في
حوار للإذاعة المصرية في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، قال مرسي جميل
عزيز واصفًا نفسه والمشهد الغنائي من حوله: "أنا بصيت حواليا لقيت جميع
إخواني اللي في مهنتي كل واحد منهم اشتهر بمطرب، يعني أنا أقدر أقول "لولا أم
كلثوم يمكن مكانش اتعرف أحمد رامي، لولا فريد الأطرش يمكن مكانش اتعرف مأمون
الشناوي، لولا عبدالوهاب يمكن مكانش اتعرف حسين السيد، لولا شكوكو يمكن مكانش
اتعرف فتحي قورة". أنا بصيت لقتني العكس يعني أنا مفيش مطرب اشتغلت معاه كتير
أبدا أنا بشتغل مع الصغيرين وبيكبروا بأغانيهم".
والاشتباك
بالحجة والبراهين مع هذا الوصف ربما لا يكون في صالح صاحبه؛ فكثير من هؤلاء
الشعراء لهم نجاحات مدوية مع العديد من المطربين ولم يقتصر تعاونهم مع مطرب واحد.
ولمرسي جميل عزيز أيضًا شراكات فنية واضحة مع مطربين بعينهم نتج عنها العديد من
الأعمال الفنية التي عاشت حتى يومنا الحالي وستعيش للأبد –إن جاز هذا التعبير-
وعززت تلك الأعمال أسطورته ومكانته بين شعراء الأغنية، ولكنه رغم ذلك حوار كاشف
لعقل يحمل من القدرات الفنية والرؤى المستقبلية والاعتزاز بالنفس ما يجعله يؤمن
لصاحبه مكانًا متفردًا يصعب على غيره من شعراء الأغنية في عصره الوصول إليه برصيد
يتجاوز الألف أغنية وبأجر هو الأعلى بينهم، بل يمكنك أن تصاب بالذهول لو عرفت بأن
شباب الشعراء في عصرنا الحالي قد لا يتقاضون "ألف جنيه" ثمنا لكلمات
أغانيهم كما تقاضى مرسي جميل عزيز عن أغنية "فات الميعاد" حسب مجلة
الكواكب الذي اعتبرته رقمًا جديرا بالتوثيق في ذلك الوقت.
تبدأ
رحلة مرسي جميل عزيز مع المطربين العظماء مع الصوت الشجي الذي شق طريقه من صعيد
مصر، ليخترق قلب القاهرة عبر الأفراح والموالد والمناسبات ليصنع لنفسه اسمًا يليق
بمطرب شعبي ذو حضور طاغي وملحن خفيف الدم سريع البديهة "عبد العزيز
محمود" وأغنيته الشهيرة "يا مزوق يا ورد في عوده والعود استوى، والكحل
في عنيك السود جلاب الهوا".
وهي
الأغنية التي صاغها الشاعر بحرفيه شديدة؛ مكونا من كلمات غير مترابطة ومن بيئات
لفظية غريبة على الجو الشرقي للأغنية الشعبية
"ورد ، كاس، استوى، عود، شفه، حجاب، قمر، مسحور، يبوس، يتباس"
قطعة غنائية تشبه الحلى التي ترتديها النساء في المناطق الشعبية؛ فتبهرك بجمالها
وتسحرك بشكلها وتدل على ذوق صاحبتها ومزاجها الثقافي.
وتعتبر
تلك الأغنية واحدة من أغانيه الأولى "التي قدمها والتي كانت سبب شهرته وبروز
نجمه للمرة الأولى بين شعراء الأغنية، ولكنها في الحقيقة لم تكن هي أغنيته الأولى؛
فقد قدم قبلها بفترة بسيطة وفي العام نفسه أغنية أخرى لا يعلم عنها اليوم أحد
بعنوان "الفراشة".
وتستمر
علاقة مرسي جميل عزيز بعبدالعزيز محمود ليقدم له عدة أغاني هي الأهم والأشهر في
مشواره الفني، ولكن "مرسي" صاحب القدرة الذهنية والموهبة الجبارة لم يكن
ليكتفي بذلك. وتستمر أسطورته في التنامي، وموهبته في التوهج، وحضوره في الزيادة؛
ليغني من كلماته أهم مطربي ذلك العصرالذي ربما قامت قوة خفية بجمع أساطير الفن
والتلحين والطرب جنبا إلى جنب؛ حيث اجتمع نخبه من أعظم الملحنين مثل
"عبدالوهاب، السنباطي، فريد الأطرش، محمد فوزي"، وأعظم الأصوات مثل
"شادية، فايزة أحمد، محرم فؤاد، كارم محمود"؛ ليتعاون معهم جميعا ويؤثر
بشكل لا يمكن إنكاره على مسيرتهم تاركا بصمات واضحة.
ولكن
قدر مرسي جميل عزيز وموهبته الفريدة وجدت ضالتها واكتمل انفجارها بين يدي مطرب شاب
لم يظهر على الساحة إلا بعد مرور عشر سنوات كاملة قضاها مرسي جميل عزيز في العمل
الجاد حتى حاز على التواجد المرموق والشهرة الأخّاذة ونجا من كثير من المعارك
والأعداء الذين كانوا يدعونه "بتاع الفاكهة" بسبب صنعة والده
"الفكهاني" في محافظة الشرقية وذلك من اتهامات السرقة المتلاحقة التى
انهالت عليه من كثير من الشعراء والصحفيين.
كان
عبدالحليم صغيرا، ولكنه ذو موهبة ملفتة وذكاء واضح عندما قابل مرسي جميل عزيز
للمرة الأولى وغنى أمامه "ولد الهدى"؛ فشبهه مرسي على الفور بالقارئ
"محمد رفعت" وأدرك أنه اكتشف كنزا جديدا يضاف لخزانة كنوزه، وموهبة سوف
تكبر بكلماته وتحمله معها لآفاق جديدة. وكان حليم ذكيا للغاية يملك من الموهبة
وسعة الحيلة والقدرة على التفاعل الاجتماعي والسياسي والتطور المستمر لمواكبة
الذائقة العامة والظروف المجتمعية مما يؤهله لمكانه فريدة ألقت بظلالها على كل
الفنانين المحيطين به بمرور الوقت.
وهيئت
كل تلك العوامل والسمات الشخصية العملاقين للتعاون بشكل مثمر وجاد؛ ليكون النصيب
الأكبر لعبدالحليم حافظ من بين كل المطربين الذين تعامل معهم مرسي جميل عزيز بما
يقارب خمس وثلاثون أغنية شديدي الثراء والتنوع بدأت بأغنيات مثل "مالك ومالي يا أبو قلب خالي"، ثم
كانت مجموعة من أبرز الأعمال التي صاحبت
نجاح عبدالحليم الفني والسينمائي وجعلته الصوت المعبر عن الرؤى الوردية والخيالات
الرومانسية لأبناء ذلك العصر مثل "الحلو حياتي وروحي، يا قلبي خبي، هي دي
هي"، وأكد على ذلك الخط الرومانسي الرقيق الساحر بأغنيات أخرى مثل
"بتلوموني ليه، يا خلي القلب، بأمر الحب"، ثم جاءت مجموعة من الأعمال
الأكثر نضجًا وتشابكًا مع الذات الإنسانية بتعقداتها المختلفة مثل "على طول
الحياة، أعز الناس".
وهو
ما يعتبر رهان كبير لشاعر مثل مرسي جميل عزيز على مطرب لم يكن يستطيع أن يتنبأ
بمستقبله أحد فى ذلك الوقت ولكنها كانت طبيعته التي لم يكن ليغيرها؛ فقد اعتاد
المراهنة على الأصوات القوية وكان لا يكف عن مساندتها وتقديمها حتى تصبح نجوما
تغرد بكلماته وهو ما حدث مع الفنانة الشابة فى ذلك الوقت "فايزة أحمد"
عندما جاءت لمصر تبحث عن حظها في الفن والشهرة، وترك بصمته في مسيرتها بأغنيات مثل
"أنا قلبي ليك ميال، يامه القمر ع الباب، حيران كدا ليه، بيت العز يا
بيتنا"، وقد شاع أنه من دعاها إلى مصر في المقام الأول عندما سمعها في
الإذاعة السورية.
ونجد
أن تلك القدرة الاستبصارية قد شملت "محرم فؤاد"؛ حيث قدم له رائعته
الخالدة "الحلوة داير شباكها شجر الفاكهة" والغنوة الجميلة "رمش
عينه اللي جرحني"؛ ليضعه في مصاف كبار النجوم.
كان
مرسي جميل عزيز ذو حضور طاغٍ في المشهد الفني، لا تسطر قلمه الأغنيه إلا ويُكتب
لها الشهرة والنجاح، والدليل على ذلك نجاحه مع شادية في بعض من أجمل أغنياتها
"وحياة عنيك وفداها عنيا، على عش الحب". وكذلك نجاحه مع فريد الأطرش
"أنا وانت وبس" وأيضا صباح "يانا يانا"، ومحمد فوزي
"الشوق"، ونجاة الصغيرة "أما براوه". ولعل ثقة مرسي جميل عزيز
بنفسه واعتزازه بموهبته وقدرته على صناعة المطربين كما كانت لها تأثير إيجابي كبير
في مسيرته، إلا أنها أخّرت كثيرا تعامله مع "أم كلثوم"، بل إنها كادت أن
تفسد ذلك التعاون؛ حيث كان يرى بحسب تصريحاته أنه ليس في حاجة لذلك التعاون، حتى
لا ينسب نجاحه لها وأنه شاعر ذو شأن عظيم لا ينقصه التعاون مع كوكب الشرق ليثبت
ذلك، وعندما رفض مقابلتها عدة مرات قالت إنه في حاجة لعلاج نفسي -حسبما صرح نجله
في عدة لقاءات صحفية وتليفزيونية- ولكن برغم ذلك فقد تعاون معها في النهاية؛ فكانت
ثلاثية عظيمة رصعت مسيرته وهي بالترتيب "سيرة الحب، ألف ليلة وليلة، فات
الميعاد"، وكأنه يروي عبر تلك الأغنيات أحداثا حقيقة لعلاقة عاطفية بدأت في
توجس وريبة ثم توهجت نيرانها قبل أن تنطفئ ويطويها الذبول والنسيان.
وقد
ارتبط اسم أغنية "ألف ليلة وليلة" بلقبه المرتبط بعدد الأغاني التي قام
بتأليفها "ألف أغنية أو يزيد كما قال هو بنفسه شاع في ذلك الوقت أن ألف ليلة
وليلة هي الأغنية الأولى بعد الألف.
وقد استمر عطاء مرسي جميل عزيز حتى
بعد وفاته حيث طرح الموسيقار محمد عبدالوهاب أغنية "من غير ليه" بصوته ومن ألحانه، التي كانت تعد لعبدالحليم حافظ الذي لم يتفاعل مع
اللحن بالشكل الكافي؛ فاعتذر عن غنائه ولكن الأغنيه بقيت وبقيت ذكرى الشاعر حية
وبقيت فلسفته بازخة من خلفها.
"جايين الدنيا ما
نعرف ليـــــــــــــه
ولا رايحين فين ولا
عايزين إيــــه
مشاوير مرسومه
لخطاوينـــــــــا
نمشيها فى غربة
ليالينــا
يوم تفرحنا ويوم
تجرحنـــا
واحنا ولا احنا
عارفيــن ليـه
وزي ما جينا
جينــــا
ومش
بإيدينا جينا"