الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

إدريان ميلر وكواليس اضطهاد المرأة «في أرض الرجال»

  • 18-10-2020 | 16:37

طباعة

ترجمة: رفيده جمال ثابت


في هذا الكتاب، الصادر عن دار نشر إيكو في فبراير 2020، والذي وقعت أحداثه بين أجواء عالم النشر في أواخر التسعينيات حتى مستهل عام 2000، تأخذنا المحررة الأدبية "إدريان ميلر" إلى أروقة أشهر المجلات الأمريكية، وما يحدث وراء الكواليس من تحيُّز واضطهاد ضد المرأة. كما تتطرق بتفصيل لعلاقتها بالكاتب الأمريكي الشهير ديفيد فوستر والاس، الذي كان حينها أبرز كُتّاب عصره، حتى انتحاره في عام 2008. وتكتب إدريان هذه المذكرات بصفتها "الحارسة المُستبعدة" للعالم الأدبي لنيويورك، من منتصف التسعينيات حتى مطلع الألفية الثالثة. 

في عام 1994، بعد تخرجها من الجامعة، استطاعت إدريان الحصول على وظيفة مساعد محرر في مجلة (جي كيو)، وهي مجلة مُخصصة للرجال تأسست عام 1931، وتصدر شهريًّا من نيويورك. تخطو هذه الفتاة الساذجة الحالمة، ذات الاثنين والعشرين ربيعًا، القادمة من ولاية أوهايو، أولى خطواتها في هذا العالم الذي تهيمن عليه حفلات المارتيني والذوات الذكورية القوية، و"السلطة المطلقة للملوك"، وهناك بدأت تتعلم كيف تنجو في عالم الرجال. ترى إدريان أنه عندما يحقق الرجل نجاحًا في عمر مبكر، يُعزى ذلك إلى "ذكائه البديهي". لكن الوضع يختلف مع المرأة، إذْ يُعزى نجاحها إلى الحظ، أو المظهر، أو المحسوبية، أو "قدرتها على لعب اللعبة".

في أروقة إسكواير

بعد ثلاث سنوات لاحقًا، عُيِّنَتْ إدريان محررة أدبية في مجلة إسكواير، وكانت أول امرأة تشغل هذا المنصب. وهنا نقف قليلًا لكي نتعرف على هذه المجلة العريقة. تأسست إسكواير عام 1933، وهي مجلة مُخصصة للرجال، وقادت في ستينيات القرن العشرين حركة "الصحافة الجديدة" في الولايات المتحدة. كانت المجلة مَقَرًّا للكُتّاب والأدباء الذين وضعوا تعريفًا لكل ما هو "ذكوري" و"رجولي" في القرن العشرين، من أمثال ويليام فوكنر، وتيم أوبراين، وسكوت فيتسجيرالد، وديلان توماس، وإرنست همينجواي، ونورمان مايلر، وريموند كارفر، وسول بيلو، بالإضافة إلى كُتّاب الصحافة الجديدة. والمُلَاحَظ عدم وجود امرأة في المجموعة؛ ومن هنا جاء عنوان الكتاب "في أرض الرجال".

في هذا المكان، الذي يغص بوكلاء ومحررين وكُتَّاب مغرورين، كانت إدريان "امرأة شابة .. تحاول أن تؤخذ على محمل الجدية في عالم الرجال". لم تستطع أن تطرح من ذهنها فكرة حصولها على هذه الوظيفة لكونها "شابة وأنثى ومطيعة (ظاهريًّا)". وتتذكر كيف أن أحد المحررين الأدبيين قد أخبرها يومًا: "لا تملكين أي قدرة للقيام بهذا العمل". لكن إدريان كانت تؤمن بنفسها برغم صغر سنها وقلة خبرتها. كتبت تقول إن المنصب كان يحق لها: "لا يتطلب الأمر أن تنال شهادة الدكتوراه لكي تكون محررًا أدبيًّا، فالغريزة والذائقة والحكم لا تحتاج إلى تَعَلُّم. وأنا لديَّ الغريزة والذائقة والحكم. كنت خياري الأوحد، وهذا كل ما يُهم". كانت إدريان تشرف على تحرير ونشر قصص لجون أبدايك، وجورج سوندرز، وآرثر ميلر.

شِطر كبير من هذا الكتاب يتناول التكوين التدريجي للوعي النَّسَوي لإدريان، والصراعات التي صاحبت وظيفتها الجديدة. إذْ وجدت نفسها – فجأة - ذات سلطة في العالم الأدبي؛ حيث كانت "إسكواير" المنصة الرئيسة للقصة القصيرة في فترة الأربعينيات حتى السبعينيات من القرن الماضي. غير أن هذا العالم الأدبي كان يهيمن عليه الرجال، الذين لم يكن لديهم استعداد لاستيعاب فكرة تلقي اقتراحات تنقيحية من امرأة. تتذكر إدريان كيف أن أحد "أشهر الكُتّاب وأكثرهم نجاحًا في العالم"، رفض تعديلاتها عبر وكيله الأدبي قائلًا: "لماذا تزعجني هذه الإنسانة؟ أخبرها أن القصة منتهية".

" كنت آنذاك أزداد وعيًا بالطرق التي كان الكُتّاب الذكور يصورون بها الشخصيات الأنثوية، أو طريقة تقديم صورة المرأة عند الصحفيين الذين يكتبون لمجلات الرجال"، هكذا كتبتْ إدريان عن بداية توليها المنصب في المجلة، وهي تزن مسئولياتها الجماليّة مقابل مسئولياتها الفكريّة. "الرقابة لم تكن عملي. لكني علمت أنني يجب أن أكون ذكية وخرساء، نبيلة وشريرة، كأي رجل". ويبدو ذلك واضحًا الآن، إذا تذكرنا إلى أي مدى احتفت الثقافة الأدبية في أواخر التسعينيات بمجموعة من الأصوات الذكورية، وكيف حاولت المرأة الشابة التأكيد على استقلالية فكرها ضد الرجال الذين لا يصدقون وجود هذا الأمر إلَّا بالكاد. 

غير أن التحيُّز ضد كونها امرأة لم يقتصر فحسب على الاضطهاد الذي كانت تواجهه في المجلتين، أو في كتابات الرجال التي كان فيها "تمثيل المرأة يمثل معضلة في أحسن الأحوال"، بل امتد إلى الجانب المالي، حينما اكتشفت أن دايف إيجرز، رفيقها في إسكواير، والذي كان مغمورًا وقتها، كان يتلقى ضعف راتبها عن العمل نفسه.

علاقتها بديفيد فوستر والاس

خلال عملها في إسكواير تعرفت إدريان على الكاتب الأمريكي ديفيد فوستر والاس، صاحب رواية "دُعابة لا نهائية"، التي صنفتها مجلة تايم ضمن أفضل مائة رواية كُتبت باللغة الإنجليزية صدرت ما بين 1923 و 2005. كانت إدريان تعتبره شكسبير زمانه، واصفةً إياه بـ"شيطان من الطاقة والأفكار". كان والاس يكبرها بعشر سنوات، وتدرجت علاقتهما من رفيقي عمل، إلى صديقين، إلى عشيقين، ثم أخيرًا إلى عَدُوَّيْن. بدأت العلاقة حينما قبلت نشر إحدى قصصه في المجلة، ثُمَّ شرع يطاردها، فكان يتصل بها عدة مرات في اليوم الواحد ليناقش عمله، ثم طلب رقم هاتف منزلها كي يتصل بها في العطلات. وهكذا انخرطا في محادثات طويلة لساعات، فكان يحدثها عن كل تفاصيله الشخصية، وعن كلابه، وعن منافسيه من الأدباء، وعن سجله المُعَذَّب مع النساء. وكانت إدريان تجد فيه "أفضل مستمع نشط يمكنك تخيله".

بحسب وصف إدريان، كان والاس ودودًا لطيفًا، لكنه أيضًا كان فظًّا غليظًا. وقد وصفته في إحدى المرات بعبارة لطيفة: "كان ديفيد فنانًا نادرًا وصادقًا حين يكتب. وذات مرة أردنا منه أن يرفع مرآة إلى أعلى كي يرينا أنفسنا ويخبرنا من نحن". ولكن، مع ارتفاع المرآة عاليًا، كان من الصعب أن تعجب به من هذه المسافة. لقد أخبرها – ذات مرة - أنه لا يرغب في أن يصبح "أحد أولئك الملاعين الذين يكتبون عن أعضائهم الجنسية ويقدمون دروسهم الخاصة"، وقد أثار حنقها بإصراره على أن النساء عندما يقرأن الأدب يُصدرن أحكامًا قائمة على العاطفة وليس النقد، وأنّ القارئات يُبغضن "النرجسيّين الذكور العظام"؛ لأنهم - أو الشخصيات التي يكتبون عنها - غير قادرين على الحب، وكل النساء لا يُردن في نهاية المطاف إلَّا قصة حب. الأمر الذي ردت عليه إدريان بحسم وهدوء: "الأقرب إلى الحقيقة أننا نرغب في قصة محترمة. نريد فحسب أن نرى ما فهمناه عن الطبيعة البشرية مُمَثَّلًا على الصفحة".

كان والاس يمتدح ملكات إدريان في التحرير والتنقيح. لكنها عندما شرعت في وصف روايتها، لم يُبْدِ اهتمامًا على الإطلاق، بل رد عليها بقسوة: "أتساءل لماذا تقولين لي هذا؟". وهكذا يمكن قراءة العلاقة التي ربطت بين إدريان ووالاس بأنها "وجه آخر" للامتهان الصامت الذي تعرضت له مهنيًّا وهي شابة. مثلما تقول في كتابها: "في الواقع، عملي قام على حماية ذوات الرجال". لكن إدريان، ربما لأنها ما زالت قريبة العهد بالموضوع، أو ربما بسبب الطبيعة المأساوية لوفاة والاس، أصبحت تميل إلى إخفاء مشاعرها، وتبدو غير قادرة - أو غير مستعدة - لتقبل هذا الرابطة بشكل كامل. في النهاية تتساءل إدريان: "هل تَوَرَّطْتُ حقًّا في علاقة مؤذية مع ديفيد؟". وسرعان ما تجيب بحسم: "أجل!". 

في هذا الكتاب تمزج المحررة الأدبية إدريان ميلر ذكرياتها الشخصية بعدد من الأسئلة: ماذا يعني أن تكون مجرد تُرس في آلة، حتى إن كنت مُحررًا شهيرًا؟ هل القوة هي مجرد تكوين زائف؟ هل التقدير أهم سمة يمتلكها المرء في عالم لا يمكنه السيطرة عليه؟ إن هذه المذكرات تُمثل قصة ثرية وبراقة عن القوة والطموح والهوية، وتتساءل صاحبتها في النهاية: "كيف يمكن لامرأة شابة أن تندمج في الثقافة الذكورية؟! وبأي تكلفة؟!".

المصادر

التحيُّز الجنسي والعبقرية يصطدمان في "في أرض الرجال"، لوسيندا روزنفيلد، نيويورك تايمز، 11 فبراير 2020.

مراجعة "في أرض الرجال" لإدريان ميلر، ستيفاني ميريت، الجارديان، 15 مارس 2020.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020

    الاكثر قراءة