في جنوبنا ويقيناً في غالبية الأماكن يخافون الموت ..يرونه وحشاً يخطف
الجميع ب" انذار " مرة ..ودون اي سابق انذار مرات ..في صعيدنا "
الجواني " يعملون ان هذا الزائر سيأتي حتماً ويدق على " البيبان "
ليرسم علامات الحزن ..خارجياً امام الجيران والاهل والاحباب ..وداخلياً حيث يحرق
القلب ويذهب بالعقل بعيداً ويضفي سكينة على الروح ..وهنا تظهر الصلابة ..ويظهر
الرجال في الصبر والتحمل ..وقد تخونهم عيونهم ب" دموع " لا سيطرة عليه
..وصوت متقطع حزين ..لا يمكن التحكم في نبراته الا بالصمت
كنت دون الخامسة ..عندما وجدت ابناء " العيلة " من يكبرني
منهم بعام او اثنين او اكثر يهرلون ..اسرعت الخطى وجدتهم يصعدون في مكان ضيق
..يومها اتسع لنا جميعاً ..مكان بين شجرتي نخل ..ملتصقتان ..وكونتا رقم
"7" وعند الالتصاق كانت وقفتنا
..هنا نحن " غرب " البيوت ..وعلى بعد مائتي متر ..طريق بين الزراعات
..لا يتجاوز عرضه متران ..وجدت عيني تذهب بعيداً الى تجمع كبير لرجال ..كانوا على
مسافة بعيدة جدا ..وكان وقتها النظر يسمح ان ترى ..وتميز ..وكان هذا التجمع يقترب .
ولكن صوت الرجال لا نميز ما
يرددونه ..حتى اقتربوا من المكان الذي نقف فيه ..ها هم يمرون أمامنا ..هم يتحركون
بسرعة ..والاتربة ترتفع بفعل تحركاتهم وتصب في الزراعات المحيطة ..كنا نرى الزرع
القريب من الطريق غارقاً بعرض مرتين في التراب ..ها هو الصوت يقترب ..يقول من في
المقدمة :" لا اله الا الله ..محمد رسول الله " ويردد من خلفه ..لا اله
الا الله ..محمد رسول الله .
تابعت ..الصوت ..وترقبت التحرك ..ورايت النساء ب" التوب الاسود
" ..هكذا نسمي " الثوب " ..وكانت جملة " هاتي التوب يا بت
" ايذاناً واعلاناً ان هناك ميت ..او هناك عزاء لقريب او بعيد او جار ..ما
زلت اترقب المشهد ..يتحركون ..والصوت يبعد ..يتحركون والصوت يقل ..تكاد اذني ان
تسمع فقط صوت تحرك بسيط للرياح ..او صوت للعصافير في شجر البرتقال الكثيف وفي
حدائق العنب التي تخصنا نحن وابناء عمي ..اختفي الصوت ..ولكني ارى " السائرين
" ..اراهم بمسافة استطيع ان اقدرها الان ب" 3 كيلو مرات " ..الان
هم يقتربون من طريق " الملايات " ..هناك سيتجهون غرباً ولن استطع ان ارى
منهم احداً ..وقد كان ..سمعت من جديد ..صوت ابن عمي وكان يكبرنا بسنوات ..كان
يقترب من العاشرة ..قال :" هم كده رايحين يدفنوا الميت ..هيدفنوه في الجبانات
ويرجعوا " ..كلمة " يرجعوا " علقت واستقرت في أذني ..وقلت لنفسي
..لن اغادر مكاني هذا ..تسلل ابناء عمي واحداً تلو الاخر ..وبقيت انا في مكاني
..تعمدت ان اصمت ..حتى لا يقول احدهم :" تعالي معانا هتقعد ليه " ..مر
وقت طويل ..ولم اغادر ..وبدأ من مر وهو
يحمل " الميت " في الظهور ..عادوا افراداً ..منكسة رؤوسهم في الارض
..واثنان منهم يحملان " الحسنية او الخشبة " ..تلك التي كان عليها
" ميتهم " .عادوا ومروا وعدت انا لمنزلنا .
كنت صامتاً ..لم اتكلم ..حاولت فقط ان افتح حواراً مع أمي رحمها الله
..قلت :" انا شفت الميت " ..قلتها لابحث عن معلومات جديدة ..وعن تفسير
جديد لمعني ما رأيت ..نظرت الي منتبهة ..ميت ..ميت مين وشفته فين ..معرفش ..مين ..انا
شفته وهم شايلينه في الطريق الغربي ..ومحمد فاروق قال لي ..ده الميت وهيدفنوه
..بصوت حزين قالت ..يا ولدي كلنا هنموت ..هنروح فين يعني ..خفت ..صمت نهائيا
..ونظرت اليها وعدت لصمتي ..ومن يومها وانا يشغلتي معنى الموت .. والحديث عنه
..قالوا ..وقالوا هذه منطقها حديث الاب والاعمام والجيران عن الموت على ايامهم
..ايام ابائهم واجدادهم ..هم يقولون وانا صامتاً ..لا اتحدث ..اجلس واضع يدي فوق
قدمي ..وها هو ظهري للحائط ..يقول احدهم :" كنا نقعد في العزاء شهر واتنين
..القران شغال ..الشيخ فلان يقرا ..والناس تيجي .. 40 يوم ..اللحمة ما تدخل البيت
..مفيش نفس ..الناس حزينة ..وزمان كنا ندفن شرق النيل ..في الجبل ..كنا ناخد الميت
في المركب ..وندفنه في قرية مواجهة لقريتنا شرق النيل ..هي تابعة لمحافظة اسيوط
..واحنا سوهاج ..اسال نفسي ..ما هذا اللخبطة ..من سوهاج ..ومن اسيوط ..وجبل ايه
..انا باشوف الجبل ..لما اطلع شرق البيوت ..اشوف النيل وبعدين الجبل ..ازاي يدفنوا
الناس في الجبل ..ازاي يسيبوهم هناك ..يوووه الجبل بعيد ووحش ..كنت اخاف منه .
يتابعون هم حديثهم وانا " عقلي رايح جاي " ..اخر واحد دفناه
هناك ابو احمد السيد موسى ..احمد ساعتها كان في الحرب سنة 48 ..كان بيحارب لما
ابوه مات ..ويوم الدفن شرق النيل وفي الجبل ..قامت معركة بينا وبين " الجاوية
" _نسبة الى اهل القرية ..قرية جاو النواورة _ ومن يومها قررنا اننا نعمل
" جبانات " هنا في البلد ..وما
نروح عندهم تاني ..واخترنا ليها "بحري غرب البلد " ..قلت لنفسي ..ياااه
..ده المكان اللي مشيو بيه في الجنازة بتاع الميت اللي شفته .." تسقط دموع
احدهم ..ويرد الاخر ..الله يرحهم ..ويتحدث ثالث ..كلنا هنموت ..اغادر انا المكان
وابحث عن ركن استرجع فيه ما قالوا .
وكبرنا ..وصار الموت " يدق البيبان " ..بابنا نحن ..هذا
وعلى غير موعد ودون سابق انذار ..يخطف حبي الوحيد ..وعشقي الاول والاخير ..يخطف
امي وهي دون الخمسين ..هذا الموت الذي كبرت انا له ..وكنت اراه بعيداً ..كبر هو لي
..ورايته قريباً ..رايت هذا " الوحش " ..يدق بابنا ويخطف منا اكثر من
احببناه ..واغلي ما اربتطبنا به ..وانقى ما عرفنا ..واروع من علمنا كيف نحب الناس
..كيف نتعامل مع الناس ..كيف وكيف وكيف ..وواصل الموت زياراته ..يخطف من هم حولك ..واقرب الاقربين ..واعز
الاصدقاء ..وانت لا تملك ان تقاوم او ان تقول لا ..وحتماً ويوماً سيقترب مني ولن
اقول ..ولن املك ان اقول "لا ".
وفي الصعيد ..يظل الحزن حاضراً ..ملازماً ..قوياً ..قاتلاً ..يعيشون
ويتعايشون معه ..ينتظرونه ..يقاومون ..ولكنهم لا يمتلكون جملة:" لا يا حزن
..ارجع " ..او لن نفتح لك " البيبان " ..فهو والموت يدقون "
البيبان " ..بل ..يحطمونها احياناً بدلاً من " الدق " ..فقد يكون
" الدق " لطيفاً ..خفيفاً ..مقدوراً عليه ..ولكن مع الموت والحزن ..لا
..لن يكون .