كاتب هذه السطور، يهوى قراءة السير الذاتية والتراجم، لا سِيَّما تلك المتعلقة بالعلماء والكتاب والرياضيين (من الرياضيات)، لأن السير الذاتية والتراجم تجمع بين الأدب الروائي ودروس الحياة والتاريخ. في بعض الأحيان أقرأ ترجمة لعالم بالإضافة إلى سيرته الذاتية، ولذلك سبب. فعندما تقرأ السيرة الذاتية لشخص ما فأنت ترى القصة والدروس من وجهة نظره، أمّا إذا قرأت ترجمته فأنت تتعرف على وجهات نظر عدة حول الأحداث والدروس، هذا إذا كانت الترجمة مكتوبة بعمق، وليست مجرد حفلة تأبين.
قراءة السير الذاتية والتراجم قادتني إلى قراءة قصص إنشاء الشركات وصراعاتها المختلفة، وتداخل قصة الشركة مع سير الأشخاص الذين يعملون بها. هي تراجم، ولكن لكيانات وليست لأشخاص، وكِتَابُنا اليوم عن إحدى هذه الشركات العملاقة: شركة إنتل.
شركة إنتل هي واحدة من أهم وأكبر الشركات في العالم لتصنيع ما يُعرف بالمشغلات الدقيقة (microprocessors)، وهي أهم قطعة في أجهزة الكمبيوتر؛ لأنها العقل المحرك لتلك الأجهزة. وقبل أن نسترسل في حديثنا عليك أن تعرف - عزيزي القارئ - أن جهاز الكمبيوتر ليس فقط اللابتوب الذي تستخدمه لتصفح الإنترنت أو قراءة بريدك الإلكتروني. فتعريف جهاز الكمبيوتر يضم أيضًا أجهزة الكمبيوتر فائقة السرعة التي تُستخدم في اكتشاف الأدوية أو تصنيع الأسلحة.
وتضم كذلك مراكز البيانات التي تدير مواقع مثل الفيسبوك وتويتر وإنستجرام، وتضم أيضًا الأجهزة المستخدمة في غرف العمليات الطبية، وفي السيارات ذاتية القيادة، وفي الطائرات، بل وفي ساعة يدك الذكية. إذنْ، فقد أصبحت أجهزة الكمبيوتر تتحكم في مختلف مجالات حياتنا، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حجم مبيعات الشركات الكبرى المُصَنِّعَة لتلك الأجهزة مثل إنتل (Intel)، وإيه إم دي (AMD)، وكوالكوم (Qualcomm)، وأرم (ARM).
والكتاب الذي بين أيدينا اليوم يتحدث عن قصة إنشاء شركة إنتل في السنوات الأخيرة من الستينيات، والصعوبات التي واجهتها في السبعينيات، ونجاحها الكبير في الثمانينيات، وصراعها مع الشركات الناشئة في التسعينيات وبداية القرن الحادي والعشرين، ثم دخول جميع الشركات في السباق المحموم لتصنيع أجهزة كمبيوتر ملائمة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في وقتنا الحالي.
مؤلف الكتاب "مايكل مالوني"، هو أحد أهم كتاب التكنولوجيا وعلاقتها بعالم الأعمال، لأنه - هو شخصيًّا - رجل أعمال، وكاتب يغطي منذ أكثر من ثلاثين عامًا أخبار مراكز التكنولوجيا في العالم، ألا وهي منطقة سيليكون فالي بمدينة سان فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا بأمريكا. إذنْ، فهو يجمع بين ريادة الأعمال، وبين حسه الأدبي ككاتب، وبين معرفته بالتكنولوجيات الوليدة منذ مهدها في ولاية كاليفورنيا.
ولمعرفته بالشركات والتكنولوجيات والبشر، فقد بنى كتابه عن شركة إنتل حول ثلاث شخصيات محورية في تلك الشركة، يعود إليهم الفضل الأكبر في إنشاء الشركة، ثم نموها ونجاحها؛ ولهذا يحمل الكتاب عنوان (Intel Trinity) أو "ثالوث إنتل".
تأتي أهمية هذا الكتاب من كونه يغطي عدة نقاط في منتهى الأهمية: أولًا، كيف تنشأ الشركات؟ وما هي عوامل نجاحها؟ ثانيًا، كيف تغير الشركات من استراتيجيتها؟ بل ومن السلعة التي تصنعها أو الخدمة التي تقدمها مع تغير المنافسين وتغير العصر؟
ثالثًا، يحتوي الكتاب على تراجم لثلاث شخصيات كان لها أكبر الأثر في تشكيل تكنولوجيا الحاسبات في القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين. رابعًا، يصف الكتاب ببراعة تفاعل الشخصيات، بعضها مع بعض، وكيف يؤثر ذلك على الشركة.
هو - إذنْ - كتاب في التكنولوجيا وريادة الأعمال والتراجم، في نسيج متماسك وشيّق في الوقت ذاته، ولن تشعر بالملل من قراءته بالرغم من حجمه الضخم (560 صفحة من الحجم الكبير).
يتكلم الكتاب أولًا عن الشخصيْن اللذين لهما الفضل في إنشاء شركة إنتل: روبرت نويز (Robert Noyce) وجوردون مور(Gordon Moore)، وهما شخصيتان مختلفتان لكن متكاملتان. روبرت نويز شخصية اجتماعية جدًّا، يتعرف على الناس بسهولة، وله قدرة كبيرة على الإقناع.
بالإضافة إلى معرفته العميقة بالهندسة الإلكترونية؛ فهو حاصل على درجة الدكتوراه في هذا التخصص. أما جوردون مور، الحاصل على الدكتوراه في الكيمياء، فهو شخصٌ مُنْطَوٍ إلى حَدٍّ ما، مُنْكَبٌّ على عمله، لكن له عقلية تحليلية قوية جدًّا. وهنا نرى التكامل بينهما. فكلاهما معرفته العلمية قوية وعميقة، لكن روبرت نويز مسئول عن الصفقات والعلاقات السياسية مع البيت الأبيض والتمويل، وجوردن مور مسئول عن البحث العلمي.
في فترة الستينيات تزامل روبرت نويز وجوردن مور في شركة إليكترونيات تسمى فيرشايلد، قبل أن يتركاها ويُنشئا شركة إنتل، ويأخذا معهما الشخص الثالث الذي يتحدث عنه الكتاب، وهو أندي جروف، الذي سيصبح فيما بعد المدير التنفيذي الأشهر للشركة.
يحتوي الكتاب على بعض القصص المثيرة، التي يمكن أن نستفيد منها إذا حللناها بالعمق الكافي، وإليك بعض الأمثلة.
قبل العمل في فيرشايلد، كان روبرت نويز وجوردون مور يعملان في شركة أنشأها ويليام شوكلي. شوكلي حاصل على جائزة نوبل في الفيزياء مناصفةً مع عالمين آخرين، هما جون باردين ووالتر براتين، عن اختراع الترانزيستور. وأراد شوكلي أن يستفيد ماديًّا من ذلك، فأنشأ أول شركة لتصنيع الترانزيستور في العالم.
وكان نويز ومور من ضمن العاملين في هذه الشركة. فشلت هذه الشركة فشلًا ذريعًا؛ لأن شوكلي كان من أسوأ المديرين الذين شهدهم السيليكون فالي في تاريخه. كان مُوَسْوِسًا، ويظن أن هناك من يتجسس عليه، فكان يعامل من يعملون معه بكثير من الشك، حتى إنه وضع جهازًا لكشف الكذب في شركته. هذه الطريقة في التعامل جعلت ثمانية من أفضل العاملين لديه يتركون الشركة في ليلة واحدة، وكان من ضمنهم نويز ومور، وقد أطلق عليهم شوكلي لقب "الخائنون الثمانية".
التقدم العلمي والموهبة التحليلية لا يعنيان بالضرورة أن صاحبهما إداري جيد، وهذا مطب نقع فيه جميعًا، خاصةً في دولنا العربية. فقد نسأل نجمًا سينمائيًّا كبيرًا عن رأيه في موضوع سياسي، أو نسأل عالمًا كبيرًا عن رأيه في شأن رياضي، ولا نعرف أن لكُلٍّ تخصصه، فالحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء - مثلًا - هو من العامة في الشأن الأدبي.
مثال آخر، عندما قرر نويز ومور إنشاء شركة إنتل لم يكونا صغيرين في السن، ولم يبدآ المشروع في جراج بيتهما كما نقرأ كثيرًا في قصص رواد الأعمال، بل كانا في الأربعين من العمر، وحصلا على تمويل بعدة ملايين من الدولارات في ليلة واحدة، نظرًا لسعة اتصالاتهما وسمعتهما المعروفة كعالميْن كبيريْن.
إذنْ، ليس الموضوع بصغر السن، بل ببناء الخبرة واتساع المعارف. وفي بحث أجرته مجلة هارفارد لإدارة الأعمال (Harvard Business Review) إحصائية تقول إن السن المناسب لنجاح شركة هو الأربعينات، وأن السواد الأعظم من الشركات التي يُنشئها من هم دون ذلك يكون نصيبها الفشل. نقرأ عن الشركات الكبرى التي أنشأها شباب في العشرينيات، لكن هؤلاء قلة، والأغلب يفشلون، فلا تستعجل النجاح.
إذا كنت مُهتمًّا بتاريخ التكنولوجيا أو ريادة الأعمال أو التراجم فهذا الكتاب مفيد جدًّا لك، وشَيّقٌ أيضًا.
نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 45 - يونيو ويوليو 2020