السبت 6 يوليو 2024

الصعيد ومفردات الإبداع

أخرى18-10-2020 | 15:43

الإبداع الأدبي تعبير بشكل مميّز ومختلف لجذب الانتباه وتوصيل المعني ، حالة من البحث عن "اللامألوف" في "اللا محدود" حتي ينتقل الشعور الذي يسكن داخل المبدع الي المتلقّي بكامله بعد أن يتم تجميله بألوان زاهية  وطبقة صوتية أعلي وإحساس أقوى ، نظرة مختلفة للأشياء واستقبال أعمق للواقع المحيط، وهذا ما تحقق بالفعل فيما قدّمه الصعيد.

محمود حسن إسماعيل .. أمل دنقل ..عباس محمود العقاد ..مصطفى لطفي المنفلوطى ..عبد الرحمن الأبنودى .. رفاعة الطهطاوي ..وغيرهم كثيرون من نجوم نثرها صعيد مصر بعصاه السحرية في سماء الإبداع وأثرَوْا بتميزهم مشهد الأدب العربي في مصر والعالم ، فماذا امتلك ذلك الصعيد النقيّ ليصنع كل هؤلاء المبدعين؟ ما مفردات الإبداع التي منحت ذلك المجتمع البسيط  ثراءً فنيّا وفكريّاً وخاصة في الأدب و فنّ الكلمة؟.

في اعتقادي أن ما يحمله الصعيد من زخم اجتماعي وتفاعل دائم بين أبنائه جعل للبحث عن التعبير والتواصل مع الأهل والأصدقاء أهمية مختلفة عن أي مجتمع آخر، فصورتك أمام الناس رأس مال اجتماعي ، وأقوالك عبر مسامع المحيطين مصدر هَيْبة وتألّق ، وسيرتك وسط أجيال متتابعة هالة فخر وطاقة بقاء.

من هنا صار حتى الحوار الشعبى الذي يمكن أن يدور في أبسط بيت صعيدي يحمل إبداعا حتّي ولو لم يتم تصنيفه كشكل أدبي معتاد.

كما أنّه في مجتمع يُروي فيه كم دفع الكثيرون أعمارهم من أجل فكرة الثأر - التي أختلف معها بالطبع - ليس غريبا أن تكون للكلمة والمعني قيمة تساوى الحياة ، فالثأر معني يدفع الكثيرون حياتهم ثمنا له، و كأننا نستحضر مشهد بيت شعر المتنبي الذي قتل صاحبه حينما فرّ من أعدائه فاستثاره أحدهم قائلأ " لا يتحدّث الناس عنك بالفرار وأنت صاحب البيت القائل " الخيل  والليل والبيداء تعرفنى * و السيف و الرمح و القرطاس و القلمُ"، فثارت حميّته  وعاد إليهم فظفروا به و قتلوه،حيث تتجلّى هنا قيمة الكلمة التي يدفع المرء عمره ثمنا لها و التي نلمسها في ثقافة أهل الصعيد.

يمتلك الصعيد أيضا سحر البيئة  وألوان الطبيعة الزاهية ، بين نهر أزرق وووادٍ أخضر و صحراء ذهبية و جبال داكنة صلبة. مما يصنع أُلفة مع تعدد المفردات و تباينها و بساطتها في الوقت ذاته و هذا ينعكس بالطبع علي إبداعات أهل الصعيد ذات الإيقاع المشتعل و الجمال الفطري ، فهى السهل المُمتنَع و هي النسيج الحريري الذي يرهق صانعَه بكثافة العُقَد و يمتع مستخدمَه بنعومة الملمس، وهى  معادلة لا تتحقق إلا بخيال خصْب وأدوات قوية منحتها له طبيعة مميّزة و بلاغة معتادة.

كما أنّه في مجتمع يُروي فيه كم دفع الكثيرون أعمارهم من أجل فكرة الثأر - التي أختلف معها بالطبع - ليس غريبا أن تكون للكلمة والمعني قيمة تساوى الحياة ، فالثأر معني يدفع الكثيرون حياتهم ثمنا له، و كأننا نستحضر مشهد بيت شعر المتنبي الذي قتل صاحبه حينما فرّ من أعدائه فاستثاره أحدهم قائلأ " لا يتحدّث الناس عنك بالفرار وأنت صاحب البيت القائل " الخيل  والليل والبيداء تعرفنى * و السيف و الرمح و القرطاس و القلمُ"، فثارت حميّته  وعاد إليهم فظفروا به و قتلوه،حيث تتجلّى هنا قيمة الكلمة التي يدفع المرء عمره ثمنا لها و التي نلمسها في ثقافة أهل الصعيد.

يمتلك الصعيد أيضا سحر البيئة  وألوان الطبيعة الزاهية ، بين نهر أزرق وووادٍ أخضر و صحراء ذهبية و جبال داكنة صلبة. مما يصنع أُلفة مع تعدد المفردات و تباينها و بساطتها في الوقت ذاته و هذا ينعكس بالطبع علي إبداعات أهل الصعيد ذات الإيقاع المشتعل و الجمال الفطري ، فهى السهل المُمتنَع و هي النسيج الحريري الذي يرهق صانعَه بكثافة العُقَد و يمتع مستخدمَه بنعومة الملمس، وهى  معادلة لا تتحقق إلا بخيال خصْب وأدوات قوية منحتها له طبيعة مميّزة و بلاغة معتادة.

يحمل الصعيد أيضا ميراثا ثقافيا عميقا فرعونيا و قبطيا و عربيا بداية من المعابد الشامخة التي بُنيت قبل الميلاد وأسسها الفراعنة ومرورا بمسار العائلة المقدّسة وآثار السيد المسيح ووصولا الي الآثار الإسلامية المعروفة مما يصنع تراكما معرفيا وثقافيا لدي أهل الصعيد يتجلّى في ملامحهم وعاداتهم ولغتهم وملابسهم ، ويمتدّ ليظهر في أدقّ الأشياء وأبسطها حتي يصل إلى طرق الطهي و إعداد الطعام.

للصوفية أيضا نصيب في ربط أواصر ذلك المجتمع الدافئ و صناعة مشهد اجتماعي وثقافي راقٍ و سابح في سماء الإبداع و قد دُعِيتُ منذ عام تقريبا الي أحد المؤتمرات الثقافية بقرية "دندرة" بمحافظة "قنا" لأري حشدا لم أشهده من قبل و لم أتوقعه بالفعل، حيث اجتمع الآلاف من أرجاء الصعيد من كل الطوائف في ذلك المحفل الثقافي البرّاق علي مائدة الثقافة والفن ، كانوا ينصتون باهتمام و يتفاعلون بحرارة و يزداد تفاعلهم إذا اقترب المتحدّث من سيرة يحبونها كذكر الرسول صلي الله عليه و سلّم في جوّ صوفيٍّ استثنائيّ ينقل عمق الإحساس و روعة التعبير . كان جمعا مبهرا يميّزه الترابط و الاعتزاز بالثقافة المحلية فقد احتفظ الجميع بملابسهم الصعيدية المميّزة بالرغم من رتبهم المختلفة من مهندسين و أطباء و أساتذة و سفراء ، وهذا الزحام الشديد لم يُفقد الجَمْع الاحتفاظ بتقاليده من توقير الكبير و الفصل بين الرجال و النساء و الاحتفاء بالضيف. و هذا ينقلنا إلى باعث أقوي للإبداع و هو "الأصالة"، فالارتباط بالجذور والتعبير عن البيئة المحيطة جزء رئيسي في المشهد الأدبي ، و لا يتألّق الفن إلا اذا كان صادقا و لا يتحقق الصدق إلا إذا قدّم الفنان في أعماله صورة لملامحه العميقة و سماته الحقيقية.

في اعتقادي أيضا أنّ قلّة أدوات الترفيه في صعيد مصر - و خاصة في الماضي- جعلت للحكي الشعبى دوراً كبيرا في صناعة الرفاهية و منحت البسطاء لساناً أدبيا وحَمَتْ الأدباء من التشتت الفكري و أعطتهم وقتا أكبر للكتابة و منتجعا طبيعيا لصفاء الذهن و التفكير.

للإبداع مفرداته و طاقته الشعورية التي ينتجها مجتمع الصعيد بمهارة تامة، فهو مجتمع استطاع أن  يستوطن الكلمة المبدعة و يستضيف محبّيها  بحفاوة الأهل و بساطة السهل.