الأربعاء 26 يونيو 2024

هذا الشاعر .. مطلوب على وجه السرعة

فن20-10-2020 | 11:01

فلتسمه إن شئت ديواناً أو لوحة شعرية أو جدارية مرسومة بحروف وألوان ورؤى .

فمنذ يطالعك العنوان والغلاف الموحيين بالكثير رغم البساطة والهدوء تشعر أنك على  أعتاب محراب فكرى وفلسفى يستلزم شحذاً للانتباه والحضور الكاملين . إنه ديوان (أين تضع العذراء مسيحها) للشاعر الحداثى (مفرح سرحان) يبتدؤه بقصيدة بمثابة افتتاحية يكمن فى طياتها إهداء ما إلى مكان ما وإلى شخصين أحدهما ولى شهير والآخر شاعر ضمنى ، القصيدة بعنوان : ( إلى الجنوب ذلك أفضل) يلتحم فيها منذ السطر الأول الشاعر بالولى : ( إلى عبد الرحيم قناوى .. ماذا ستكتب اليوم؟) وهو سؤال ممتد كالإيقاع أو الصدى أو كرجع الكروان تنشطر نغماته بالقسطاس على تقاطيع القصيد، ويلاحقنا السؤال بتداعياته المرهقة وتساؤلاته الشجية وعباراته العدمية من أمثال : (متن النص منهكٌ بالسفر .. الهوامش محشوة بالخوف .. الأوراق التى هذبتها طارت بعيداً .. الفصل الأخير ليس مكتوباً فى أجندتك) . ثم يبدأ الإيقاع فى التغير قليلاً ليتحول إلى صيغة النهى بدلاً من الاستفهام وصولاً إلى ختام القصيدة ، وهى طريقة نراها مطَّردة فى قصائده حيث يعتنى الشاعر اعتناءً خاصاً بمقاطع الختام كما يلاحَظ فى جميع قصائده ، خاتمة يبث خلالها فى العادة إشراقة تنفك على إثرها بعض رموز المقاطع الأولى الملتحفة بالغموض . الخواتيم تأتى فى معظمها بصيغتى الأمر أو النهى نحو ذاته أو نحو الآخَر . وهذه الثنائية بين ذاتيته والذات المخاطَبة التى يشاطرها مفردات وسطوره الشعرية تلمسها عبر ديوانه وإن تغيرت ماهية تلك الذات ما بين الأنثى والقصيدة والخريطة والمرآة والقلب والبحر .

  إذن يتحول السؤال : (ماذا ستكتب اليوم؟) إلى صيغة النهى : (لا تكتب شيئاً اليوم) ليبيت هو الإيقاع الجديد نزولاً إلى المقطع الأخير ، فيقول :

لا تكتب شيئاً اليوم

لا تجتهد فى ولادة عنوان

لا ترمم النصوص البالية

لا تعذب روحك بعلامات الترقيم

ولا تشغل بالك بقواعد النحو

....

لا تدون رحلتك هذه المرة

ولا هوسَك بهواء الشَمال الملوث

ولا زِحامه الموحش

ولا أضواء مدينة الشمع

يكفيك طهر الجنوب

ولعل من أقوى ما قد يطالعك لافتاً لأفكارك فى قصائده عناوينها التى صيغت بحرفية لتتحول إلى جزء لا يتجزأ من هذه القصائد بحيث إذا أزيلت العناوين اختل بنيان القصيد ، خاصةً عندما يصير العنوان علة لتعليلٍ تالٍ ، مثلما فى قصيدة : (وجهى لا يظهر فى المرآة) إذ يأتى المتن معللاً ومفسراً : ( لأن الزجاج كاذب .. والرمل مخضب بمساحيق التجميل .. كلما فتح الزجاج فاه .. لاح وجهى أحمر شفاه)  وهنا قد نلحظ ظهور نوع من القافية ،وهو أمر نادر فى قصائد (مفرح سرحان) التى يتعمد فيها الفرار من كلاسيكيات القوافى كما فى قصائد التفعيلة ، والقصائد الخليلية .. بل هو يكتفى بالتسكين الدائم كقافية موحدة لجميع السطور الشعرية .

تلك الديناميكية التى تتمتع بها العناوين تسببت فى إحداث شيء من التمازج والتموج والتفاعل بين القصائد بعضها ببعض فيما يشبه الصور الانطباعية المتداعية المتقافزة بين أركان وزوايا السطور رغم اختلاف القصائد من حيث الموضوع والنكهة .

  ثمة اهتمام لدى الشاعر بالمفارقات الكاشفة والتى أتى بعضها فى شكل لوحات سريالية مستقاة من واقعٍ مشوَّه وكأنها صور فوتوغرافية معالَجة بالفوتوشوب يتحول فيها الإنسان إلى وريقة ثنائية الأبعاد ، واقرأ إذا شئت : ( منذ اختفت الخطابات .. لم يعد القلب يرقص .. منذ رأى آخر مرة خطاباً . يحمل ساعى البريد) .. لم يعد هناك حاجة لساعى البريد الذى تحول إلى خطاب محمول بين طيات الرسالة ! وهى صورة تتكرر فى قصائد أخرى بإلحاح أكثر ، مثل : (كيف تبرأ الأرض من الرعاة ؟ .. وفى كل ضرع بقرة .. وفى كل شوكة ظهر) . وفى قصيدة : (لن تنجب حكايات قديمة) مطاردة لمتوالية من الصور السريالية المعكوسة ، يتعمد فيها تأكيد تلك الحالة المدهشة من الأوضاع المقلوبة ربما فى الواقع أو فى الخيال .. يقول :

الحكايات ذاتها تنسخ أقاويل من يروونها

كيف عادت حكاية الثمرة التى تأكل شجرتها؟

والقمحة التى طحنت القادوس فى جنينها ؟

والنجمة التى قطعت ذيلها ؟

والحرير الذى التهم القز ؟

والأرض التى حرثت بطنها؟

والأبناء الذين أكلوا الأم الغولة ؟

والفتاة التى تزوجت قرن الثور؟

والشاة التى سلخت الجزار؟

أما عن التناقض اللفظى والتضاد بين المفردات والعبارات فهو أكثر من أن يُحصى ، وله نفس الدور المضئ الكاشف كالبقعة البيضاء فى ثوبٍ أسود.

ونوع ثالث من التقابل والتضاد هو التضاد المعنوى الضمنى الذى تستشعره عبر الصور الشعرية أو حتى فى عناوين القصائد كقصيدة (نوة الفنجان) ، وهنا نلحظ شكلاً متجدداً من التلاقى بين قضايا ورؤى متضادة ، كالصراع بين القديم والجديد فى الشعر والأدب ، أو بين الحياة فى الحضر أو فى الريف، وبين المسافات البعيدة والقريبة ، وبين الأصولية والمعاصرة ، وبين المرآة وانعكاساتها المختفية .

  ثمة حضور بارز للأنثى فى قصائده لكنه حضور مناقض ومناهض للرومانسية المعتادة ، إذ هو لا ينفصل عن روح الديوان الغارق فى ألوان رمادية كأنه فيلم تراجيدى قديم ، حتى أنه يرفض أن يعبر عن الجمال والجميلات على طريقة شعراء الرومانسية الكلاسيكيين فيكتب قصيدة ويسمها : (وجه آخر للجميلات) ! حتى أنه عندما يشاء تصوير المرأة فى قصيدة : (سبعة أقلام لرسم أنثى) نكتشف أنه لا يتحدث عن الأنثى بل عن معنى آخر أعمق ، ربما هو معاناة لحظة الميلاد ، أو هو دموع الألم فى لحظة الإبداع والخلق ، إذ تسمعه فى ختام القصيدة يقول :

سبعة أقلام فى حقيبتها :

قلمٌ تتكحل به الليلة

وقلم لتهذيب شفاه القمر

وقلم لرسم وجهها على الماء

وقلم لمسارات التنزه فى الحى العريق

وقلم لقبلة مشروعة على خد كنارى

وقلم لدمج الفصول فى ربيع واحد

وقلم لحظر التدبر

فى حديث النهايات

قبل أن يتعانق النهران

فى المكحلة

وفى قصيدة (صائدة النور) إشارات لمجتمع ذكورى يمنح المرأة حريات مقيَّدة ؛ فضفائرها مكبلة ، وهى الأسيرة لراغبى العطر، وهى فريسة الظلام ، وهى ملك غصن غليظ له حظ زهرتين .. إنه يصف هذا المجتمع الذكورى قائلاً :

وهو يقطف الزهرة

يطلق جناحها فى الغرفة

يصنع لها حديقة فى الجدار

يفرش لها سجادةً حمراء

يزين لها طريقاً مسدوداً

يفتح لصوتها كل الدروب

إلا طاقة النور

يمنعها من الوصول إلى فوهة البندقية

إنها ممنوعة من الانطلاق والتحرر والطيران بعيداً عن الغرفة ذات الجدران الأربعة .

  ومع التغلغل أكثر فى عالم (مفرح سرحان) الشعرى يرغمك الفضول على التساؤل والتفكر حول مغزى القصيدة الحديثة ودورها الفنى والفكرى والفلسفى . إن ظهور الرمزية فى الشعر الحداثى فى أعقاب الحركة الرومانسية منذ أكثر من قرن مضى على يد كوكبة من شعراء أوروبا أمثال : (شارل بودلير) و (ألويزيوس بارتران) و(بول فيرلين) و(ستيفان ملارميه) كان مؤذناً بانبثاق نهر جديد من الإبداع الخلاق لا شك أنه شق لنفسه مساراً انقسمت منه فروع ومصارف وقنوات وتيارات إبداعية جديدة ، كما حدث لدى تيارات السريالية التى بشّر بها ( أندريه بريتون) و(بول إيلوار) و(بيير ريفيردى) وغيرهم .

  لم يكن الهدف من الرمزية هو الالتفاف حول سياج السياسة الشائك أو تحاشى الاصطدام المباشر بالثوابت الدينية والعرفية فحسب ، وإنما كان الهدف الأهم هو الحرية الإبداعية ذاتها كهدف مستقل ، أن يتحرر الشاعر من كل قيد عَروضى أو شرط بنيوى يعوقه دون الانطلاق فى ربوع الفكر والتلوين اللفظى .هكذا تأتى "قصيدة النثر" فى مصر على استحياء فى البداية ، ثم لم تلبث أن سيطرت على الساحة الشعرية ، ثم تمردت على كل شىء حتى مناهج النقد ذاتها . إن دور النقد يتضاءل أمام قصائد النثر حيث لا تفعيلات ولا أوزان ولا قوافى ، بل ولا رسالة مهيمنة . فالقصيدة فى ذاتها هى الهدف وهى المغزى . ثم إن الناقد لابد أن يخطئ فى التفسير إذا شاء أن يحيط فهماً بالمعانى المراوغة والصور مختلطة الألوان ، لأن المعنى الحقيقي فى وجدان الشاعر ورأسه وبطنه وتحت جلده الذى يتحول بفعل قصيدة النثر إلى حراشيف قاسية تستعصى على الاختراق.

  غير أن ديوان (أين تضع العذراء مسيحها) لم يخلُ من محور مركزى أو مفتح مشترك تتلامس فيه سائر القصائد وتنتظم فى عقد واحد كعامل شبه مشترك هو عامل "المكان" . حتى أن عنوان الديوان ذاته يتصدره السؤال: "أين؟" ، فهو سؤال عن مكان قد يوجَد وقد لا يوجد.

  فى بعض القصائد كان المكان هو الشمال أو الجنوب أو كلاهما معا ، أى المدينة والقرية ، أو وجه بحرى ووجه قبلى ، أو الشمال والجنوب الكونيين ، أحياناً يكون المكان أصغر وأدق مثل الصدر أو القلب أو المرآة أو المهد أو المكحلة .

  وفى سائر تلك الموَاطن تلمس حالة من الحلم والضبابية تحجب مشاهدتك لتفاصيل المكان بحيث تكاد توقن أن المكان غائب ولا وجود له . فعندما تغوص قليلاً فى متن قصيدة : (أين تضع العذراء مسيحها) تكاد تتأكد أن المكان المناسب لميلاد مسيحٍ جديد لم يعد موجوداً وأنه اختفى ، والسبب أن : (ظهر الأرض موبوءٌ بالبثور .. وأن بنى الشيطان يلعبون النرد ف بطن الوادى .. وأن خطوط الصديق خلفها يرابط الأعداء) هكذا تتلعثم الخريطة وتلهث ، ثم تهمس فى أذن الأرصفة بأسرار الحقيقة .

يختار الشاعر (مفرح سرحان) أن يختتم ديوانه بعنوان موحٍ بالنهاية )عرض أخير)، وهى خاتمة مصدرة بإهداء ، ومُسطَّرة باشتقاقات ومعانى وتداعيات كلمة "أخير" حيث هيمنة النهايات ، واجتماع كل البدايات فى عدسة العرض الأخير .