روزإليا فتاة جميلة .. روزإليا تحب الورد
روزإليا قطعة سكر .. تحب زهور القرنفل
لا أذكر على وجه محدد تاريخ إجادتي للغة اليونانية، فجأة وجدتني مكرساً وقتي في استرجاعها، لديّ حصيلة لُغوية كبيرة منها، لكنني نفسي لم أعد أكترث .. تثيرني لقطات الأفلام والمسلسلات التي يتم تصويرها في اليونان وكلما سمعت لحناً يونانياً دافئاً شعرت بحنينٍ جارف إلى زيارتها .
كنت أتصفح نوافذ الإنترنت علّني أخرج بموضوعٍ جديد باعتباري كاتباً، أو فكرة ما لقصة مثيرة - كعادة كتاباتي - حتى وجدت المقطع السابق من أغنية روزإليا ينشره شخصٌ يونانيٌ، وهذه الأغنية من التراث اليوناني الشجي، ولا أحد يعرف تحديداً شخص كاتبها، ويقال إنها مترجمة عن شعرٍ مصري لمملوكٍ في عهد طومانباي، وهي تحكي قصة ( روزإليا ) تلك الفتاة الجميلة وما تمر به من صعاب بسبب رقتها واختيارها الموت كبداية لحياة سعيدة تأمل فيها، ربما لا تمنح الحياة الجميلات بعض الفرص اللاتي يستحقنها و روزإليا واحدة منهن.
هكذا شدّني الإعلان حيث وضع مقدمة الأغنية الشهيرة أعلى صورة الكونت دراكولا التخيلية مرسومة بدقة مبهرة كما لو أنها فوتوغرافيا حقيقية له .. شدّني المزيج ما بين الإثارة والرومانسية، وهو السمة المفضلة لي في كتاباتي القصصية، لذا شرعت في قراءة الإعلان وكان نصه بإنجليزية ركيكة كالتالي :
- هل سئمت الملل؟
هل ترغب في خوض مغامرة ؟
هل ترغب في قضاء وقت مثير مع مصاص دماء حقيقي؟!
لو كنت من عشاق الحياة أو الموت ستعرف قدرهما إذا قبلت هذا التحدي وكلمتني على رقم : ............ كارلوس
انتهي الإعلان ورغم سذاجة فحواه إلا أنه أيقظ بداخلي بعض المشاعر التي ظننت أنها قد تخلت عني، حسناً مكالمة دولية، لماذا لا يكتب بريداً إلكترونياً أو حساب واتساب .. كم هي مكلفة محادثة المخابيل خاصة اليونانيين منهم:
- كاليميرا
رددت بإنجليزية حتى يرد على بالمثل :
- صباح الخير أنا كاتب قصص مصري مهتم بأمر إعلانك ربما أجد فيه مادة خصبة لقصة جديدة سيد كارلوس .. صمت ...
صوت أغنية روزإليا يدوّي بجواره - مصادفة غريبة .. رد بعد فترة محاولاً السيطرة على ألفاظه الإنجليزية لتبدو متناسقة :
- أهلاً سيدي .. الأمر مثير بالفعل
- هل هو في أثينا؟!
- لا إنه في قبو القلعة في جزيرة رودوس إنه هناك منذ مئات السنين ولا صديق غيري ..
ولكن عظيم حقاً
الأمر يكاد يكون ضرباً من الجنون والخَبل، ولكن الفضول تحرك بداخلي بقوة، وثمة هاجس قديم جال بخاطري دفعني لإعداد حقيبتي، وفي غضون ثلاثة أيام كنت حاجزا إحدى غرف فندق - مارك باولو - بالحي القديم برودوس، ذهبت ممتلئاً بالتصميم بقدر امتلائي بالتوجس .. تعصفني روح المغامرة في نهاية الصيف حيث تشعر بلسعة شتوية محببة تبدأ في التحرش بك بلا مناسبة، واتفقنا عن طريق الواتساب على الالتقاء بمقهى روزإليا - يا للعجب أصبحت هذه الأغنية إحدى عاداتي .. للغة اليونانية سحرٌ محببٌ والموسيقى اليونانية تبدو أقرب للموسيقى الشرقية عنها في الغرب .
روزإليا تحب المغامرة .. لا تنتهي مغامرتها
روزإليا تحب الحياة .. الحياة مكان صعب
جلست في المطعم أتناول طبق السلاطة اليونانية الشهير، ووجدته أمامي يونانياً تقليديًا بقامته الفارهة وشعره الطويل المسترسل ولحيته الكثيفة وكرشه الضخم، حياني دون أن يمد يده بالسلام، وكان متعجرفاً على خلاف اليونانيين في التعامل، انتظرته حتى فرغ من مشروبه، وتجشأ، وطلب مني مائتي يورو بدون أسئلة.
بطبعي كنت معتاداً على الفصال، لكن مائتي يورو نظير تلك المغامرة مع الأخذ في الاعتبار ملامحي الوادعة والتي تغري أي شخص بطلب ثروة لكي يحيك لي بنطالاً، ما بالك بمن يوشك أن يجعلني أقابل مصاصاً للدماء !! دعك من أنه لو لم يطلب هذا المبلغ من الأصل لظننت أنه هو نفسه مصاص دماء ويتخذ من هذه الطريقة أسلوباً لصيد ضحاياه من السُذّج أمثالى.
نقدته المبلغ وطلب مني التسكع في القلعة القديمة لحين موعد إغلاق المحال واختفاء الضجيج وحلول الهدوء، اختار تلك الكلمات بعناية، وحرص على أن يمثلها بملامح وجهه، فكرت أن أتجشأ في وجهه مثلما فعل منذ قليل، لكن حب المغامرة قد تمكن مني لدرجة أني سيطرت على نفسي واكتفيت بالموافقة.
روزإليا تحب الصمت .. لأن الهدوء جميل
روزإليا تخاف الناس .. لأن قلبها نبيل
مضيت أنفذ وصيته - بالتسكع - وحرصت على الظهور لايف على فيسبوك في أماكن متفرقة تحسباً إن حدث أمر ما يتم الوصول إلى ما تبقى مني من خلال تلك الفيديوهات .
بدأت أحب روديس وأحب تلك الليالى الساحرة التي تمتاز بها، مضى الوقت سريعاً كخيلٍ رامح، و قابلته في المكان المتفق عليه، غلقت الأبواب وعم الظلام ولم يخرق الصمت سوى تجشؤه المتلاحق، وبدونا كشبحين يخترقان دهاليز القلعة الغامضة ولا مجال للتراجع،على الأقل بالنسبة له - فلن أسمح له بذلك، اشتتمت رائحة أعرفها بشدة عندما قادني لمدخل قبو تحت سور مجرى الظنون، وهبطنا لدهليز عتيق ولم أحتج إلى كشاف للظلام، فقد نشطت عيناي فيه بلا مساعد، وكانت الرائحة تعبر أنفي وتستقر في عقلي مباشرة تصحي فيه ذكريات مضى عليها كثيراً، أيقنت أنه ليس نصاباً وأنه يقودني لألقى مخلوقاً أسطورياً من القلائل الذين لا يزالون متعايشين مع التطور والتكنولوجيا المستمرة.
وصلنا إلى مخزنٍ مغلق بباب حديدي كأنه زنزانة فتحها بمفتاح في جيبه و - تليك- انفتح الباب ومد يده وأشعل موقداً على الجدار الجانبي وتراقص دخان اللهب على الحائط، لابد أن ذلك الأمر مقصود لإضفاء أجواءً من الإثارة والغموض، كل ما حولي يوحي بأن الأمر كله معداً لقتلي في هذا المكان كأن الموت يرقد في الظلام مجمداً الحركة مسكتاً الصوت، ولكنني ككاتب يبحث عن موضوعٍ مختلف كان الموت بالنسبة لي نفسه تجربة تستحق أن أخوضها، ربما وجدت في العالم الآخر ما يصلح أن يكون موضوعاً أتناوله، مثلي كأي كاتب يبحث عن موضوعاته ولو كانت في قلب الجحيم أو في قلب قبو في القلعة القديمة في جزيرة روديس، حيث لا شيء يذكر سوى الظلام ورائحة العطن وجرذان تعبث تحت قدميك.
هنا انبعث في المكان صوت موسيقي، كانت أغنية روزإليا واضح أنها قادمة من أسطوانة جرامافونية، حيث تشعر أن الهواء نفسه هو من يحمل النغمات لتخترق أذنيك، قطع الصوت الصمت قبل أن يقتله، لا أعني هنا أن القتيل كان الصمت، ولكنه كان اليوناني الضخم، سقط عند قدميًّ كجوال بطاطا فارغ من الحياة ومن الدم أيضاً، نظرت إليه في عينيه مباشرة وكانتا تلمعان في الظلام وينعكس أثر ظلال النار على وجهه، فيظهر الدم واضحاً حول فمه، وقد انتهي لتوه من تناول وجبة يونانية شهية، وكان من الطبيعي أن أكون أنا التالى، فلا شك أنني أمام مصاص دماء حقيقي لا تعلم إن كان جائعاً أم اكتفى بوجبة كارلوس البدين الذي كف أخيراً عن التجشؤ ؟!
روزإليا لا تزال تبحث عن حلم جديد وهو يبدو لي يبحث عن طعام جديد، ضحك عالياً كما لو كان يسمع نكاتاً جنسية، و تقدم نحوي ورائحة الدم تخترق كياني وتثير حواسي بشكل جنوني، وقال بصوتٍ رخيم وعربية صحيحة تماماً :
- كنت أنتظرك وأعلم أنك ستأتي
قلت في برود :
- لم نلتق منذ مائتي عام
- مائتي عام في أعمارنا أيامٌ معدودات
تقدم نحوي لاحتضاني فصددته بكف يدي فقال متعجباً :
- كنت أظنك قد توحشتني
سألته في صرامة
- ما سبب استدعائك لي ؟
- أعلم كل شىء عنك، قالها ودار حولي دورة كاملة وقدماه لا تلامس الأرض، وأنا لا أنظر إليه، ثم أكمل :
- منذ فترة تكيفت كعادتك مع المجتمع المصري ونجحت بفضل ذكائك ونبوغك في شغل وظيفة مرموقة، ونجحت في إيجاد صداقات جديدة، وتوقفت عن مد كبار الكتاب والشعراء بأفكارك وصرت كاتباً الآن، وكالعادة تجيد إخفاء آثارك، نار مستعرة تحت ملامحك الهادئة، كلهم أو كلهن مجرد وجبات طازجة منتظرة فقط عندما يحين الدور ..
روزإليا لا تزال تحب المفاجآت وتكره تقلب الأيام
بدأت أكره تلك الفتاة ووجدتني أمسك به من قميصه بعنف وأرفعه من فوق الأرض وكانت من المرات النادرة التي تحولت فيها ملامحي بالكامل وظهر وجهي الشيطاني الذي أخفيه تحت وداعتي الظاهرة، وقلت في صوت مجسم كصوت تمساحٍ في مستنقع ٍ ضحل:
- أنا ملعون، كانت حياتي بخير قبل أن تقتحمها بشرك
كادت جملتي والرياح المنبعثة من مخرج كلماتي أن تخترق وجهه وتطفئ اللهب الذي تراقص على الموقد في لوثة، ووجدته يمد كلتا يديه ويضعهما على كتفي ويقول في جنوحٍ مماثل لما كنت عليه :
- أسديتك خدمة العمر .. كنت مجرد مملوك في معية المماليك و اصطفيتك..
وكأن عبارته اقتحمتني، فانسحبت بوجداني كجيش ٍمتراجع عائداً ثلاثمائة عام أو يزيد، ووجدت المجلس حولي منعقداً ونقسم على المصحف على قتل الوالى وجعل صفوان بك خلفاً له، ثم تركتهم وذهبت لمقابلة حبيبتي الجارية جولينار وأترك سيفي بجواري وأنا أتلو عليها بعض أشعاري عن فتاة تدعى روزإليا تحب الورد وزهور القرنفل وأشياء أخرى، لابد أنها تعجبت من اختياري لهذا الاسم بالذات، ولكن عجبي كان أضعافاً فيما بعد عندما أصبحت هذه الأغنية من أعظم الأغاني اليونانية، وتركنا الشعر والأغاني وفي ضوء القمر امتزجنا في قبلات طويلة وحارة اختلطت فيها الأنفاس واللعاب والأحلام والحب - قبل أن يظهر هذا الشيطان فجأة في الخلاء وبمجرد أن رآه حصاني صهل بقوة قبل أن يفر من المكان، لم يتركنا لدهشتنا كثيراً إذ باغتني فأمسك رقبتي في خفة وغرس فيها نابيه، ثم تدفق السائل الحار عبر أوردتي مباشرة لمعدته وغبت عن الوعي.
واستمرت ذكرياتي في التدفق وتلاحقت الصور أمامي كهجوم الطير، فوجدته واقفاً فوق قبر وضعني فيه، وقف منتصباً عند قمة رأسي والقمر يملأ السماء من خلفه كأنه انبعث من وجهه، وانطلقت حولنا أصوات ذئاب ضالة اختلط عواؤها مع صوت أغنية - روزإليا - فاندمج الماضي والحاضر في رأسي يتقلبان كخليط مواد البناء في وعاء موانٍ خبير، وعندما أفقت اختطفني إلى قلب الحدث دون تمهيد فقال بلهجة صادمة :
- ها أنتذا ملعون جديد يكمل عقد الملاعين.
وما بين بكائي وتوسلي، استرسل في شرح العالم الجديد الذي أصبحت عضواً فيه رغماً عني، عرفت أنه كان يترقبني منذ فترة ويتحين الفرصة لضمي، وأنه كمصاص دماء خبير رأى فيّ القدرة على أن أكون مثله وأن أخلفه بعد زمن، لم يقتلني بسحب كامل دمي، إنما اكتفى بوضع بصمته على رقبتي، وهو الأمر الذي أدخلني في غيبوبة سبعة أيام قام فيها بدفني، وعند اكتمال القمر فتح القبر، جربت الموت وبعثت من جديد، وها أنذا أفقت وأتطلع إليه، علمت أنني أصبحت ذا قدرات تغاير البشر العاديين، وأن جهازي المناعي صار مصفحاً ضد الأمراض، وتلتئم جروحي بمجرد حدوثها، باختصار صار موتي بالطرق العادية مستحيلاً، وهذا معناه أنني سأعيش طويلاً ولن أهرم أبداً وسأظل شاباً إلى الأبد، وعليّ أن أتكيف مع حياتي الأبدية، و أن أجتهد في البحث عن غذائي، والذي يتمثل في سائل أحمر قانٍ يحمل خلايا حمراء وبيضاء وصفائح وشعيرات وما يحفظ لمصاص الدماء محترم مثلي وجوده وحياته .
قال إن مهمته انتهت وتركني على وعد باللقاء بعد مئات السنين .. تركني وسط مخاوفي وعويل ذئاب لا ينقطع، لم يكن عسيراً على تصديقه، فكل ما حدث لي بعدها أكد صدق كلامه، أتذكر اصطيادي المشعوذين والمشردين لامتصاص دمائهم، وجدت أن دماء بني آدم واحد تكفيني أسبوعاً بحاله وبدأت في التمييز بين دماء الرجال والنساء و الحيوانات الأليفة منها والضارية، ولم يكن عسيراً عليّ التخفي في تلك الفترة نظراً لقدراتي .. هجرت البشر، ونسيت حبيبتي جولينار، واعتزلت الناس، وكنت أرقب أحوال الرفاق من بعيد، حتى هرموا وماتوا أجيالاً تخلفها أجيال، عاصرت خلالها مئات الصور والمواقف والأحداث، وكنت مشاركاً في أغلب الجرائم التي قيدت قبل مجهول، فأنا هذا المجهول المعلوم الذي تواجد فيها، حتى ضحايا ريا وسكينة لم يكنّ سوى مجرد نوبة جوع خاصة جداً انتابتني وقتها وشنقن مكان مملوك خالدً يحمل لعنة كونه مصاصاً للدماء.
انتهت الصور في مخيلتي وتموجت أحجار القبو كأنها تناديني، عدت بوجداني لحالتي حيث قبضت عليه وهو يبتسم في سخرية، هو يرى ما أراه ويعرف ما أعرفه ويشعر بكل مشاعري، أليس هو خالقي ؟ أفلته وتربعت في جانب القبو وأسندت ظهري إلى الحائط، ولأول مرة منذ مئات السنين تنساب دموعي، دموعٍ أدهشته، ودموعٍ شعرت بها تطهرني من لعنتي الأبدية، قال وهو محتارًا في أمري :
- أظنك غير راض .. ثم أردف :
فكر فيم أنت فيه من نعيم، الخلود الذي أنت عليه، الحياة كلها بالنسبة لك لا شىء، كلهم زائلون وأنت باق إلى يوم البعث، لك حياة هناك في مصر و أهل اخترتهم، و أصدقاء حقاً كلهم فانون وستشهد تقبيرهم، لكنك في النهاية تحمل الميزة التي لا يحملها الكثيرون في هذه الحياة؛ ثم قال الجملة التي تمنيت سماعها على سبيل الترضية :
- نحن آخر سلالتنا أنا وأنت آخر ملعونين على وجه الأرض، الباقون فشلوا في الصمود في ظل التغيرات الرهيبة حولهم وتخلصوا من حياتهم بنفسهم، لا تكن جاحداً.
انتفضت بعد سماعي الجملة الأخيرة، واستدعيت كل العذابات الجهنمية التي تنتظر أمثالنا، ووقفت أمامه محدقاً في عينيه بكل قوة، وقلت في صرامة :
- ما تظنه ميزة هو عار .. من قال لك إن الخلود والشباب الدائم شىء عظيم إلى هذا الحد؟! تعرف وأعرف أنها حملُ ثقيل تود التخلص منه، الأرض ونحن نعرفها جيداً - بحكم أعمارنا - ليست مكاناً يستحق المكوث فيه طويلاً إلى هذا الحد، نحتاج لأن نشيخ ونموت وندفن دون أن نبالى باكتمال قمر أو نطلب دم بشر، نحتاج إلى الشعور بالحب من جانبنا ومن جانب الآخرين لنا، لا قيمة لعمر طويل بمشاعر باهتة وقلب أجوف، قلب يليق بملعون .
ثم قلت وأنا أقترب من المشعل الجانبي المعلق في الحائط لأنتزعه وأمسكه في يدي وأرقب لهبه وهو يتصاعد منه و لا يترك ظلالاً لنا (نحن لا نترك ظلا ).
- أحياناً يا صديقي الذي لا أعرف اسمه ولا بلده ولا أحب أن أعرف، يكون الحب الذي لم تعرفه خياراً أفضل من الحياة، ومن الموت.
اتسعت عيناه في رعب وقد فهم ما انتويته، فطوحت المشعل مرة في الهواء وبلا هوادة حطمت حامله الخشبي على ركبتي فصار نصفين، فأمسكت بالجزء المدبب منه والذي في آخره الشعلة وقذفته مباشرة نحو صدره، ألجمته المفاجأة ولم يتحرك لمفاداته فاستقر في قلبه ونظر نحوي في ذهول.. تفشت في الجو لعنات منسالة من كون مجهول لم يكتمل لأني نفخت النيران بكل طاقتي فأمسكت به وصار يشتعل كخرقٍ بال ويصرخ في فزعٍ رهيب ..وفي سرعة البرق كنت غادرت المكان وأغلقت الباب كما كان قبل دخولي رفقة كارلوس وتركت النار وموسيقى روزإليا، واللعنات خلفي، واستقبلت نسمات الصباح أمامي .. وأنا على يقين وقتها أني وجدت قصة جديدة تماماً كما كنت أرغب ..
روزإليا اختارت الصمت .. لأن الكلام بغيض
روزإليا اختارت الموت .. وهو أمل جديد
عندما عدت إلى حياتي من جديد في القاهرة تابعت ما تناولته الأنباء عن حريق أغسطس في جزيرة روديس اليونانية، وأنهم عثروا على جثة مرابٍ عجوز مشعوذ اسمه كارلوس أخبر أصدقاءه أنه صديق لمصاص دماء مجهول الهُوية وأن عربياً أحمق سيأتي ليراه مقابل مبلغ مالي، بالطبع لم يصدقه أحد فنحن على ثقة من أنه لا وجود لمصاصي الدماء وأن العرب ليسوا بهذا القدر من الحماقة، وعثروا في القبو المحترق على أسطوانة معدنية لم تمسسها النيران حوت أغنية عظيمة من التراث اليونانى اسمها - روزإليا - تحكي قصة فتاة، حسناً نحن نحفظ القصة، المهم أنه لا أثر لجثة مصاص دماء متحذلق غريب الأطوار، هكذا ظل موته من حياته مجهولاً بالنسبة لي، لا أنكر أنني ذهبت في الأصل لأقتل نفسي أمامه هكذا انتويت حتى أخر لحظة، أعلم أننا نموت إن غرسنا الخشب مباشرة في القلب - لا أعلم التفسير العلمي لهذا الأمر لكنك كمصاص دماء يجب أن تعرف هذا الأمر وتحرص على ألا يقتحم قلبك أي وتد خشبي مهما كان الأمر - ولكنني و أنا هناك في القبو أعجبتني فكرة أن أكون الملعون الأخير من نوعي - أياً كان هذا النوع - مصاصاً للدماء أو وحيد القرن لا فارق، هو في الأصل صنعني لخلافته كما قال، تذكرت ذلك وغيرت تفكيري وخلفته كما تمنى يوماً ولكن يبدو أنه نجا بشكل ما وربما يكون لنا لقاء آخر وقصة أخرى .. من يدري !!
تكيفت أخيراً مع فكرة الحياة الطويلة وبأنني أخفي ملامح ملعونة تحت ملامحي الوادعة الشاحبة، وقررت الاستمتاع بالأمر بدلاً من الخوف منه، وعمل أشياء تفيد من هم حولي وتجعل من حياتهم القصيرة - حياة سعيدة -
واقتنعت بتناول غذائي من خلال سرقات متكررة لبنوك الدم .. أصبح اصطياد المشردين واللصوص والعاهرات أمراً مرهقاً بالنسبة لي، كان هذا يسيراً عندما كانت لا تزال روح المملوك تستحوذ على كياني .. أما الآن وبعد كل ما عايشته في الثلاثمائة عام الأخيرة وما عايشته من وظائف وأعمال مختلفة، وحفظاً لكيان عملي الحالى وهوايتي المفضلة ككاتب، سأكتفي بهذا الأمر، ولكن لا بأس إن رأيت شخصاً يستحق أن أخلص الأرض من ثقل دمه - حتى لو بالنسبة لي فقط - أن أتطوع و أجعله وجبة سعيدة .. أو كما يقول اليونانيون Eftychisménogévma، فاحذر في معاملتك مع الملاعيين عامة، وخاصة احذر من هذا الملعون الهادئ ذي الملامح الوادعة.. والذي يعتبر وحتى إشعار آخر.. الملعون الأخير ..