الإثنين 30 سبتمبر 2024

الخيال الدرامي في.. "إيه هو ده"

فن19-10-2020 | 21:26

إيه هو ده؟ اشمعنى ده

ارتحت له، وفتحت له لما نده؟!

إيه هو ده؟ اشمعنى ده، سهرت له

واحترت له قوام كده؟!

أكون بحبه؟ مش معقول

الحب مايجيش كده على طول

أمال ده إيه اللي مدوبني؟ ومخلي راحة بالي تسيبني؟

وسهرت والأحلام ويايا، في كل خطوة مشيها معايا

هنا وقفنا، هنا مشينا، هنا حودنا وسهينا

وقلنا كتير، وعدنا كتير

ولاقلناش لبعضينا على الكلمة اللي تحيينا

أنا عايزه احكي له وخايفة

خايفة من إيه مش عارفة

غلبت واحتار غلبي، إيه الحكاية ياقلبي

 تكونش بتحب؟، أيوه انت بتحب

 بتحب ده، وتدوب في ده

واشمعنى ده ارتحت له وفتحت له لما نده

إيه هو ده؟ !اشمعنى ده سهرت له

واحترت له قوام كده؟!

خدتني حنية قلبه، وخدني صوته وكلامه

نسيت آلامي وأنا جنبه، وعشت وياه في آلامه

حسيت وفكرت، وسهرت واحترت

وشربت ياقلبي م الشوق وكترت

حسيت شيء حلو جديد، شيء حلو وبس

شيء زي ليالي العيد، بالروح يتحس

أنا عايزة أحكي له وخايفة، خايفة من إيه؟ مش عارفة

غلبت واحتار غلبي، إيه الحكاية ياقلبي

تكونش بتحب، أيوه أنت بتحب

 بتحب ده، وتدوب في ده، واشمعنى ده؟

 ارتحت له، وفتحت له لما نده

إيه هو؟ ! ده اشمعنى ده سهرت له

واحترت له قوام كده.

يلفت النظر بشدة في هذه الأغنية، كما في غيرها، حساسية مرسى جميل عزيز الدرامية الواضحة في اختيار ضربة البداية، أو ما يسمى ببراعة الاستهلال، أو لنقل النقطة الساخنة التي يبدأ من عندها الغناء. تلك النقطة التي تمكنه بعد ذلك من تنميتها وتطويرها وتفجير ما فيها من ممكنات درامية، تتجلى فى انفعال النص كما تتجلى في خياله وتشكيله وبنائه. وهى سمة اكتسبها شاعرنا - بغير شك ــ من معرفته الأكاديمية بقواعد الكتابة الدرامية التي تتضمن شروطا وقواعد معينة للبداية الدرامية الناجحة والتي من أهمها قابليتها للنماء، واكتنازها بالممكنات التي يمكن تطويرها بعد ذلك خلال النص. كذلك لا نستبعد أن يكون شاعرنا قد استمدها من خبراته الموسيقية العميقة التي عشقها ومارسها كهواية منذ صغره.

إن القارئ للكثير من استهلالات أغنيات مرسى جميل عزيز سيتأكد من قدرتها على الإيحاء بصدورها عن ضرورة غنائية، وارتباطها بتجارب إنسانية حية، تدفع المتكلم بها إلى أن يتكلم الآن؛ حيث لم يعد الأمر يحتمل التأجيل. لذلك فإننا نلمس في هذه المطالع ذلك الحضور الانفعالي الضروري لانطلاق الغناء، ذلك الحضور المكتنز بممكنات التجربة، تلك التي يتم استمدادها وتنميتها حتى نهاية الأغنية. الأمر الذي يصلنا بالدراما من ناحية وبنظام التأليف الموسيقى من ناحية أخرى. يمكننا مقاربة ذلك فى ضوء كلام المؤلف الموسيقى ( عزيز الشوان ) عن " الثيمة الأساسية " التي يتطور منها اللحن في تنويعاته وتفريعاته المختلفة، معرفا الثيمة، أو الفكرة الموسيقية بأنها خلية لحنية توحي بمدلول معين ثم تنمو وتتكاثر عضويا بفضل القوة الدافعة الكامنة فيها.

 ونحن حين نتأمل مطالع أغنيات مرسى جميل عزيز فلن نجد - ربما - أفضل من وصفها بـ " خلية لحنية " لنصفها به، مع استبدال بكلمة " لحنية " كلمة أخرى وهى "لغوية" وإضافة كلمة "انفعالية" لنقول إن الكثير من هذه المطالع عبارة عن: خلايا لغوية وانفعالية توحى بمعان معينة ثم تنمو وتتكاثر عضويا بفضل القوة الدافعة الكامنة فيها.

على هذه الخلفية يمكن النظر إلى الكثير من أغنيات مرسى جميل ومنها " إيه هو ده؟" التي غنتها نجاة الصغيرة، من ألحان محمد الموجى، والتي يمضى استهلالها على هذا النحو الدرامي الذي يصل أجزاء الأغنية يبعضها، دون فصل بينها:

إيه هو ده؟ اشمعنى ده، ارتحت له، وفتحت له لما نده؟!

إيه هو ده؟ اشمعنى ده، سهرت له، واحترت له قوام كده؟!

بهذه المقاطع اللغوية القصيرة، المكثفة والمركزة، يؤسس الشاعر لمحاكاة تجربة وعى ذات متحيرة في مواجهة حالة تغير عاطفي تنتابها، ولا تكاد تفارقها، حتى أنها تتحول إلى هاجس ملح، وسواس يطارد الذهن فيكثف انشغاله ويركزه ويشكله في مونولوج داخلي، توحى مفرداته وتراكيبه اللغوية بالتلقائية، وصدوره عن وعى مباشر مباغت، بحمولاته من المشاعر والأحاسيس الجديدة عليه، فلا نلمح في هذه الأسطر استعدادا خاصا، ولا ظلا لرغبة في استعراض أو زخرفة أو تشكيل قد تفسد هذه التلقائية، بل عفو خاطر متحير ولكنه محكوم بمجال محدد، يطرح على نفسه الأسئلة التي تكثف حيرة الذات المغنية فى اتجاهين مترابطين: الحالة التي تشعر بها وتتساءل عنها: إيه هو ده؟! والمتسبب في حدوث هذه الحالة: اشمعنى ده؟! وربما يدلنا تكرار القافية في الشطرات القصيرة التي يتشكل منها هذا الاستهلال، بالإضافة إلى قصر المقاطع اللغوية نفسها و تتابعها على إلحاح تلك التجربة على الذهن وتمحورها حول مركز ليس فى استطاعة الذات مفارقته. هذا الإلحاح الذي يشكل حافزا دراميا لانفتاح السرد على تلك التجربة المؤرقة للذات المغنية، فيتداعى الوعي الذاتي في مونولوجه، مقلبا في كنه التجربة محاولا تسميتها: أكون باحبه؟! وتأتي الإجابة سريعة :" مش معقول / الحب مايجيش كده علطول! ".. وبين أسئلة وأجوبة، ومحاولات للإنكار ودوافع أكثر للاعتراف، مع الخوف من الاعتراف في الوقت ذاته، تذهب الذات المغنية وتجيء، بما يمنح سردها توترا، أظنه من أكثر وجوه شعرية الأغنية حضورا وأكثرها دلالة على صدقها الفني و الشعري، وتستمر الأغنية فى تقلبها ودراميتها على الرغم من انحياز الذات إلى تسمية أكيدة لتجربتها وهو ما يلوح في محاورتها لقلبها: تكونش بتحب؟.. ثم قطع الطريق ونسف أي فرصة أمامه للإنكار أو الهرب من الإجابة: أيوه أنت بتحب. ذلك الاعتراف الذي يقود السرد إلى المزيد من الاقتراب من كنه الشعور وإلى المزيد من الاعتراف: "خدتنى حنية قلبه.. وخدني صوته وكلامه.. نسيت آلامي وأنا جانبه وعشت وياه فى آلامه". وصولا إلى "حسيت شيء حلو جديد، شيء حلو وبس.. شيء زي ليالي العيد بالروح يتحس" غير أن ذلك الاعتراف يظل مطاردا بخوف تلك الفتاة من البوح للآخر، وهو السطر الذي اختارت الأغنية أن تتكئ عليه لتحتفظ بتوترها حتى النهاية، وليظل المونولوج الذاتي محتفظا بتلك الحالة من التردد والسرية التي تمنحه دراميته وشعريته: "أنا عايزة احكي له خايفة.. خايفة من إيه؟ مش عارفة !.

هكذا لا يكتفي مرسى جميل بما يعرف بالفكرة أو المضمون، يعرف تماما أن الأفكار ملقاة فى الطريق، إنما يذهب شاعرنا صوب تخليق التجربة الأشمل، تلك التي لا تنفصل عندها العناصر عن بعضها البعض، لاتنأى اللغة عن المتكلم بها، بل لا تنأى عن حالته أثناء التكلم، تنقل خلجات النفس، وتيار الشعور، ولحظات التردد، كما تنفل حالات البوح الجهيرة في سياقات أخرى. لا يحاكى الشاعر صورا سابقة التجهيز إنما يقوم بتخليقها فى معمله أو مرسمه.

إن بحث شاعرنا عن "الشعر" وعدم اكتفائه بامتلاك الصنعة والمهارة، ووعيه الرهيف بعناصر التجربة الشعرية وحساسيته فى هندسة تلك العناصر ودمجها عصم أغنيته من الخضوع لما شاع في الأغنية التقليدية من نمطية تبدأ بالمطلع ثم تقوم بعد ذلك بتلفيق ما شاء لها من " كوبليهات" لمجرد تعبئة زمن الأغنية بتنويعات ركيكة لا يربطها رابط بانفعال المغنى، أو بهاجس الثيمة الأساسية، أو بوجود ضرورة عضوية.. هذا الأمر لا تعرفه أغنيات مرسى جميل عزيز، الذي قاده وعيه المختلف بالتجربة الشعرية إلى أن يخطو خطوات أبعد نحو كتابة أغنية حرة، لا تخضع إلا لمنطقها الداخلي الذي تمليه عليها خصوصية التجربة واختلافها من أغنية لأخرى، لتنطلق منفعلة وحرة وشاعرة منذ سطرها الأول على شكل دفقات أو حركات، تقصر أو تطول حسب ما تمليه الطاقة المعبأة فى السطور الأولى وقدرتها على التوليد والتنويع على مستوى الانفعال، كما على مستوى بناء المعنى، وتشكيل الصورة، مازجة بين الانفعال والإيقاع والخيال والكلام ووعى الذات المغنية في وحدة عضوية أقرب ما تكون إلى وحدة القصيدة لولا نظامها الخاص الذي يراعى قابليتها وطواعيتها للغناء.