الجمعة 22 نوفمبر 2024

فن

سمر علي تكتب: «سحر الموجي».. العالم بعيون نسوية

  • 18-10-2020 | 16:53

طباعة

بقلم سمر علي 


تعرفت على عالم "سحر الموجي" لأول مرة، عبر قصصها القصيرة، وأنا في السادسة عشرة من عمري. وكان اكتشافًا ذا طابع خاص جدًّا؛ لأنني منذ أن كنت في العاشرة من عمري أحاول أن أكتب، حتى وجدت النور في كتابتها، والصدق المستشف بين حروفها لَوَّنَ خلايا مخي. والآن، في كل محاولة للكتابة، أبتسم برضًى وخوف. الخوف المستمر من الكتابة، الذي لا أَوَدُّ أبدًا أن أفقده فتتحول الكتابة إلى فعل روتيني. والرضى بأنها حدث مليء بالشغف يستمر معي. رأيت العالم الذي أبحث عنه باعتباري مصريةً نشأت في أسرة تنتمي للطبقة المتوسطة. وعلى عكس المعتاد، تمتعت أسرتي بانفتاح فكري كبير بالمقارنة بأسر أصدقاء لي. ولكن كان لديَّ شعور دائم وأكيد أن هناك المزيد من النور والحب والحرية، والمزيد من الفن والألم والتخبط والتيه. فتهت لعدة سنوات أكتب أشعارًا غاضبة أحيانًا، وحزينة أحيانًا أكثر. حتى وجدت ضالتي بين الكتب والسينما في العموم، وبين ما تخطه الموجي بالأخص. 


لكل كتاب من كتبها أثر في نفسي، وفي كل مرحلة من عمري أجد ما يثير اندهاشي عندما أعيد القراءة. والكاتبة تتميز بمشروع فني، نراه أمامنا كقراء عبر كتبها المختلفة، وفي كل كتاب تقفز قفزة جديدة، سواء على مستوى اللغة أو البناء، بحيث ترى العالم بعيون نسوية بدون صراخ ولا خطابة، بل فن صافٍ. وهنا أكتب عن ترتيب قراءتي للأعمال وليس ترتيب صدورها.

١

”لماذا يتكثف الإحساس بالوحدة وسط الزحام؟“

*سيدة المنام، قصة الجدار.

المجموعتان القصصيّتان الوحيدتان للموجي: ”سيدة المنام“ الصادرة عن شرقيات عام ١٩٩٨، و”آلهة صغيرة“ الصادرة عن دار ميريت عام ٢٠٠٣.

كنت في الثانوية العامة عندما أحضر أبي إلى المنزل نسخة من "سيدة المنام"، مع مجموعة كتب أخرى وجرائد، كعادته عندما يذهب للتمشية الليلية. في الصباح الباكر، في موعد استيقاظي للمذاكرة في السادسة صباحا، خرجت لأحضر كوبًا من الشاي عندما وجدت المجموعة وقرأت اسم الكاتبة، وفي ذهني: ”إيه ده؟! في ستات بتكتب وتنشر؟!“. كان آخر ما قرأته لكاتبة هو ”الباب المفتوح“ للطيفة الزيات، من مكتبة أمي المليئة بالروايات وكتب التاريخ. وهنا انتابتني نوبة فرح طفولية: ”يعني ممكن أكتب أنا كمان؟!“. فاجأني أبي من الخلف وهو يقول لي: ”جبتهالك مخصوص“. قلَّبت الكتاب في يدي فوجدت صورتها أمامي، سحر الموجي، هادئة الملامح ذات عينين متأملتين. احتضنت الكتاب وأنا أتجه إلى غرفتي. سوف أقرأ القليل قبل موعد استيقاظ أمي. وبدأت فيه، ولم أتركه من يدي إلَّا بعد ساعتين ونصف. ظلت القصص القصيرة في رأسي، واعتبرتها علامة عندما وجدت إحدى بطلات قصة من القصص اسمها ”سمر“، بل ووجدت تاريخ ميلادي ٢٢ فبراير في قصة أخرى. إذا لم تكن تلك هي الرسائل والإشارات الإلهية، فكيف ستأتي إذن؟!.

أخرجت الكشكول الأزرق بلون البحر، الذي أُخَبِّئُه في دولابي تحت ملابسي، وتركت المذاكرة تمامًا في ذلك اليوم، اعتراني شعور قوي بأنني أريد أن أكتب. لم يهدأ يومها شعور التوهة والغربة، بل ازداد وأصبح له ثقل أشعر به كلما جلست وسط الناس.

ثم مرت عدة سنوات على هذا اليوم. تقريبا ست سنوات.

كان قد مر على تخرجي من كلية طب الأسنان بجامعة عين شمس سنة وبضعة أشهر، عندما شخصت متلازمة القلق ونوبات الفزع، ليس الآن ولا هُنا مجال للحكي عن ذلك. الخلاصة، أنني في سنوات الكلية انغمست في دراسة الطب ونسيت الكتابة تمامًا. لم أكتب وقتها حرفًا، لم أكن أستمتع بالسينما والموسيقى كما كنت أفعل من قبل، لم أقع في الحب بكامل حواسي، بل كانت كل الأشياء مطروقة من الخارج من على السطح. في ذلك الوقت - من حين إلى آخر - كنت أستمع إلى برنامج الموجي الإذاعي على موجة البرنامج الأوربي، فيأتيني صوتها تارةً وهي تتكلم عن خبايا النفس والأحلام وكارل يونج، وتارةً وهي تقرأ نصوصًا أدبية لشباب. احتفظت في ذاكرتي بالعنوان الإليكتروني لنشر النصوص، ثم نسيته في خضم إرهاقي النفسي، ومحاولات الوصول لتشخيص سليم لما أصابني. وقتها، وقعت في يدي مجموعة ”آلهة صغيرة“، وقرأتها قصة قصة على مدار عشرة أيام. أغلقتها ووضعتها بجواري وأنا حانقةٌ على نفسي. تأتي قصص تلك المجموعة، المليئة بالحرية أكثر من ذي قبل، مكثفةً وأقل براءةً بشكل إيجابي. كل ما كنت أراه هو بطلات القصص وهن يحكين حيواتهن ويطرن. دقات قلبي المتسارعة، التي تتسبب في نوبات الهلع، كانت تهدأ، وترجع إلى وتيرتها الطبيعية كُلما أمسكتُ المجموعة وقرأتُها. وكأن أحدًا وضع الحقيقة أمام عيني بشكل مباشر، وبدون مواربة. الحل هو الكتابة. الحل في الكتابة. الباب الذي تدلف منه الروح إلى عوالم أكثر براحًا، حيث لا يمكنني أن أكذب على نفسي، حتى وإن وددت ذلك. هناك على الورق يمكنني أن أرسم الطريق الذي أود أن أمشيه، حتى وإن كان عكس التيار. هناك - وأنا على دراية جزئية بالألم - من الممكن أن أجد نفسي. أين أنا؟! ذلك السؤال الذي تركتني تلك المجموعة معه. 

٢

”يا نور من أصلح جَوَّانِيَّه أصلح الله له بَرَّانِيَّه“

”دارية“

الرواية الأولى للكاتبة، الصادرة عام ١٩٩٩، وقعت في يدي في يناير ٢٠٠٧.

في تلك اللحظة، كنت قد استسلمت تمامًا لفكرة الإشارات الإلهية، التي تأتيني عبر سحر الموجي وكتاباتها. كنت – آنذاك - قد استلمت عملي الحكومي بالإدارة الطبية بجامعة الأزهر. الأزهر .. حيث كل قناعاتي الداخلية وشكلي الخارجي في حالة اصطدام دائم معهم، لا توافق .. لا مع زملاء ولا مع الطلبة المرضى لدينا. فأصبحت نوبات الفزع والكوابيس حالات تلازمني بشكل مستمر. وأصبحت مثل التي تزوجت رجلًا منغلق التفكير، وهو يعمل بكل همته على قصقصة أجنحتها، فكل شيء هناك حرام، ممنوع، غير مسموح. حتى أبي نفسه قال لي: ”خلاص، حُطِّي الإيشارب هناك، ولما تروحي شيليه“. نظرت إليه بغضب، فسمعت صوت ماما وهي تقول له: ”وتكسر نفسها؟! يهون عليك؟!".

"دارية"، رواية تحكي قصة البطلة التي تحمل اسم الرواية، في رحلة بحث عن خلاصها وأحلامها. كيف وجدت نفسها في ذلك الزواج الذي يخنقها تمامًا؟ وكيف ستخرج منه وترفرف بأجنحتها في سمائها الخاصة؟ التي ليس شرطًا أن تكون زرقاء، بل اللون الذي تختاره هي، أن تختار الكتابة والشعر، أن تتعلم أن لا مهرب من الألم، وأن السعادة في عدم الطلب. سيف، زوج دارية، كان مثل العمل الحكومي بالنسبة إليَّ. التقاليد والأعراق التي قد تناسب بعض الناس، ولكن من المؤكد أنها لا تناسب البعض الآخر، وأنا من هذا البعض الآخر. 

فليكن إذنْ. دارية، كانت لي مثل ضوء صغير بعيد، أراه ولكن لا ألمسه. احترقت روحي بنار الأصوليين، أصبح وجهي شاحبًا وخطواتي متثاقلة، أنظر في المرآة، ومثل نهاية الرواية مددت يدي نحو الأوراق البيضاء، ورجعت أخط الشعر من جديد.

٣

”نون“، الرواية الصادرة عام ٢٠٠٧

علقت في تغريبتي الخاصة حتى جاءت نون، كنت قد أكملت عامي الخامس والعشرين، مر على تخرجي عدة سنوات. هذه المرة، وبسبب الشِّعر الذي عدت إليه، تعرفت على الموجي، وأهدتني روايتها الجديدة في حينها ”نون“، أخذتها منها بابتسامة هادئة، وأنا أخبِّئ تحت وجه الطبيب الذي ألجأ إليه - عندما أريد - فرحةً طفوليةً وتنطيطًا ورغبةً عارمةً في أن أحكي لها حكايتي مع كتبها، رغبةً كَبَحْتُهَا كحيلةٍ دفاعيةٍ أمارسها بشكل مستمر، كيلا أظهر مشاعري بشكل كامل. تغريبة حقيقية عن نفسي، والكتابة في هذه السنوات كنت أمارسها بسرية شديدة، كحبيب لو علم الناس عنه سوف يختفي. أمسكت بالرواية، وقرأتها مرتين متتاليتين، هنالك عرفت أنني لست مجنونة، وأن شعوري ورغبتي في خوض الحياة بشكل مختلف خارج علب السردين - على حسب تعبير الموجي - هو شيء ممكن.

التعامل مع الألم، وكونه ليس شيئًا نخجل منه، هو ما سيطر على عقلي وقتها بعد القراءة. تمنيت أصدقاء مثل سارة ودُنيا وحسام ونورا، أن تكون متأكدًا أنك - مهما تَعَرَّيْتَ على المستوى النفسي - سوف تجد من يحبك دائمًا، ولا ينقص ذلك الحب بمعرفة نقاط ضعفك، أو رؤيتك في حالة انكسار. في العام ٢٠٠٦ كنت قد وصلت إلى أكثر الأماكن حزنًا في قلبي. ولم أعد أتحمل، لا أصدقاء العمر الذين صُبِغُوا بصِبْغَة عمرو خالد، فأصبحتُ كالبطة السوداء بينهم، ولا أجواء الأصوليين في مكان عملي.

في أربعة أجزاء: ”في البدء كان الأبيض، وجمر أحمر، وسراديب الأسود، وتجليات الذهب“، تقود الكاتبة مغامرة شديدة الرقة والعذوبة في النفس البشرية للأصدقاء الأربعة، من خلال علاقتهم بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالعالم الخارجي، وقصص الحب التي يمرون بها. هناك في منزل المعادي المطل على النيل، وهو منزل سارة، نعيش معهم أجواءً دافئة. 

رأيت في نون حياةً، لا .. بل الحياة. هناك أشياء أكثر من رتابة العمل في مواعيد محددة، والعودة إلى المنزل لفعل اللاشيء. في نون وجدت الهواء يملأ رئتي، حيث ثلاث سيدات يقفن على سُلم الكهانة بترتيب متغير، أحيانًا تكون سارة هي الكاهنة الأم، وأحيانًا تكون دُنيا. والسؤال المستمر: من سيقدر على دفع ثمن الطريق والأسرار؟ الطريق الوعر لمعرفة أنفسنا، من سيقع من على السُّلم إلى الأبد ويبقى خارج المعبد؟ ومن سيتحمل وطأة ألم المعرفة ويتلذذ بوعورة الطريق؟ ومِنْ هناك نظرت إلى نفسي في المرآة، ورأيت ملامح وجهي وهي تعود إلى شكلها المألوف الذي أعرفه. فقط بسبب الأمل.

٤

مسك التل صدرت عام ٢٠١٧

بعد عشر سنوات من صدور ”نون“، جاءت ”مسك التل“. وجاءت أيضًا بعد أربعة أعوام من فقدي لأمي في موت مفاجئ، هدم عالمي تمامًا، هدمه وأنا مختبئة خلف قناع ”كله تمام“، وأن التفاؤل والتَقّبُّل التام دون تفكير هما الحل الأوحد لتجاوز الأزمة. لم أسمح لنفسي بالانهيار والبكاء بصوت عالٍ على أمي الشابة التي ذهبت في منتصف خمسينياتها. لم أسمح لنفسي بالانهيار، فكانت النتيجة أن تفككتُ إلى مئة قطعة، لا بل إلى آلاف القطع، وكلما حاولت جمعها أَصِلُ إلى شكل مُشَوَّه من نفسي، لا .. ليست هذه من أعرفها.

مسك التل، حيث يستمر عالم الموجي المليء بالسحر والأحلام، ولكن دون تكرار ودون ملل. ومن بين كل الطبقات التي تجدها في مسك التل - وكتابة الموجي في العموم هي طبقات تكشف عن نفسها مع كل إعادة للقراءة - وجدت نفسي في تلك اللحظة الزمنية أغرق تمامًا في مفهوم الموت الموجود في مسك التل، حيث لا يوجد موت حقيقي بالمعنى المتعارف عليه، وإنما استمرار بشكل آخر. وفي الرواية لعبت الموجي على تيمة الموت، ولكن بشكل جديد، وكأنه امتداد لسؤال الموت في رواية ”نون“. السؤال الذي طالما حيَّرني: ”هل هناك فاصل حقيقي بين عالمنا هنا وعالم الأرواح؟!“. منذ طفولتي وأنا أخاف الموت وسيرته، أهرب من التفكير فيه والتسليم بوجوده؛ لأن المجهول - في معظم الأوقات – مخيفٌ، كشبح يطبق علـى أنفاسك وأنت نائم، ولا تعرف سكة للهرب.

واحد من أجمل المشاهد الأدبية التي قَرَأْتُها - وتَعَامَلَتْ مع الموت - هو مشهد زيارة أمينة وكاثرين ومريم للمقابر في البساتين. لفت انتباهي تعليقٌ على لسان كاثرين أن هذا اسم شاعري جدًّا لمدافن، وفكرت فيه لمدة طويلة، مع وصف الكاتبة للمقبرة، وصوت الأطفال وهم يصرخون ويلعبون، ذَكَّرَني بوصية أمي: ”ادفنوني جنب أمي، وعشان كمان أتونس بلعب العيال في بلدنا في الصعيد“. في تلك الزيارة تحول المكان إلى مشهد مليء بالألوان والحياة، فبجانب حديث البطلات في المكان، حَوَّلَتْ الموجي المقبرة إلى مكان منير بإضفاء السحر على الأحداث، رائحة المسك وأصوات كؤوس كأننا في حفلة، وإغماءة عم عيد حارس المقبرة عندما شاهد ذلك بعينيه في ساحة التربة، حيث عدد من النساء يقفن هناك، ولا يعلم مَنْ هُنَّ، ولا كيف جِئْنَ!.

هنا، حصلتُ أنا على إجابة مرضية. بطلات الرواية: ”مريم، وأمينة زوجة سي السيد، وكاثرين من رواية مرتفعات وذرينج“ تتضافر حيواتهن بشكل سحري، حيث يجدن أنفسهن في القاهرة عام ٢٠١٠. مريم، الطبيبة النفسية التي تركت الطب وأغلقت أبواب بيتها على نفسها، تقابل كاثرين وأمينة بطلات روايات قادمات من ”بيت السيرينتات“، وهذا البيت هو مكان لا نعرف موقعه الجغرافي ولا زمانه، بيت يمتلئ ببطلات روايات أُخريات يعيش بعضهن مع بعض. وفي لحظة درامية تجد مريم نفسها هناك أيضًا، عندما تختبر تجربة الاقتراب من الموت. هي هناك لأنها بطلة ”مسك التل“، كما كانت فيرچينيا وولف هناك أيضًا لأنها بطلة رواية الساعات. جمعت الموجي كل هؤلاء البطلات، اللاتي عِشْنَ ومِتْنَ في روايات قرأناها جميعًا، وأعادت إحياءهنَّ في هذا المكان، وعن طريق هذا البيت تحركن من عالمنا المادي وإليه. إذنْ، ما هي الفواصل الحقيقية بين عالم الموت وعالم الحياة؟ إن جاز لنا أن نسميها هكذا، أو نضع لها حدودًا واضحة. هل هناك حد فعلًا؟!.

الكتابة، العالم الذي نراه بعيون نسوية، الذي تخلقه سحر الموجي على امتداد ما تكتبه بذكاء شديد، عن طريق بطلات وأبطال كتبها، يرسمن طريقهن في الحياة خارج علب السردين الجاهزة، خارج الأُطر التي يضعها حولنا المجتمع، أن تكون الاختيارات أمامنا، وتتكون لدينا الإرادة لنختار، أن نعمل على أنفسنا من الداخل والخارج؛ فمن أصلح جَوَّانِيَّه أصلح الله بَرَّانِيَّه. وهنا وقفت مع نفسي، أريد أن أكتب، أن أكتبني، أن أكتب لكي أعيش.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020

    الاكثر قراءة