الأربعاء 29 مايو 2024

"هوارية" فى قبيلة العرب

فن18-10-2020 | 12:00

أنتمى لقبيلة العرب بقرية الصياد التى تمثل "كوزموبوليتان" للصعيد، ففيها العرب والهوارة وبعض المهاجرين إليها من قرى أخرى بالإضافة إلى المسيحيين.

القرية بها جسر يقطعها شطرين يسير بمحازاة النهر العظيم، الشطر الأول على النيل وهو أراض زراعية كان الفيضان يغطيها قبل بناء السد العال، و كان الشطر الثانى خلف الجسر وبه كل مكونات القرية من كل فئاتها وأشكالها وألوانها، فالبيوت المتداخلة لا تعرف حدودا لقبائلها أو ديانتها إلا بالنجوم ورسوم الحج على منازل المسلمين والصليب سواء المنقوش بالطوب فى الحائط أو على الأبواب الخشبية أو الحديدية.

قريتنا لا تفرق بين مسلم ومسيحى، فالكل يجلس أمام منزله على "الدكة" أو "المصطبة" يرتدى نفس الزى، حتى المرأة هنا لا تستطيع أن تميزها، نفس الطرحة السوداء أو الشال لكبار السن بنفس اللفة والحشمة، فالكل سواء حتى فى العزاء لا يفرق بين عزاء وآخر سوى قماش السرادق، إما منقوش بآيات قرآنية أو رسومات للصليب ليس إلا.

ساحة كبير ة تتوسطها شجرة "لبخ" عجوز تمتد جذورها لما قبل أجدادى، نُثرت حولها الأساطير بأن الكثيرين ممن يخطئون فى حق الناس تم ربطهم فيها وجلدهم بكرباج سودانى أو ضربهم بالخيرزان الرفيع، كان يملكها جدى "شيخ الناحية" والناحية كانت أكبر من القرية كانت عدة قرى ونجوع.

 "المندرة" عالية المبانى ذات الشبابيك الخشبية المرتفعة فكل شباك به أربعة "درف" رأسية يفتح كل اثنتين معاً، الشبابيك طولية فى مبانى حوائطها عريضة جداً كنا نلعب فى ساحتها، وكان "الحلب"يقيمون فيها أشهر الحصاد يقومون بتقليم أظافر الحمير بعد قصها، وأيضاً بعضهم يعمل فى بيع منتجات خاصة بهم، كالربابة وبيع بعض الحلوى أو حتى الحلاقة للأولاد الصغار مقابل بعض المحصول، وكان يسمى "خينة" وهى مقابل العمل أو المنتج من المحصول سواء قمحًا أو ذرة أو فولًا أو شعيرًا، كانت نساؤهم تعمل بضرب الودع أو بيع بعض المنتجات الخاصة بالسيدات.

كنا نلعب بساحة المندرة حتى حلول الظلام ولا نذهب للبيت إلا للأكل فقط، كانت جدتى تدعو لوالدى أن يمتلك أعلى بيت فى البلد وأن تكون المندرة "قعدته". وكانت "المشيخة" سبباً في وضع العائلة فى مأزق ضياع الأرض.

كان كبير العائلة يكتبون كل الأراضة باسمه حتى يكون من ذوى الأملاك ويحصل على المشيخة، وعندما تم كتابة الأرض وتسجيلها بالشهر العقارى باسم جدى الشيخ "خليفة" حصل على المشيخة وتوفى ولم يكن له أولاد وكانت بناته "قُصر" فتدخل المجلس الحسبى وحافظ على الأرض للبنات القُصر، حتى إن البنت حصلت على أراضى ضعف عمها، وأيضاً لم تنصف العادات والتقاليد ذكور العائلة، فالبنات تزوجن من فروع أخرى من القبيلة قبل إتمامهن سن البلوغ الرسمى، وحصل أزواجهن على الأرض وخرجت العائلة بخفى حنين كما يقولون.

لا أعرف جد والدتى الشيخ "عباس" كيف تزوج من جدتى "رابعة"، فالحكايات كثيرة ومعظمها أساطير حول زواج واحد من قبيلة العرب لـ"هوارية"، وقد كان متزوجاً قبلها وأنجب ثلاثة أولاد "الشيمى وعبدالرحيم وأحمد" وأنجب من جدتى "رابعة" "أنور وفاطمة" وكانت مشيخة الناحية متوارثة فى عائلتنا .

مات "عباس" وتزوج جدى "محمود" من جدتى رابعة "الهوارية" وأنجب والدى ناجح، وبعد عدة سنوات تزوج جدى بأخرى فحرمته جدتى من لمسها، وسافر مهاجراً لمحافظة بنى سويف وأقام فيها وأنجب ولدين وأربع بنات، ولم يرجع البلد إلا بعد وفاة جدتى "رابعة" بأكثر من عشرين عاماً.

كانت جدتى "رابعة" تقوم الليل ومعروفة بتقواها وصلاحها بين الناس وبحدتها فى الحق، فلم يكن يقترب من والدى أحد خوفاً منها، أورثتنا التقوى وعدم الخوف من قول الحق حتى ولو على رقابنا السيوف.. المهم أنها الحقت والدى بالمدرسة ولم تستطع تحمل المصاريف الزهيدة، فالخمسة قراريط التى ورثتها عن زوجها السابق بالإضافة إلى ست قراريط أخرى ورث ابنتها فاطمة لم تكن تكفى، ولم تشفع شطارة والدى وتفوقه في الدراسة بل خرج للعمل قبل أن يكمل العشر سنوات.

كان والدى متميزاً بذكائه عن أقرانه من أبناء العائلة، وكانوا يقولون له "أنت فتلة زرقة زى اخوالك هوارة" كان والدى يعتبرها مدحاً لذكائه، وكان محبوباً من الجميع رغم قسوة الحياة ورغم حنان الأم "الهوارية"والأخت "فاطمة" التى ساعدت جدتى فى تربيته.

بدأ والدي يكبر ويشتد عوده، فذهب إلى ليبيا سيراً على الأقدام هروباً عبر الجبال مع من فى ضعف عمره، وعمل بليبيا واشترى أول جهاز  لتشغيل أسطوانات الأغانى "بيكب" يعمل بالبطاريات بعد عام من العمل فى مهن مختلفة.

رجع والدى يحمل معه الجهاز وبعض الملابس لوالدته وأخته، ثم سافر لرؤية والده ببنى سويف وأعجب ببنت هناك تسمى "سيدة" ورجع إلى البلد ليقول لجدتى التى رفضت هذه الزيجة، وقالت له لا تتزوج من غريبة حتى لا يكونوا أولادك مكروهين وسط العائلة وتكرر تجربة أبيك مع أولادك، وغضب لكنه أمتثل لـ"الهوارية" التى لا يستطع أحد عدم الامتثال لأمرها، واقترحت عليه الزوج بأمى بنت الشيمى، والدى لم يكن مرحباً وكان يفضل الزواج إما بواحدة من بنات خالاته "الهواريات" أو "سيدة" البنت التى أحبها، لكنها كانت أوامر "الهوارية " التي لا تُصد ولا ترد.. وبدأ والدى فى مراقبة الزوجة التى رشحتها له والدته وكان يذهب للساقية كل يوم حتى يراها ويراقبها، وبدأ يقتنع بها وبدأت مفاوضات تفاصيل الزواج.

كان جدى لأمى لا يحب والدى كثيراً ولكنه كان يراه ذكياً وله مستقبل، ومن باب المصلحة أتم الزيجة لكنه وضع شروطاً، وهنا تدخلت عمتى "فاطمة" وكانت ترث نفس الحدة مع أخواتها من والدها، يقابلها حنان العالم تجاه والدى أخيها غير الشقيق من ناحية الأم، وأجبرت جدى لأمى أخاها غير الشقيق من ناحية الأب على قبول والدى زوجاً لابنته بما يمتلكه وعدم الامتثال لشروطه، وأصبحت " فاطمة" عمتى وعمة أمى فى الوقت نفسه.

كرر والدى السفر إلى ليبيا وأدخل أول جهاز تليفزيون ملون القرية، بدأ بتشغيله فى بداية الأمر على بطارية سيارة نقل إلى أن تم دخول الكهرباء البلد وكنا أول من قام بتركيب عداد كهرباء للمنزل.

كانت جدتى "الهوارية" تنتظر حفيدها فأول طفل لوالدتى توفى صغيراً ولم تحمل والدتى لمدة عام، تخلل القلق العائلة وتصادف مرور "حلبية" من ضاربى الودع وأعطت لأمى نصيحة مجربة، على حد قولها، أن تستخرج جسمان الطفل المتوفى وتضعه على حجرها وكأنها ترضعه ولا تقول لأحد ثم تقوم بدفنه مرة أخرى.

بالفعل كان اليأس بدأ يدق باب والدتى وبعد تردد وخوف ورعب قامت بعمل هذا الفعل حتى تنجب ولم تقل لأحد وقتها.

وحملت والدتى وأنجبتنى وأسمتنى عمتى فاطمة بـ"خالد".. هى من اختارت الاسم.

كانت جدتى "رابعة" بدأت تجاعيد وجهها فى الظهور كانت لا تأتمن والدتى على حمايتى فكانت تحملنى معها طول الوقت، وعندما تشعر أننى جائع كانت تأخذنى لوالدتى للرضاعة والرجوع مرة أخرى لحجرتها.

بدأت أكبر وكان والدى يأتى بالفاكهة فيضع بعضها فى حجر جلبابى الصغير وأجرى إليها وكنت أراقبها وهى تأكل مما جلبته لها فى حجرى وليس مما أعطاها والدى.

أتذكر  شعرها  الأحمر من صبغة الحناء ووجهها المشرق الناصع البياض الذى لم أتوارثه وورثته عمتى وأولادها ونحن ورثنا السمار من جدى.

كانت دائمة الدعاء لى ولوالدى كنت معها حتى أثناء استحمامها، كانت تجلسنى خلفها مغطية عورتها جالسة فى "طشت" نحاسى وأمامها  "حلة" ممتلئة بالماء الساخن يخرج منه بخار كثيف أسمع صوتها بوضوح تدعو لى ولوالدى، كثيراً تنادى علىٌ بعد أن تقوم بتقبيل يدى الصغيرة وتضع فيها "ليفة" أفرنجى، كما كنا نسميها، مملؤة برغوة الصابون "أبو ريحة" وكنت أقوم بوضع الليفة على جسدها النحيل بيدي الصغيرتين وابدأ فى عملية "التلييف"، وكنت كل مرة أسير بالليفة على عمودها الفقرى فى منتصف ظهرها وكأنى أقوم بعملية عد وإحصاء لفقراتها وأنا اضحك، وهى مازالت تدعو بصوت عالٍ وتضع الماء الساخن على ظهرها من الحلة عبر كوب كبير خصيصاً للاستحمام لإزالة رغوة الصابون من يدي وظهرها، ثم ترتدى ملابسها وسرعان ما ترجع بماء الوضوء وتتوضأ وتقوم للصلاة ولا أستطع مقاومة النوم، ولا أشعر بها إلا وهى توقظنى للإفطار.

أشعر أن دعواتها هى التى أوصلتنى ووالدى لما نحن فيه من خير، فقبل أن تتوفى جدتى أعطتنى ووالدى كنز دعائها بمفردنا، وبالفعل سافر والدى السعودية وعمل بها وتعرف على صديق سعودى وعرض عليه الشراكة فى التجارة، وكانت المشكلة فى تغيير المهنة فى جواز السفر من مقاول إلى تاجر حتى يستطيع ممارسة التجارة مع شريكه، وأخيراً وجد الحل فى وضع صفة بائع متجول فى الجواز للتحايل على عدم وجود رخصة محل أو بطاقة ضريبية، واتصل بالشريك الذى أرسل المهنة فى التاشيرة طبقاً لما هو موجود، وبدأ والدى التجارة فى السعودية بكلمة شرف،  فالأجنبى هناك ليس له حق التملك، المهم أن والدى حقق نجاحاً كبيراً وتوسع بالتجارة ورجع فقام ببناء "المندرة" بنفسه قبل منزلنا الذى أرسل مبلغاً لأحد أصدقائه من نجارين المسلح وقال له ابنى حتى ينتهى المبلغ، وكان شرطه الوحيد أن يعلو المبنى خزان للمياه، وبدأ البناء وبارك الله فى المبلغ وتم بناء خمسة أدوار بالإضافة لخزان المياه، وتحققت دعوات جدتى وأمتلك والدى أعلى منزل فى البلد حتى الآن. وبالإضافة إلى بناء المندرة التى كانت قعدته فيها للحكم بين الناس، وأيضاً "المندرة" مفتوحة للعزاء والفرح وللضيوف والسمر، بالإضافة إلى شراء بعض الأراضى.. وماتت "الهوارية" وتركت لنا كنز قربها من الله ودعواتها المستجابة.

قبل سنوات ليست ببعيدة أجلسنى والدى مكانه، فكنت من يحكم فى المشاكل ويزوج البنات "إخوتى".

وعندما بدأ يجنى ثمار تعبه وغربته وبدأ يرتاح من السفر والحرب مع الأيام القاسية اكتشفنا تليف كبده من مضاعفات فيرس سى، ومكث والدى قرابة العام ونصف العام معى بالقاهرة نعالجه بأفضل المستشفيات، ويعلم الله كيف مرت هذه الأيام لكن رغم مرضه كانت فرصة "اشبع" منه ومن والدتى التى لم تتركه لحظة وكانت مثالاً للوفاء والتضحية، وأثناء ذلك عرفت لماذا فضلتها "الهوارية "عن غيرها بعد طول الغربة والبعاد فى مرضه أيضاً ،جاءت بشرى الطبيب المعالج المشهور أنه شُفى من المرض ورجع إلى البلد وسينتظره للمراجعة كل ستة أشهر، لكن قدر الله كان سريعاً فلم يكمل الشهرين وتوفاه الله فى غرفتى.

أرسلت والدتى لعمتى أن والدى يريدها فجاءت على الفور وعندما وضعت يدها على جبينه غرقت يدها وجبينه بالدموع، وأخذت تكلمه كصغيرها وتذكره بما كان بينهما من حب وود وتقول له "مت أنت ورابعة وسايبنى بطولى يا والدى" ومرت الدقائق كالسنوات وتوقفت عقارب كل ساعات الزمن ووقفت على غسله ترشه بالماء، الماء الفاتر لم يعلم أحد إذا كان هذا الماء من دموعها أو من الماء المُعد للغُسل.

ترك والهوارية لنا كنزاً لا يفنى من الدعوات وحب الناس وعمل الخير وقول الحق ولو على رقبتى السيف.