يُعرِّف أليكس الهوية بأنها : (( عناصر
التركيب في علاقاتها الداخلية التي تعطي للكائن خصائصه الأساسية والتي تصله بالوسط
الخارجي طبيعياً كان أو غير طبيعي ))، ويشير إلى أنها ليست (( كياناً ثابتاً
ومطلقاً ، وإنما هو متغير )) ، ولذلك فإن البحث عن معالم هوية المجتمعات أصبح يشغل
بال المفكرين والأدباء في العصر الحديث .
وفي العالم العربي صارت تثار بقوة أسئلة الهوية ، وخاصة
بعد الانفتاح على الحضارة الغربية المعاصرة ، وبعد رحيل المستعمرين في الخمسينات
والستينات من القرن العشرين ، حيث أصبح خطاب الفكر العربي الحديث يدور حول تأصيل
الذات ، والعودة إليها ،والبحث عن هويتها ومقاربتها، بل إن سؤال الهوية أصبح هو
السؤال الرئيسي في الثقافة والإبداع في العالم العربي .
وفي عام 1932 م تم إعلان تأسيس المملكة العربية
السعودية كياناً موحَّداً بعد معارك كثيرة خاضها الملك عبد العزيز
آل سعود ، وكانت الهوية العربية الإسلامية هي الأساس الذي قام عليه هذا الكيان
مدعوماً بتطبيق صارم لقوانين الشريعة الإسلامية ، وقد اندمجت فيها الهويات القبلية
والمذهبية والمناطقية التي يتكون منها المجتمع السعودي .
وقد كانت هذه الهوية الإسلامية هي القاعدة التي
لجأت إليها الدولة السعودية في مواجهة التيار القومي العربي الذي عمَّ أرجاء الوطن
العربي في الخمسينات والستينات من القرن العشرين .
وقد شهد عام 1958 م ظهور أول رواية نسائية سعودية
، وهي روايـة (( ودَّعت آمالي
)) لسميرة محمد
خاشقجي، وكانت تكتب رواياتها باسم سميرة بنت الجزيرة العربية ، ومع أن الكاتبة
كانت تعيش خارج المملكة إلا أن رواياتها كانت تدعو إلى تغيير واقـع المرأة السعوديـة
، ونجد هـذا واضحاً في روايتها (( قطرات من الدموع )) ،
فـ(ذكرى) بطلة روايتها فتاة صمَّاء لا أصل ولا نسب لها يُعْتدُّ به ، ولكنها
تحدَّت واقعها وظروفها الاجتماعية بالعمل والكتابة ، واستطاعت أن تتغلب على
التقاليد الاجتماعية الحازمة التي دعت الأب إلى رفض زواج ابنه الدكتور (عاصم) من
فتاة صمَّاء لا أصل لها ولا فصل ، ونجحت في حثِّ حبيبها على التمرد على السلطة
الأبوية ، وقد كانت الكاتبة تستشرف رياح التغيير للواقع الاجتماعي السعودي ،
واستطاعت الكاتبة أن توجّه رسالة قوية للمجتمع السعودي بحيث أن فتاة صمَّاء
استطاعت ، وهي الخرساء ، أن يكون لها صوت قويٌّ في حركة التغيير الاجتماعي في
الوقت الذي تبقى آلاف النساء الناطقات في دائرة الصَّمت .
وتُظهر لنا هدى الرشيد في روايتها (( غداً سيكون
الخميس )) الصادرة سنة
1976 م موقفَ المرأة السعودية من المجتمع المحافظ ، وذلك في مرحلة الوعي وانتشار
التعليم والإعلام والسفر ، ويظهر لنا ذلك واضحاً من خلال استعراض الشخصيات
النسائية في روايتها ؛ فـ(نبيلة) تقرر السفر إلى الخارج ، وتفضِّل ذلك على العيش
في مجتمع مغلق لا تستطيع التأقلم معه ، و (حصة) هي الأخرى تسافر إلى الخارج بعد
رفض والدها تزويجها من الرجل الذي أحبَّتْه ، وهو احتجاج واضح على مصادرة حريتها
في اختيار شريك حياتها .
وفي صرخة قوية ضد اضطهاد المرأة من قبل الرجل تقول
إحدى بطلات الرواية وهي الطالبة في الجامعة الأمريكية في بيروت : (( واحد أجنبي
يساوي ألفاً من أبناء بلدي ... إنهم يروننا كالحشرات )).
أما (لمياء) فتستسلم للزواج التقليدي وترضخ لقواعد
المجتمع المحافظ ، وأما (سميرة) فتهرب إلى التدخين والانحراف ، وتبقى (نوال) بطلة
الرواية والصوت المتميز فيها التي تتمتع بالجمال والعلم والإدراك ، وتتبنى الدفاع
عن قضايا حقوق المرأة في مجتمع يسيطر فيه الذَّكَرُ سيطرة شبه مطلقة ، حيث ترتبط
بعلاقة حُبٍّ مع (أحمد) العائد من الخارج حاملاً شهادة الدكتوراه والأستاذ الجامعي
المرموق ، ولكنها تصطدم منه في اللقاء الأول لهما حين عبَّر لها بعدما شاهد جمالها
ووعيها بأنه فوجئ من إمكانية اجتماع الجمال والوعي في امرأة من بيئته ، وحدثت
الصدمة الثانية لها حين تخلَّى عن اتفاقه معها على الزواج ورضخ لضغوط المجتمع
المحافظ ممثلاً في والدته وشقيقته .
وتهرب (نوال) إلى الكتابة والشعر والإعلام
(الإذاعة) ، ويتحول البحث عن الهوية إلى معركة مع المجتمع كله ، سلاحها الكلمة
المقروءة والمسموعة ، معركة مع المجتمع الذي يظلم المرأة وينظر إليها بدونية .
وفي سـنة 1986 م ظهرت رواية صفـية عنبر (( عفواً يـا
آدم )) ، وروايـة (( وهج بين رمـاد
السنين )) 1988 م ، وتظهر
فيهما البطلات بوصفهن مسلمات متعلمات من الطـراز الحديث ، ويُكَوِّنَّ علاقـاتٍ مع
رجـال متعلمين ، ولكن العلاقة لا تستمر بسبب رفض البطلات استمرارها دون تحقيق الهدف
وهو الزواج.
ونجد (منى) بطلة روايتها (( وهج بين رماد
السنين )) تقرر السفر
إلى الغرب للدراسة ، بينما حبيبها (أمين) يرفض الفكرة رغم أنه تلقى تعليمه في
الغرب ، وتتفوق (منى) في دراستها ، وتثبت للغربيين أن الفتاة السعودية جادة وقادرة
على التفوق في العلوم والحياة .
فالهوية تعني البحث والمعرفة وإثبات الذَّات أمام
الآخر ونقد الذات ، ويتمثل ذلك في مطالبة البطلة (منى) بتعامل المجتمع بمرونة مع
النظريات الإسلامية للتوافق مع متطلبات العصر الحديث ، والحدّ من التطرف
والتشدُّد.
وفي سنة 1992 م نشرت صفية عنبر روايتها (( جمَعَتْنا
الصُّدْفة وفرَّقَتْنا التقاليد )) ، وفيها دعوات مباشرة للمساواة في الحقوق
الاجتماعية بين الرجل والمرأة ، وفي الرواية تظهر البطلة وهي تقود سيارتها بنفسها
.
وتظهر بطلة روايتها الأخيرة (( أنت حبيبي لن
نفترق
معاً للأبد )) وهي تقود
السيارة بنفسها ، وإن كانت الأحداث
خارج السعودية إلا أنها تعبر بشكل واضح عن طموح المرأة السعودية للقيادة والمساواة
.
وفي أواخر التسعينيات ، وفي السنوات العشر من
الألفية الثالثة ظهر جيل من الروائيات السعوديات الجدد ، وقد أثَرْنَ بقوة أسئلة
الهوية ، وذلك بعد بروز تيار العولمة والانفتاح الكبير على العالم وثورة
المعلوماتية وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 م ، وأصبح هناك صراع واضح على هوية
المجتمع السعودي بين التيار الإسلامي المحافظ الذي يسعى إلى تأصيل هوية المجتمع
الإسلامية والحفاظ عليها باعتبارها مرجعية أساسية وتعزيز الهوية الإسلامية للمجتمع
السعودي ، وبين التيار الليبرالي الحداثي الذي يسعى إلى تقويض هذه المرجعية والسير
بالمجتمع السعودي في طريق الحضارة الغربية المعاصرة والإعلاء من قيمتها في
الديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم مؤسسات المجتمع المدني .
وكانت الرواية النسائية هي الميدان الأبرز الذي
تجلَّى فيه الدَّاعون إلى الخروج من قوقعة التيار المحافظ .
وتتميز هذه الروايات بكون أحداثها تدور داخل
المجتمع السعودي ، وظهرت كاتبات من مثل : زينب حفني ، وليلى الجهني ، وقماشة
العليان ، ورجاء الصانع ، وسمر المقرن ، وأميمة الخميس ، وبدرية البشر ، وصبا
الحرز ، وليلى الأحيدب ، ويجمع بينهن الجرأة في نقد المجتمع ، وكسر التابوهات
المحرمة في الجنس والدين والسياسة ، والدعوة إلى حرية المرأة ، ولذلك ترتبط الهوية
عندهن بالحرية للمرأة .
ففي رواية (( هند والعسكر )) لبدرية البشر
، تربط الكاتبة بين الهوية والحرية ، فـ(هند) التي تعرضت للاغتصاب من جارهم الأعزب
تتمرد على سلطة البيت التي تقيِّد حريتها ، وتلتقي بحبيبها في الملاهي ، وتجد حرية
نسبية في عملها في المستشفى حيث الاختلاط بالرجال مسموح به ، ولكن مطاردة أخيها
لها تدفعها إلى السفر إلى الغرب ؛ للهروب بهويتها المحاصَرة ، في فضاء أكثر
تسامحاً وحرية ، خاصة وأن الكاتبة تربط هروبها بظهور نشاط الإرهابيين في السعودية
الذين قاموا بتفجير مقر الأمن العام وقتل الغربيين ، وتبلغ قمة مأساتها حين تعرف ،
وهي في المطار تستعد للسفر ، بمقتل أخيها (إبراهيم) الذي كان عضواً في خليَّة
إرهابيَّة ، وتتساءل مع نفسها ، وهي تنظر إلى صورته الملطخة بالدِّماء : (( هل ظن أن هذا
العالم القاسي الخالي من الحب يستحق الانتقام والذَّبح ؟ هل قرر أن ينتمي إلى هذا
العالم ويصير مثله بلا قلب ؟ )).
وفي مشهد من أشدِّ المشاهد سوداوية في نقد المجتمع
القاسي تقول (هند) : (( وجع ينتقل في جسدي ولا أقدر على تحديد مكانه ،
بحثت عما يوجعني فما عرفت له سبباً شعور بالشفقة والأسى يوجعان قلبي ، للمرة
الأولى أشعر بالشفقة على (إبراهيم) ، أشعر بالأسى لفراقه ، أشعر بوحدته في الطريق
الذي اختار ، زادت رغبتي الكبيرة بالهرب من هذا الواقع الذي يشبه الكابوس ، شعرت
أن بداخلي أنا أيضاً امرأة تودُّ لو جنزرت نفسها بالقنابل وتخلصت مـن نفسها ، تريد
التخلص من هـذا الوزن الثقيل في محيط تكرهه وتود لو تضع له نهاية بالموت أو الرحيل
)).
وفي رواية (( نساء المنكر )) لسمر المقرن
نقد حاد للمؤسسة الدينية ، وخاصة للشرطة الدينية الممثلة بهيئة الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر ، وفي الرواية مشاهد متعددة لما ترى الكاتبة أنه تسلطٌ من قبل
رجال الهيئة ، فهي تقول على لسان بطلتها (غادة) التي وقعت تحت أيديهم : (( ما يحصل في
هذه الساعة هو جريمة كبرى ، ليست بحقي فحسب بل هي جريمة بحق الإنسانية ، وبحق وطني
، وبحق الدين الإسلامي الذي يتصرفون باسمه ، ويريدون توظيفه في إهانة البشر وسحق
كرامتهم )).
وتطرح ليلى الجهني في روايتها (( جاهلية )) مشكلة
الطبقية في المجتمع وأزمة الهوية عند القادمين ، وخاصة السود ، من أصول أفريقية ،
فالفتاة (لين) تحب (مالكاً) وهو شاب أسود من أصول أفريقية ، وهو يحبها ويرغب
الزواج منها ، وهنا تصطدم هذه الرغبة مع النظرة الاجتماعية السائدة والأعراف التي
لا تقبل التغيير بين صاحب الهوية الأصيلة وصاحب الهوية الطارئة .
وتسرد لنا الروايـة معاناة (مالك) مع المجتمع الذي
(( لم يجد ولو
غصناً واحداً يتشبث به كي لا يهـوي في يمِّ العنصرية القذرة التي تسبح فيها الحيوات
من حوله : بدوي ، حضري ، حجازي ، نجدي ، قبيلي ، خضيري ، صانع ، تاجر ، 110 ، 220
، عبد ، كور ، كويحة ، طرش بحر ، بقايا حجاج )).
وهنا تطرح الرواية هذه المشكلة التي تعاني
المجتمعات المعاصرة مشكلة الهوية والمهاجرين التي تمثل معضلة كبرى للساسة ولعلماء
الاجتماع ، ويعود (مالك) إلى تذكر والده حينما جاء إلى السعودية قبل أكثر من خمسين
عاماً مهاجراً من بلده ، ولم يكن حريصاً على الحصول على الهوية الوطنية للبلد
معتقداً أن (( هذه أرض الله
منذ خلق آدم فمن ذا الذي سيرد خلق الله عن أرض الله ؟ هل كان أبوه يفكر بهذا
المنطق ؟ لا يدري . ويود أحياناً لو أنه لا يدري إلى الأبد ، كل ما يدريه ويجربه
مرات ومرات أن الأمر عندما يتعلق بإثبات الهوية فإن الناس لا تفكر في الله وخلق
الله وأرض الله ، بل في الورق الرسمي : البطاقة الصغيرة الممغنطة ، ودفتر العائلة
المستطيل السمج ، وجواز السفر بغلافه الأخضر الذي يبرق فوقه ذهب سيفين يجتثان نخلة
. وفي كل مرة كان السؤال فيها يدور عن الهوية ، لم يكن في جيب ثوبه أيٌّ من تلك
الأوراق )).
ويظهر مقدار الألــــم عند (مالك) حين يقول له
شرطي المرور مشيراً إلى لباسه الزي السعودي ، وهو غير سعودي :
(( ما شاء الله
متشخص كمان كأنك واحد من عيال البلد ، هات الإقامة أشوف )).
وأصبحت تثار في الرواية النسائية السعودية أسئلة
الاختلاف المذهبي في المجتمع السعودي ، وقد كانت هناك إشارات سريعة إليها في رواية
(( بنات الرياض )) لرجاء
الصَّانع ، و (( عيون
الثَّعالب )) لليلى
الأحيدب ، ولكنها أثيرت بقوة في رواية (( الآخرون )) لصبا الحرز ،
وفيها تتحدث الكاتبة عن واقع الأقلية الشيعية في السعودية بشكل واضح ، وعن شعورهم بالاضطهاد
، إذ تقول الساردة : (( مـاذا يعني أن يحتكر وطنك ضـدك ، ويؤلب جيرانك
عليك ، وتعيش مساحة أدنى من أرضك ، وتجادل في حقوقك ، وأن يُمَنَّ عليك
بكدح يدك ؟ )) ، وهي بهذا
تحول الوطن إلى (الهناك ، الآخر ، المختلف ، المستبدّ) ، وتتحدث بلغة خطابية مباشرة
تجعلنا نوقن أن الرواية ما هي إلا بيان سياسي ، وهي تقرر أنه لا يوجد (( تعايش حقيقي
، ولا اندماج يعول عليه ، ولا حتى تقبُّل مبدئي وبدائي من واحدنا للآخر لطبيعة
الاختلاف ولمعطياتنا المغايرة )).
وظهر في الرواية النسائية السعودية اهتمام بالآخر (الغربي
على وجه التحديد) ، وخاصة بعد حرب الخليج الثانية ،
وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 م ، والاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 م .
ويظهر ذلك في (( وجه البوصلة )) لنورة
الغامدي ،
و (( عيون على
السماء )) لقماشة
العليان ، و (( الانتحار
المأجور )) لألآء الهذلول
، و (( هند والعسكر )) لبدرية البشر
، و (( ستر )) لرجاء عالم ،
و (( النهر الثالث
)) لنسرين
غندورة .
ويعتمد الخطاب الموجَّه إلى الغرب على التبرير
والدفاع عن النفس ، وتقديم الصورة الإيجابية للذات ، وسنتوقف أمام رجاء عالم التي أكَّدت
في روايتها (( ستر )) على أهمية
الاعتزاز بالذات ، وعدم التمويه على الذات بتمييع الاختلاف وتمييع وتذويب الهوية
في محاولة استرضاء الآخر الغربي .
وهنا تحضر لنا شخصية (زايد) الذي أقدم على
الانتحار بعدما علم بخيانة زوجته الأمريكية (ريبيكا) له ، وفي هذا تحاول الكاتبة
بالرمز إلى أي حدٍّ يمكن أن يصل بنا تسامحنا مع الآخرين.