الثلاثاء 1 اكتوبر 2024

الرواية النسائية السعودية أسئلة الهوية والموقف من الآخر

فن20-10-2020 | 12:08

يُعرِّف أليكس الهوية بأنها : (( عناصر التركيب في علاقاتها الداخلية التي تعطي للكائن خصائصه الأساسية والتي تصله بالوسط الخارجي طبيعياً كان أو غير طبيعي ))، ويشير إلى أنها ليست (( كياناً ثابتاً ومطلقاً ، وإنما هو متغير )) ، ولذلك فإن البحث عن معالم هوية المجتمعات أصبح يشغل بال المفكرين والأدباء في العصر الحديث .

وفي العالم العربي صارت تثار بقوة أسئلة الهوية ، وخاصة بعد الانفتاح على الحضارة الغربية المعاصرة ، وبعد رحيل المستعمرين في الخمسينات والستينات من القرن العشرين ، حيث أصبح خطاب الفكر العربي الحديث يدور حول تأصيل الذات ، والعودة إليها ،والبحث عن هويتها ومقاربتها، بل إن سؤال الهوية أصبح هو السؤال الرئيسي في الثقافة والإبداع في العالم العربي .

وفي عام 1932 م تم إعلان تأسيس المملكة العربية السعودية كياناً موحَّداً بعد معارك كثيرة خاضها الملك عبد العزيز
آل سعود ، وكانت الهوية العربية الإسلامية هي الأساس الذي قام عليه هذا الكيان مدعوماً بتطبيق صارم لقوانين الشريعة الإسلامية ، وقد اندمجت فيها الهويات القبلية والمذهبية والمناطقية التي يتكون منها المجتمع السعودي .

وقد كانت هذه الهوية الإسلامية هي القاعدة التي لجأت إليها الدولة السعودية في مواجهة التيار القومي العربي الذي عمَّ أرجاء الوطن العربي في الخمسينات والستينات من القرن العشرين .

وقد شهد عام 1958 م ظهور أول رواية نسائية سعودية ، وهي روايـة (( ودَّعت آمالي )) لسميرة محمد خاشقجي، وكانت تكتب رواياتها باسم سميرة بنت الجزيرة العربية ، ومع أن الكاتبة كانت تعيش خارج المملكة إلا أن رواياتها كانت تدعو إلى تغيير واقـع المرأة السعوديـة ، ونجد هـذا واضحاً في روايتها (( قطرات من الدموع )) ،
فـ(ذكرى) بطلة روايتها فتاة صمَّاء لا أصل ولا نسب لها يُعْتدُّ به ، ولكنها تحدَّت واقعها وظروفها الاجتماعية بالعمل والكتابة ، واستطاعت أن تتغلب على التقاليد الاجتماعية الحازمة التي دعت الأب إلى رفض زواج ابنه الدكتور (عاصم) من فتاة صمَّاء لا أصل لها ولا فصل ، ونجحت في حثِّ حبيبها على التمرد على السلطة الأبوية ، وقد كانت الكاتبة تستشرف رياح التغيير للواقع الاجتماعي السعودي ، واستطاعت الكاتبة أن توجّه رسالة قوية للمجتمع السعودي بحيث أن فتاة صمَّاء استطاعت ، وهي الخرساء ، أن يكون لها صوت قويٌّ في حركة التغيير الاجتماعي في الوقت الذي تبقى آلاف النساء الناطقات في دائرة الصَّمت .

وتُظهر لنا هدى الرشيد في روايتها (( غداً سيكون الخميس )) الصادرة سنة 1976 م موقفَ المرأة السعودية من المجتمع المحافظ ، وذلك في مرحلة الوعي وانتشار التعليم والإعلام والسفر ، ويظهر لنا ذلك واضحاً من خلال استعراض الشخصيات النسائية في روايتها ؛ فـ(نبيلة) تقرر السفر إلى الخارج ، وتفضِّل ذلك على العيش في مجتمع مغلق لا تستطيع التأقلم معه ، و (حصة) هي الأخرى تسافر إلى الخارج بعد رفض والدها تزويجها من الرجل الذي أحبَّتْه ، وهو احتجاج واضح على مصادرة حريتها في اختيار شريك حياتها .

وفي صرخة قوية ضد اضطهاد المرأة من قبل الرجل تقول إحدى بطلات الرواية وهي الطالبة في الجامعة الأمريكية في بيروت : (( واحد أجنبي يساوي ألفاً من أبناء بلدي ... إنهم يروننا كالحشرات )).

أما (لمياء) فتستسلم للزواج التقليدي وترضخ لقواعد المجتمع المحافظ ، وأما (سميرة) فتهرب إلى التدخين والانحراف ، وتبقى (نوال) بطلة الرواية والصوت المتميز فيها التي تتمتع بالجمال والعلم والإدراك ، وتتبنى الدفاع عن قضايا حقوق المرأة في مجتمع يسيطر فيه الذَّكَرُ سيطرة شبه مطلقة ، حيث ترتبط بعلاقة حُبٍّ مع (أحمد) العائد من الخارج حاملاً شهادة الدكتوراه والأستاذ الجامعي المرموق ، ولكنها تصطدم منه في اللقاء الأول لهما حين عبَّر لها بعدما شاهد جمالها ووعيها بأنه فوجئ من إمكانية اجتماع الجمال والوعي في امرأة من بيئته ، وحدثت الصدمة الثانية لها حين تخلَّى عن اتفاقه معها على الزواج ورضخ لضغوط المجتمع المحافظ ممثلاً في والدته وشقيقته .

وتهرب (نوال) إلى الكتابة والشعر والإعلام (الإذاعة) ، ويتحول البحث عن الهوية إلى معركة مع المجتمع كله ، سلاحها الكلمة المقروءة والمسموعة ، معركة مع المجتمع الذي يظلم المرأة وينظر إليها بدونية .

وفي سـنة 1986 م ظهرت رواية صفـية عنبر (( عفواً يـا آدم )) ، وروايـة (( وهج بين رمـاد السنين )) 1988 م ، وتظهر فيهما البطلات بوصفهن مسلمات متعلمات من الطـراز الحديث ، ويُكَوِّنَّ علاقـاتٍ مع رجـال متعلمين ، ولكن العلاقة لا تستمر بسبب رفض البطلات استمرارها دون تحقيق الهدف وهو الزواج.

ونجد (منى) بطلة روايتها (( وهج بين رماد السنين )) تقرر السفر إلى الغرب للدراسة ، بينما حبيبها (أمين) يرفض الفكرة رغم أنه تلقى تعليمه في الغرب ، وتتفوق (منى) في دراستها ، وتثبت للغربيين أن الفتاة السعودية جادة وقادرة على التفوق في العلوم والحياة .

فالهوية تعني البحث والمعرفة وإثبات الذَّات أمام الآخر ونقد الذات ، ويتمثل ذلك في مطالبة البطلة (منى) بتعامل المجتمع بمرونة مع النظريات الإسلامية للتوافق مع متطلبات العصر الحديث ، والحدّ من التطرف والتشدُّد.

وفي سنة 1992 م نشرت صفية عنبر روايتها (( جمَعَتْنا الصُّدْفة وفرَّقَتْنا التقاليد )) ، وفيها دعوات مباشرة للمساواة في الحقوق الاجتماعية بين الرجل والمرأة ، وفي الرواية تظهر البطلة وهي تقود سيارتها بنفسها .

وتظهر بطلة روايتها الأخيرة (( أنت حبيبي لن نفترق
معاً للأبد
)) وهي تقود السيارة بنفسها ، وإن كانت الأحداث
خارج السعودية إلا أنها تعبر بشكل واضح عن طموح المرأة السعودية للقيادة والمساواة .

وفي أواخر التسعينيات ، وفي السنوات العشر من الألفية الثالثة ظهر جيل من الروائيات السعوديات الجدد ، وقد أثَرْنَ بقوة أسئلة الهوية ، وذلك بعد بروز تيار العولمة والانفتاح الكبير على العالم وثورة المعلوماتية وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 م ، وأصبح هناك صراع واضح على هوية المجتمع السعودي بين التيار الإسلامي المحافظ الذي يسعى إلى تأصيل هوية المجتمع الإسلامية والحفاظ عليها باعتبارها مرجعية أساسية وتعزيز الهوية الإسلامية للمجتمع السعودي ، وبين التيار الليبرالي الحداثي الذي يسعى إلى تقويض هذه المرجعية والسير بالمجتمع السعودي في طريق الحضارة الغربية المعاصرة والإعلاء من قيمتها في الديمقراطية وحقوق الإنسان ودعم مؤسسات المجتمع المدني .

وكانت الرواية النسائية هي الميدان الأبرز الذي تجلَّى فيه الدَّاعون إلى الخروج من قوقعة التيار المحافظ .

وتتميز هذه الروايات بكون أحداثها تدور داخل المجتمع السعودي ، وظهرت كاتبات من مثل : زينب حفني ، وليلى الجهني ، وقماشة العليان ، ورجاء الصانع ، وسمر المقرن ، وأميمة الخميس ، وبدرية البشر ، وصبا الحرز ، وليلى الأحيدب ، ويجمع بينهن الجرأة في نقد المجتمع ، وكسر التابوهات المحرمة في الجنس والدين والسياسة ، والدعوة إلى حرية المرأة ، ولذلك ترتبط الهوية عندهن بالحرية للمرأة .

ففي رواية (( هند والعسكر )) لبدرية البشر ، تربط الكاتبة بين الهوية والحرية ، فـ(هند) التي تعرضت للاغتصاب من جارهم الأعزب تتمرد على سلطة البيت التي تقيِّد حريتها ، وتلتقي بحبيبها في الملاهي ، وتجد حرية نسبية في عملها في المستشفى حيث الاختلاط بالرجال مسموح به ، ولكن مطاردة أخيها لها تدفعها إلى السفر إلى الغرب ؛ للهروب بهويتها المحاصَرة ، في فضاء أكثر تسامحاً وحرية ، خاصة وأن الكاتبة تربط هروبها بظهور نشاط الإرهابيين في السعودية الذين قاموا بتفجير مقر الأمن العام وقتل الغربيين ، وتبلغ قمة مأساتها حين تعرف ، وهي في المطار تستعد للسفر ، بمقتل أخيها (إبراهيم) الذي كان عضواً في خليَّة إرهابيَّة ، وتتساءل مع نفسها ، وهي تنظر إلى صورته الملطخة بالدِّماء : (( هل ظن أن هذا العالم القاسي الخالي من الحب يستحق الانتقام والذَّبح ؟ هل قرر أن ينتمي إلى هذا العالم ويصير مثله بلا قلب ؟ )).

وفي مشهد من أشدِّ المشاهد سوداوية في نقد المجتمع القاسي تقول (هند) : (( وجع ينتقل في جسدي ولا أقدر على تحديد مكانه ، بحثت عما يوجعني فما عرفت له سبباً شعور بالشفقة والأسى يوجعان قلبي ، للمرة الأولى أشعر بالشفقة على (إبراهيم) ، أشعر بالأسى لفراقه ، أشعر بوحدته في الطريق الذي اختار ، زادت رغبتي الكبيرة بالهرب من هذا الواقع الذي يشبه الكابوس ، شعرت أن بداخلي أنا أيضاً امرأة تودُّ لو جنزرت نفسها بالقنابل وتخلصت مـن نفسها ، تريد التخلص من هـذا الوزن الثقيل في محيط تكرهه وتود لو تضع له نهاية بالموت أو الرحيل )).

وفي رواية (( نساء المنكر )) لسمر المقرن نقد حاد للمؤسسة الدينية ، وخاصة للشرطة الدينية الممثلة بهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفي الرواية مشاهد متعددة لما ترى الكاتبة أنه تسلطٌ من قبل رجال الهيئة ، فهي تقول على لسان بطلتها (غادة) التي وقعت تحت أيديهم : (( ما يحصل في هذه الساعة هو جريمة كبرى ، ليست بحقي فحسب بل هي جريمة بحق الإنسانية ، وبحق وطني ، وبحق الدين الإسلامي الذي يتصرفون باسمه ، ويريدون توظيفه في إهانة البشر وسحق كرامتهم )).

وتطرح ليلى الجهني في روايتها (( جاهلية )) مشكلة الطبقية في المجتمع وأزمة الهوية عند القادمين ، وخاصة السود ، من أصول أفريقية ، فالفتاة (لين) تحب (مالكاً) وهو شاب أسود من أصول أفريقية ، وهو يحبها ويرغب الزواج منها ، وهنا تصطدم هذه الرغبة مع النظرة الاجتماعية السائدة والأعراف التي لا تقبل التغيير بين صاحب الهوية الأصيلة وصاحب الهوية الطارئة .

وتسرد لنا الروايـة معاناة (مالك) مع المجتمع الذي (( لم يجد ولو غصناً واحداً يتشبث به كي لا يهـوي في يمِّ العنصرية القذرة التي تسبح فيها الحيوات من حوله : بدوي ، حضري ، حجازي ، نجدي ، قبيلي ، خضيري ، صانع ، تاجر ، 110 ، 220 ، عبد ، كور ، كويحة ، طرش بحر ، بقايا حجاج )).

وهنا تطرح الرواية هذه المشكلة التي تعاني المجتمعات المعاصرة مشكلة الهوية والمهاجرين التي تمثل معضلة كبرى للساسة ولعلماء الاجتماع ، ويعود (مالك) إلى تذكر والده حينما جاء إلى السعودية قبل أكثر من خمسين عاماً مهاجراً من بلده ، ولم يكن حريصاً على الحصول على الهوية الوطنية للبلد معتقداً أن (( هذه أرض الله منذ خلق آدم فمن ذا الذي سيرد خلق الله عن أرض الله ؟ هل كان أبوه يفكر بهذا المنطق ؟ لا يدري . ويود أحياناً لو أنه لا يدري إلى الأبد ، كل ما يدريه ويجربه مرات ومرات أن الأمر عندما يتعلق بإثبات الهوية فإن الناس لا تفكر في الله وخلق الله وأرض الله ، بل في الورق الرسمي : البطاقة الصغيرة الممغنطة ، ودفتر العائلة المستطيل السمج ، وجواز السفر بغلافه الأخضر الذي يبرق فوقه ذهب سيفين يجتثان نخلة . وفي كل مرة كان السؤال فيها يدور عن الهوية ، لم يكن في جيب ثوبه أيٌّ من تلك الأوراق )).

ويظهر مقدار الألــــم عند (مالك) حين يقول له شرطي المرور مشيراً إلى لباسه الزي السعودي ، وهو غير سعودي :
(( ما شاء الله متشخص كمان كأنك واحد من عيال البلد ، هات الإقامة أشوف )).

وأصبحت تثار في الرواية النسائية السعودية أسئلة الاختلاف المذهبي في المجتمع السعودي ، وقد كانت هناك إشارات سريعة إليها في رواية (( بنات الرياض )) لرجاء الصَّانع ، و (( عيون الثَّعالب )) لليلى الأحيدب ، ولكنها أثيرت بقوة في رواية (( الآخرون )) لصبا الحرز ، وفيها تتحدث الكاتبة عن واقع الأقلية الشيعية في السعودية بشكل واضح ، وعن شعورهم بالاضطهاد ، إذ تقول الساردة : (( مـاذا يعني أن يحتكر وطنك ضـدك ، ويؤلب جيرانك عليك ، وتعيش مساحة أدنى من أرضك ، وتجادل في حقوقك ، وأن يُمَنَّ عليك
بكدح يدك ؟
)) ، وهي بهذا تحول الوطن إلى (الهناك ، الآخر ، المختلف ، المستبدّ) ، وتتحدث بلغة خطابية مباشرة تجعلنا نوقن أن الرواية ما هي إلا بيان سياسي ، وهي تقرر أنه لا يوجد (( تعايش حقيقي ، ولا اندماج يعول عليه ، ولا حتى تقبُّل مبدئي وبدائي من واحدنا للآخر لطبيعة الاختلاف ولمعطياتنا المغايرة )).

وظهر في الرواية النسائية السعودية اهتمام بالآخر (الغربي على وجه التحديد) ، وخاصة بعد حرب الخليج الثانية ،
وأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 م ، والاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003 م .

ويظهر ذلك في (( وجه البوصلة )) لنورة الغامدي ،
و
(( عيون على السماء )) لقماشة العليان ، و (( الانتحار المأجور )) لألآء الهذلول ، و (( هند والعسكر )) لبدرية البشر ، و (( ستر )) لرجاء عالم ،
و
(( النهر الثالث )) لنسرين غندورة .

ويعتمد الخطاب الموجَّه إلى الغرب على التبرير والدفاع عن النفس ، وتقديم الصورة الإيجابية للذات ، وسنتوقف أمام رجاء عالم التي أكَّدت في روايتها (( ستر )) على أهمية الاعتزاز بالذات ، وعدم التمويه على الذات بتمييع الاختلاف وتمييع وتذويب الهوية في محاولة استرضاء الآخر الغربي .

وهنا تحضر لنا شخصية (زايد) الذي أقدم على الانتحار بعدما علم بخيانة زوجته الأمريكية (ريبيكا) له ، وفي هذا تحاول الكاتبة بالرمز إلى أي حدٍّ يمكن أن يصل بنا تسامحنا مع الآخرين.