الإثنين 10 يونيو 2024

تميمة النجاح في عصر الإبداع

فن19-10-2020 | 21:24

الصدفة إذا تكررت عشرات المرات صارت حقيقة تستحق الدراسة والتأمل والبحث العلمي الدقيق.. ووراء كل قصة نجاح لمطرب من جيل الخمسينيات والستينيات ستجد دائما اسم مرسي جميل عزيز يتصدر عناوين أغنيته أو أغانيه الأكثر لمعانا وشهرة والتي قدمته للجمهور العربي بقوة وصنعت له ملامحه الخاصة بين مطربي عصره..إلى الحد الذي دفع المطربين الجدد كلهم بلا استثناء إلى الإصرار على البداية من خلال كلمات فارس الأغنية ورسام الكلمات كما كان يلقب... والعجيب أن مرسي نفسه تعاون ونجح مع الجميع ولم يحاول السعي مطلقا للتعامل مع هرمي الغناء أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب. حتى لا يقال إنهما السبب في النجاح وليس تميز كلماته..فقد لاحظ عندما بدأ يخطو أولى  خطواته في مجال كتابة الأغنية اقتراب أم كلثوم فنيا من الشاعر أحمد رامي حتى قيل أنه مؤلفها الخصوصي ولم يكن رامي ينزعج من هذا اللقب بل يراه مصدر فخر وسعادة لمعرفته بقيمة وحجم موهبة كوكب الشرق أم كلثوم وبالمثل تقارب محمد عبد الوهاب والشاعر حسين السيد.. وقرر مرسي جميل أن يتجه لأصوات الشباب غير المعروفين ويصعد معهم سلم النجاح درجة درجة. وكان أهمهم بالطبع عبد الحليم الحافظ ابن محافظته  الشرقية كتب  له عشرات الأغنيات الناجحة المبهرة منها ليه تشغل بالك ليه.وضحك ولعب وجد وحب, ونعم يا حبيبي نعم. وهي دي هي فرحة الدنيا.و في يوم في شهر في سنة واسبقني يا قلبي وحبك نار وأعز الناس وكل كلمة حب حلوة.. وأبو عيون جريئة وبتلوموني ليه. ودقوا الشماسي وغيرها الكثير والكثير. ولعلنا نتوقف هنا عند ملمح من أهم ملامح عبقرية وخصوصية أغاني شاعرنا الكبير.. وهو الحس الدرامي الملئ بالتفاصيل الصغيرة.. والذي أهله لكتابة كل هذه الأغاني في السينما لعبد الحليم حافظ ولغيره من المطربين..بل إن المخرجين كانوا يفضلون  اختيار مرسي جميل عزيز في المواقف التي تحتاج إلى تخليق درامي من الشاعر لتعميق التجربة العاطفية أو تكثيف الأحداث وإحلال الأغنية محل مجموعة من المشاهد من باب الاختزال وتسارع الإيقاع. بينما كان شعراء آخرون يقعون  أحيانا في فخ التطويل وتشعر كأنما أحداث الفيلم توقفت فجأة لتسمع فاصل من الغناء لا علاقة له بتسلسل الأحداث. وتأمل أغنية جواب التي تشير إلى حيرة العشاق في كتابة الخطابات العاطفية في عصر ما قبل السوشيال ميديا. يقول فيها عبد الحليم ريستاتيف بدون لحن حبيبي الغالي بعد الأشواق وسلامي إليك. ثم يمزق الخطاب ويعاود الكتابة لتنساب الموسيقي مع كلمات نور عيني روح قلبي حبيبي حياتي..مشتاق لعينيك..مشتاق لك مشتاق وأنا لسة مقابلك وفي عز الشوق يا حبيبي وفي عز الليل باكتب لك..لا لا قلبي اللي بيكتب لك هو اللي بيبعت لك.. إلى آخر الأغنية. استطاع مرسي بحيلة السطور الموزونة التقليدية في مفتتح معظم الرسائل العاطفية أن يشعرنا بحيرة المحب وتردده في الكتابة ثم خرج الكلام الجديد التلقائي من قلبه لا من عقله. وهو كلام يرسم ملامح شخصية الشاب الرقيق الرومانسي وحالته النفسية دون مشاهد تقليدية مكررة بين العاشق وصديقه  باختصار وجد مخرجي السينما ضالتهم في التكثيف الفني وإضافة استعراضات وأغاني للسيناريو دون الإخلال بالإيقاع وذلك لأن مرسي جميل عزيز كان لديه موهبة المؤلف الدرامي وربما كثرة انشغاله بكتابة ما يزيد عن ألف أغنية حجبت عنا مؤلفا سينمائيا عظيما. والدليل علي ذلك كتابته لأوبريت قطر الندى والصورة الغنائية الشهيرة قاضي البلاج في فيلم أبي فوق الشجرة. وبالطبع الصور الغنائية العبقرية في فيلم مولد يا دنيا.. ولعله يجدر بنا أن نتوقف قليلا بالتحليل والتأمل أمام إحدى روائعه في كتابة الأغنية الدرامية وهي طيب يا صبر طيب التي أداها الفنان القدير عبد المنعم مدبولي بأسلوب جمع ما بين الكوميديا والتراجيديا بحس إنسانى راقي وكأنما يبكي فيها كل أيام الماضي الجميل وشبابه الذي ولى يقول:


 آه يا زمن العبر.. سوق الحلاوة جبر

   إحنا إللي كانوا الحبايب..بيسافروا بينا القمر

     بقينا أنتيكة .. دقي يا مزيكا

    والدنيا فابريكة بتفرم الإنسان 

    قصدي إللي كان إنسان

   طيب يا صبر طيب 


هناك تأثر واضح بالأساليب الحداثية في الشعر العربي والعامي معا أو لنقل إن عشق مؤلف الأغاني لهوايته القديمة في كتابة الشعر عاودته هنا وعاودته في أعمال أخرى كثيرة حيث استطاع أن يضيف لفن الأغنية من خيال الصور الشعرية الكثير أو استطاع أن يقرب القصيدة من ذوق الجمهور الواسع لفن الأغنية.. نعود إلى نقطة البداية أو الفرضية التي طرحناها في مستهل المقال عن لغز تميمة الحظ. ولماذا شاعرنا بالذات هو من يلهث كل مطربي جيله للتعاون معه والحصول من خلاله على شارة النجاح والقبول عند الجماهير؟..لم يكن شاعر الألف أغنية يتميز بغزارة الإنتاج  فحسب بل كان ذواقا للجمال..يعرف ما يوافق كل صوت من طبيعة موضوعات تليق به وتحقق له التفرد والاختلاف عن أقرانه فعلي سبيل المثال رأى في محرم فؤاد صوت ابن البلد البسيط الذي يغني في الأفراح والموالد وأول تعاون بينهما كان هو أجمل ما قدم محرم فؤاد في طوال مشواره الفني العريض..رمش عينه والحلوة داير شباكها ورأي شاعرنا في صوت شادية الرقة والشقاوة البريئة للفتيات عند تفتحهن للحياة كما رأى صورة فتاة الأحلام المثلى للشباب فكتب لها أغاني شباكنا ستايره حرير وعلي عش الحب ووحياة عينيك وفداها عينيا.. ورأى في صباح الدلال الأنثوي والمرح والانطلاق وكتب لها يانا يانا وبستاني يا بستاني ورأى في محمد قنديل صوت العمال والفلاحين والصيادين والبسطاء على باب الله فكتب له أغانى مثل يا مهون وأغنية يا حلو صبح يا حلو طل وبالطبع الرائعة الخالدة إحدى درر الأغاني العربية تلات سلامات ياواحشني.. ورأى فى فايزة أحمد المطربة السورية الأصل بساطة تقترب من طبيعة بنات الريف فكتب لها ياما القمر ع الباب  ويا الأسمرانى وأنا قلبي إليك ميال.. ولاحظت سيدة الغناء العربي أم كلثوم أن هناك قاسما مشتركا بين نجاح كل الأصوات الشابة فطلبت مقابلة الشاعر يتهامس أهل الوسط الفني بأنه تميمة الحظ والنجاح وراوغها صاحبنا ولم يذهب إلى اللقاء الذي حددته وحدثته ثانيا لكنه في آخر لحظة تراجع وقرر عدم الذهاب وعندما التقوا بعدها قالت له أريد أن أعرضك على طبيب نفسي ليعالجك..فقال بقلق خير ياست؟ أجابت بصراحتها ووضوحها المعهود الشعراء جميعهم يتمنون العمل معي وأنا أطلبك للعمل مرتين فتهرب مني؟! فقال للصراحة العمل معك مخاطرة فأنت تنجحين دائما ولن ينسب لي أي دور في نجاح أغانينا معا.. هنا أدركت بذكائها الحاد  أن كبرياء الشاعر يحتاج إلى معاملة رقيقة ودودة وقالت ربما كان معك الحق في أول الطريق ولكنك الآن متحقق وفي قمة النجاح وبالتأكيد الناس تحب أن تسمعني أغني من كلماتك.. وعرض عليها ثلاثة مطالع أغاني لتختار بينهم وهذه المطالع لأغاني سيرة الحب وفات الميعاد وألف ليلة وليلة فاختارتهم جميعا. بقيت تجربة فريدة من أجمل وأرقى ما كتب أستاذنا الشاعر مرسي جميل عزيز وهي قصيدة سوف أحيا لفيروز. وكأنه يرثي نفسه ويؤكد في قصيدته على أن الكلمة باقية رغم فناء جسد صاحبها:


"لم لا أحيا وظل الورد يحيا في الشفاه 

و نشيد البلبل الشادي حياة لهواه 

لم لا أحيا وفي قلبي وفي عيني حياة

 سوف أحيا سوف أحيا

يا رفيقي نحن من نور إلى نور مضينا

 ومع النجم ذهبنا ومع الشمس أتينا 

أين ما يدعي ظلاما يا رفيق الليل أين 

إن نور الله في القلب وهذا ما أراه

سوف أحيا سوف أحيا"


و يختتم الشاعر الذي رحل في فبراير 1980 عن 58 عاما قصيدته البديعة لفيروز قائلا:


"ليس سرا يا رفيقي أن أيامي قليلة

ليس سرا إنما الأيام بسمات طويلة

إن أردت السر فاسأل عنه أزهار الخميلة

عمرها يوم.. وتحيا اليوم حتى منتهاه 

سوف أحيا سوف أحيا".

 

    الاكثر قراءة