كجنوبية ورثت
عناد الأرض التي لم تقبل بجور النهر ونحته، واتفقتْ معه على معاهدة للالتفاف،
ليظهر في الخرائط منحنى قنا صلبا عصيا، ورثتُ جينات آلاف المستعبدين في زراعة
الأرض للفراعنة ومن بعدهم والبكوات والولاة والخديوية والملوك، وصولا إلى
المستثمرين الأجانب، بعدما اختاروا الجنوب موطنا في بداية القرن العشرين لزراعة
القصب وتصنيعه، أنا امتداد لست الدار وست أخواتها وست أبوها وصفصافة، امتداد
للمرأة الثكلى، للجارية في قصر الشريف والنبيل، ولبائعة الخضر في الأسواق، أنا مثل
إيزيس تتجلي في صور المرأة على اختلافها وتعددها، سرت في عروقي نشوى سنوات الأمل
القصيرة قبل هزيمة 67، والفرحة عند تحقيق العبور، لفحني لهيب إحباط التحول إلى عصر
الانفتاح وضياع الأمل، أتسمع أنين ربابة يصاحب عناء باهت يأتي من الذاكرة:
"وطلعت الجبل يا محمد أنقي عَبل يا محمد،
وقابلني البيه يا محمد، وعطاني جنيه يا محمد، أجيب بيه أيه يا محمد، أجيب بيه
خروف، أحمر معلوف يا محمد. وطلع يرعي، في قلب الترعة يا محمد، قام ضربه يهودي يا
محمد، بظرف بارودي يا محمد... "
ومشاهد تترى كأشباح بيضاء أليفة لنسوة لا أعرفهن يجلسن
في رحبة بيت لا أعرفه يغربلن القمح وينقينه من حبيبات الطين، في زمن موغل في القدم
تحولت الأفعال إلى سلوك، والسلوك إلى عادة تدخل الجينات ويولد الجيل الجديد ممتلئا
بها على نحو غامض وغير مدرك، ذاكرة المكان الجمعية، هكذا ببساطة،
لتعيش في زمن مغاير وظرف مغاير وأنت لا تعرف تماما لمَ أنت حائر، لمَ أنت منكسر
وحزين من نقطة عميقة بداخلك، تتوقع أن كارثة ستسقط على رأسك في اللحظة التالية،
تداهمك نوبات سعادة قصيرة فتسرّي عن البدن وتنتشله من السقوط إلى حين. هكذا أنا،
ورثت التعبير عن ما أشعر به بالحكي، بالغناء والنواح وأحيانا بالصمت والتخبط في
أفكاري الشبحية. أنا مجموعة من الرجال يعملون
في زراعات القصب، تتسلط الشمس على رءوسهم، يقوم بعضهم بالكسر ويقوم البعض الآخر
بالتحميل على عربات الديكوفيل، ورائحة "عالسلالم" تفوح في الأرجاء، ومن
فوهات المداخن يخرج السناج مع كتل الدخان ليهيم في الفضاء قبل أن يستقر، وصوت يتغنى
فينشر السكينة والرضاء بالمقسوم على الرغم من كل شيء:
"القصب يا القصب يا حلاوته السنة ديا يا واد،
القصب يا القصب وقصبنا عايز ميه يا واد،
وانتي يا بت يا بيضا خلي العريس يخش،
يدخل يلقاكي بيضا، ومزيناله الوش"
أنا ميريت، وتي عنخ وإياح حوتب، أراني أتهادى على الممشى
المجهز على النهر، الكهنة على يساري وحاكم الإقليم على يميني، الفتيات يترنمن حولي
وتعويذة حابي في يدي:
"هو النيل الذي يفيض على البلد
فتمتلئ مخازن الحبوب، وتزدحم المسـتودعات،
وتتوافر الحاجات.
إنه يضع نفسه في خدمه الأماني، فيجيبها مِن غير
أن يُنقِص منها
شيئا، لا يَدفع له الناس ضريبة، ولا يقدمــون
له الهدايا، ولا
يفتنونه بالكلمات ذات الأسرار الخفية"
كنت ولا أزال ابنة الحكايات التي غزلتها الجدات
والعمات كما يغزلن شيلانهن الصوفية والحريرية، كلما جمعتهن الرحبة بين البيوت في
حلقات السمر واستعادة الذكريات، لا تزال صور الفتيات في العصاري في طريقهن جيئة
وذهابا من النهر، لحمل المياه إلى البيوت، وقيامهن نهاية الشتاء بغسل الحرامات
والبطاطين الصوفية في طقس مهيب ينتظره الرجال لإطلاق النظر وتقييم أنوثة كل منهن على
حدة في تجلي الملابس المبللة، ابنة البيوت الطينية الرطبة صيفا الممتلئة بدفء
الحكايات في كل حين، وأشعة الشمس المنكسرة على عناقيد "المناجا"
المتدلية من الفروع، وهبوب رائحة زهر الليمون على مشارف الربيع من الجنائن المحيطة.
أنا ابنة
التجربة والأماكن والأزمنة، لم يمح مكان جديد انتقلت إليه ملامح المكان القديم
الذي عشت فيه، لم ينسني الناس الجدد الذين أعرفهم كل يوم الناس الذين عرفتهم ورسمت
ملامحهم بداخلي من قبل، لم تزح أفراح اليوم مآسي الأمس، وظلت مآسي الأمس حاجزا لأي
فرح، لا تزال صور نجع حمادي القديمة تتجاور مع ما آلت إليه نجع حمادي الجديدة، بصمات
البرنس يوسف كمال حفيد إبراهيم بن محمد علي، مباني قصريه السلاملك والحرملك، مرتع
لعبي وأترابي، وعلى الواجهة يافطة منسية حائلة مكتوب عليها "الاتحاد
الاشتراكي" إلى جوارها علقت واحدة أخرى "مقر المقاومة الشعبية"
السبيل الرخامي المشيد لسقاية العابرين جوار قصريه، ونخيل حب العزيز على جانبي
الشارع المؤدي إليه، المنازل ذات الطابع المعماري الفريد ومشربيات الأرابيسك،
القيسارية بسقفها الذي يرشح الضوء، كي يظلل دكاكين الخياطين ومحلات المانيفاتورة
والمقاهي العتيقة في السويقة، وفِلل موظفي الدائرة اليوسيفية واللبلاب وعنب الديب
تتهدل من أسوارها.
ضربة إسرائيل
للكوبري ومحطة الكهرباء فجر أحد أيام عام 1969، دِهان النوافذ الزجاجية بالأزرق،
وصوت صافرات الإنذار كل حين، والخندق في شارع الشونة، حركة العمران الجديدة، وبعث
العمال صباحا في البدل الزرقاء آتين من القرى، باتجاه مصنعي السكر والألومنيوم، وشركات
بيع المصنوعات وباتا وسيجال، الصناديق الحمراء تبيع زجاجات الكوكا كولا المحاطة بالثلج
المجروش على التواصي، وأفيشات أفلام السبعينيات على واجهة سينما النيل، وفساتين الموظفات
الديولين والتريفيرا، وفورمة الشينواه وألا جارسون من يد أحمد كوافير السيدات، الحب
الأول والخطاب الأول، وصفير الشبان المعاكسين في الطريق من وإلى المدرسة، وصفعة
الأخ كل مرة عند انكشاف القصة، الرغبة في التحليق والسقوط في شبكة معقدة من
العادات والتقاليد، كنت لا أزال صغيرة،خلاف ما وصلني عبر الجينات، أمتلكت ذاكرة
جيدة للتسجيل، لم يكن مهما وقتذاك فهم التحولات الخاصة والعامة، لقد حدثت هذه
الخطوة بعد امتلاك الوعي والقراءة أثناء الجامعة في ما بعد، أنا من وقف في طابور
الجمعية للحصول على كيلو من اللحم الصومالي، ومن حضر لحظة اغتيال السادات في المنصة،
ومن اتكأ عليها أبوها أثناء رحلته الشهرية لتقاضي المعاش، ومن ارتدت الحجاب بعد أن
أفهمها أخوها أن العرسان لن يتقدموا لفتاة تخرج بشعرها في الطريق، ومن أخذ الذكور
ضعف حظها من الميراث، وافتخروا أنهم عكس الباقين يورثون الإناث،أنا الزوجة
المقهورة من زوجها، والزوج المقهور من الظروف، من استطاعت - بعناء واحتيال والاستعانة
بخبرة مئات النساء - النجاح كي يكفي المرتب حتى نهاية الشهر،أنا الأم الحنونة
المتسلطة، والابنة المتمردة على أي سلطة، أنا من دفنت ابنها بيديها، أنا التي
الدموع انسالت من عينيها وهي تعدّد:
"يا
عود طري واتلوى.. ميل ومال ع الأرض،
امبارح
كان وسطنا..والليلة تحت الأرض"
لم يكن حتميا
كوني من الصعيد فقط أن أبدأ الكتابة، كان الأهم أن أكون كل هؤلاء في آن لأبدأ، أن
تتقمصني شخصياتهم،وأمتلك القدرة على التماهي في عوالمهم، أن أكون شعاعا أثيريا
يخترق الزمان والمكان، أن أكون نفسي أولا، وأخوض معارك كثيرة في هذا السياق، ومع
هذا، ليست ميزة أن تقصي المركزية الصعيد منذ زمن من الصعب تحديده، ويسقط من حسابات
التنمية والتطوير، فينغلق على وعيه وعاداته ولغته، وفي هذه الانغلاقة يعيد إنتاج
ثقافته في اتجاه آخر، ربما نحن الكتاب من نجد في هذه الملامح وما توالد عنها ميزة
وميزات، وأجواء صالحة لكتابة روائية مغايرة، ودراما يعبث بتفاصيلها كتاب السيناريو
كي يتفرج عليها أهل القاهرة والمدن الكبرى بدهشة وشغف.