الإثنين 27 مايو 2024

رجل قانون بدرجة مفكر.. عبد الجواد ياسين القاضي الذي حطم أغلال السلفية

فن18-10-2020 | 20:53

عندما تجد نفسك أمام رجل يجمع بين الحسنيات الثلاثة، وهي: الفكر المنظم المنضبط بحكم دراسته للقانون، والقدرة على التفكير الإبداعي، بالإضافة إلى ملكة الصياغة الهادئة العميقة لما يدور في رأسه من أفكار، فلا شك أنه المفكر الكبير عبد الجواد ياسين، الذي استطاع أن يحطم أغلال السلفية، وينطلق إلى آفاق الإبداع الرحبة، مقدما سلسلة من المؤلفات التي تمثل نقدا رزينا للتراث الإسلامي، حتى صار واحدا من أعلام حركة الإصلاح المرتبطة بالتاريخ الإسلامي. 


ولد عبد الجواد ياسين في مدينة الزرقا بمحافظة دمياط، عام 1954، وتخرج في كلية الحقوق بجامعة القاهرة، دفعة 1976، وعمل بسلك النيابة العامة، متدرجا في وظائفها، حتى صار قاضيا، قبل أن يغادر المنصة ويهاجر إلى خارج مصر.


لم تكن بداية المفكر عبد الجواد ياسين توحي بما هو عليه الآن، إذ إن مؤلفاته الأولى من أمثال: "مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة"، و"الفكر السياسي المصري في القرن الـ19"، كانت تحمل نظرة وصفها البعض بـ"نموذج الفكر السلفي"، الذي يعتبر المجتمع الحالي جاهلي.


تحطيم الأغلال


ولأنه مفكر حقيقي، لم يقف عبد الجواد ياسين، عند الأفكار التي وردت في كتبه السلفية المتطرفة، وإنما حطم أغلال هذه الأفكار، وقدم إنتاجا فكريا أكثر تنويرية واتساقا مع العقل والمنطق، ويعد كتابه "السلطة في الإسلام:


 العقل السلفي بين النص والتاريخ"، واحدا من أبرز الإنتاجات الفكرية له، حيث كان هذا الكتاب محاولة جادة لتجديد الفكر الإسلامي، وهو ما أكده ياسين في الجزء الثاني من كتابه، "السلطة فى الإسلام: نقد النظرية السياسية".


"الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع"، عنوان ليس فقط لكتاب جديد لمحطم الأغلال السلفية، عبد الجواد ياسين، وإنما هو أيضا تعبير عن الفكر التجديدي الإسلامي، الذي ينبثق فيه التجديد داخل التراث الإسلامي، كما أنه يتسم بالعمق نظرا لتاريخ ياسين ومحاولاته الفكرية السابقة.


ويتميز عبد الجواد ياسين عن غيره ممن خاضوا غمار تجربة التجديد الفكري للتراث الإسلامي، بقوة الحجة في مواجهة من يختلفون مع أفكاره، وربما استمد ذلك من دراسته للقانون، وعمله في سلك النيابة والقضاء.


ويرى ياسين أن التشريع عموما، عبارة عن فعل اجتماعي، وإن تبناه نص ديني، وهي الفرضية التي سعى لإبرازها في كتابه الأخير، عبر تأكيد صحتها من خلال الفقه والشريعة والتاريخ وعلوم القرآن وعلوم الحديث، وعلم الاجتماع الديني أيضا.


مؤلفات شائقة


ولعبد الجواد ياسين عددا من المؤلفات والمقالات، الشائقة، وتعد كتب: "السلطة في الإسلام العقل الفقهي السلفي بين النص والتاريخ ـ الدين والتدين التشريع والنص والاجتماع ـ مقدمة في فقه الجاهلية المعاصرة ـ السلطة في الإسلام نقد النظرية السياسية"، أبرز مؤلفاته منذ ظهوره، ويناقش فيها مجموعة من أبرز الأفكار، منها أنه يرى التدين سببا في تضخيم الدين، بحيث نال الجانب الاجتماعي منه، القابل للتغيير النسبي بحكم تطور المجتمع، اهتماما وعناية وتضخيما أكبر مما ناله الجانب المطلق من الدين، وهو ما أفضى إلى التعامل مع الدين على أنه حقيقة مطلقة خارجة عن البعد الاجتماعي المرتبط بها.


ولعل من أبرز إنتاج فكر عبد الجواد ياسين تلك المقتطفات من بعض كتبه، حيث يقول في كتاب: "الدين والتدين: التشريع والنص والاجتماع": "في القرون المتأخرة ومع ظهور الكيانات السياسية الحديثة طُرحت إشكالية الموقع الذي يحتله الدين من الدولة على عدة مستويات، ومن التساؤلات التي شغلت الكثير من الباحثين، الدور المنوط بالدين الإسلامي في السياسة والاجتماع خاصة، حيث إنه على المستوى الفردي قلما يسفر النقاش المحتدم بين أطياف الفكر المختلفة، خلافات أو نزاعات حول العلاقات بين الله والإنسان في إطاره الوجداني الحرّ، وهكذا فمن الأسئلة التي لم يُحسم فيها الخلاف بشكل نهائي، طبيعة الدولة الإسلامية؛ هل هي دولة دينية أم مدنية؟ ثم هل التشريع الإسلامي قابل للتطبيق في الدولة المعاصرة؟ وقبل ذلك هل أتى الإسلام بتشريع متكامل يمكن تنزيله على واقعنا؟ وإذا كان التشريع الفقهي الإسلامي". 


ويطرح ياسين مجموعة من الأسئلة التي تصلح منطلقا لأبحاث عدة مثل قوله: "هل تعد أحكام التشريع الجنائي والمدني وغيرها ملزمة مؤبدة، أم أنها مجرد اجتهادات زمنية أملاها واقع اجتماعي معين؟ وحتى نطرح السؤال بصيغة أوضح تقربنا من الإشكالية التي تناولها الكتاب الذي نحن بصدد تقديم قراءة فيه؛ هل الأحكام التشريعية، سواء في اللحظات التأسيسية الأولى أو بعد عصر التدوين العربي الذي تزامن مع وضع فلسفة للتشريع ممثلة في أصول الفقه ذات طابع إلهي أم أنها امتداد لما كان سائدا في البلاد الإسلامية من أعراف تدخل في نطاق "الجاري به العمل".


ويواصل عبد الجواد ياسين شرح أفكاره قائلا: "هناك الدين وهو الأخلاق الكلية العامة التي تخاطب البشر جميعا وهي جوهر الدين وكل الأديان ويعبر عنها في الإسلام الآيات الواردة في القرآن المكي، أما الآيات الواردة في القرآن المدني فهي آيات التشريع وهي تشرع لجماعة متحركة بالوقائع والأحداث ومن ثم فالنص بالضرورة يتضمن بعدا اجتماعيا له علاقة بالواقع الذي يجيب عن أسئلته. فالكاتب يرى أن النص التشريعي في الحالة المدنية له بعد اجتماعي يجيب عنه، وله واقع اجتماعي يتحرك فيه". 


ويضيف: "من جهة أخرى هي لحظة الواقع الاجتماعي الذي يتجادل النص معه. هو يذهب إلى أن النص يتم تحميله مع التطور التاريخي للجماعة باجتهاد الجماعة في حركتها ومسيرتها وتحولاتها وتعقيداتها، وهو يرى أن ذلك هو التدين – أي إضافة رؤية الجماعة للدين".


في كتاب "السلطة في الإسلام - نقد النظرية السياسية"، يقدم المفكر عبد التواب ياسين، شرحا لتاريخ النظرية السياسية، بالتوازي مع تاريخ الصراع السياسي، وكيف كانت تتكون النظرية السياسية كرد فعل لتداعيات العلاقة بين أطراف الحكومة السنية، والمعارضة التي تضم الشيعة، والخوارج.


ويطرح الكتاب إشكالات التعامل مع الواقع، داخل العقل السياسي الإسلامي المعاصر، بمكوناته السلفية العاجزة عن إيجاد حلول للإشكالات المعاصرة، أو التجاوب مع ثقافة العصر. 


ويوضح المؤلف في كتاب " والتاريخ السلطة في الإسلام: العقل الفقهي السلفي بين النص "، كيف تحول "السلف"، إلى مصدر للتشريع بما يخالف الشريعة، مضيفا: "فعل السلف، الذي وافق على الانقياد لأنظمة فاسدة، أصبح دليل حكم بجواز ذلك الانقياد، وهذا نموذج لعلاقة التاريخ السياسي بتاريخ الفقه، ليس فقط لتنحية النص، بل لطريقة رسمه وإنشائه وتكوينه، فمنذ أن دونت النصوص، ولا سيما السنة، في كتب مستقلة كمتون سردية، بغير إشارة إلى سياقات الواقع التي كانت تلابسها في لحظات التلقي الأولى، أو في ظروف التدوين المتأخرة، ويتعاطى معها العقل الإسلامي ككائنات تشريعية مطلقة وكاملة الكينونة، بمعزل عن العوامل الخارجية".


أما في كتاب "التشريع والنص والاجتماع فيدرس الكاتب هل يمكن للقانون الذي يعالج معطيات نسبية ومتغيرة، أن يكون جزءا من الدين كحقيقة مطلقة؟، حيث يرى أن التدين أدى إلى تضخيم الدين بحيث صار ما هو اجتماعي أكبر مما هو مطلق في منطوق البنية الدينية التي تعمم على مكوناتها، تلقائيا، صفة القداسة المؤيدة، على اعتبار أن الدين يقدم ذاته كحقيقة مطلقة قادمة من خارج الاجتماع".


ويقدم الكتاب قراءة متعمقة في التشريع النصي، ويتتبع مساره، ويرصد العلاقة بين المؤثرات الاجتماعية الجديدة، وفي مقدمتها ظهور الدولة، والفتوحات، وصولا إلى تداعيات الصراع السياسي التي أفرزت المذهبية، وكذلك التطور الذي طرأ على بنية الفقه خصوصا في شقه النصي، وهو يتساءل: "هل نجا هذا الشق بسبب نصّيته من آثار التعددية التي فرضها الصراع المذهبي على بنية الفقه عموما؟ إلى آخر ذلك من أسئلة إشكالية تبدأ من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وحتى عصرنا الراهن".