدية مدينة تولوز دومنيك دوبيس وآخرون، غنت فيروز ضمن الحلقة أغنيتى «يارا» و«ماقدرت نسيت» عرض قسم من الحلقة ضمن شريط الفيديو كاسيت التجارى الذى طرح فى الأسواق لحفلة بيرسى.

فى عام 1996 حضرت بعثة من التليفزيون الفرنسى وصورت تحقيقاً مع السيدة فيروز كان أجمل مافيه أنهم اصطحبوا فيروز إلى قلعة بعلبك ومعبد جوبتر، حيث كانت تحيى مهرجان بعلبك لسنوات طويلة وقبل أن يتوقف بسبب الحرب الأهلية عام 1975، وصوروا كليبا لها وهى تتجول فى أطلال هيكل جوبيتور على خلفية صوتية لأغنيتها «راحوا متل الحلم راحوا» التى قدمتها مع الأخوين رحبانى فى المهرجان عام 1961 ضمن منوعات حملت عنوان «البعلبكية» وبدت فيروز فى التصوير وكأنها ترثى زمناً ولى ولن يعود، ذلك قبل أن يعود المهرجان من جديد عام 1997 وتعود إليه فيروز فى العام التالى مع منصور الرحباني.

وسام جديد..

 وفيلم تسجيلى عنها

لم تغب فيروز كثيراً عن بال فرنسا، ففى العام التالى 1997 منحها الرئيس الفرنسى جاك شيراك وسام جوقة الشرف برتبة فارس قلدها إياه السفير الفرنسى فى لبنان، جان بيار لافوان، فى حفل إقيم فى قصر الصنوبر فى بيروت مقر السفارة الفرنسية، وقال لافوان وهو يعلق الوسام عل صدر فيروز: «إن رئيس الجمهورية الفرنسية جاك شيراك أراد بمنحه هذا الوسام للسيدة فيروز، تكريم الإشعاع العظيم الذى يجسده صوتها، وتكريم شجاعة هذه السيدة التى رفضت إخضاع صوتها لقضية ما إلا لوحدة الشعب اللبناني».

ويبدو أن هذا التقدير الفرنسى الرسمى لفيروز فتح شهية مقدم البرامج والمخرج ووزير الثقافة الفرنسى لاحقاً فريدريك ميتران، الذى حضر إلى بيروت لتصوير فيلم وثائقي عن فيروز، جاء ضمن سلسلة أفلام حملت عنوان «ميوزيك بلانيت» تناولت سير مشاهير الغناء فى العالم، وكان الفيلم الوحيد الذى ظهرت فيروز فيه وهى تتحدث عن طفولتها وحياتها ومسيرتها الفنية.

بعد مرور خمسة أعوام وفى صيف عام 2002 عادت فيروز إلى فرنسا حيث أحيت آخر حفلين لها فى باريس فى مسرح «بلاييل» حققا نجاحاً كبيراً، حتى أن تذاكرهما نفدت قبل أسابيع من موعد إقامتهما، كان من بين من حضروها شارل أزنافور وفريدريك ميتران والممثلة جان مورو وجان بيركين وجان كلود بريالى وجانى أردان وسافو، كان برنامج الحفلتين استثنائياً فقد غنت فيروز عدداً من الأغنيات تحية إلى الشعب الفلسطينى بدأتها بـ«زهرة المدائن» مروراً بـ«ياجسراً خشبياً» و«جسر العودة» و«غاب نهار آخر» انتهاءً بـ«سيف فليشهر» كما غنت «حبيتك بالصيف» التى لم تقدمها فى حفلاتها منذ عقود وغنت «بيذكر الخريف» التى كان لها وقع آخر عند الجمهور الفرنسى لكونها فى الأصل أغنية فرنسية مشهورة للفنان إيف مونتان «الأوراق الميتة» حولها إلى العربية ووزعها لوالدته زياد رحبانى.

فى مؤتمر صحفى عقده الفنان شارل أزنافور فى بيروت العام 2017 عند حضوره إلى لبنان لإحياء سهرة فنية ضمن مهرجان مدينة فقرا، أعرب عن رغبته الشديدة فى مشاركة فيروز غناء دويتو مشترك بينهما، وقال إن الفكرة كانت مطروحة بيننا منذ سنوات، وأكد أنه على استعداد لتعلم اللغة العربية والغناء بها مع فيروز لو أرادت ذلك، غير أن الفنان الكبير رحل فى العام التالى قبل أن تحقق له فيروز أمنيته التى كانت ستسعد الملايين فى العالم العربى وفى فرنسا.