الجمعة 17 مايو 2024

وباء كورونا المستجد وواجب الفقيه

فن20-10-2020 | 20:43

إنَّ من أهمِّ مميزات الفقه الإسلامي التي ينفرد بها بين العديد من الوضعيات الفقهية أنَّ قواعده العامة ومنطلقاته الأصولية تتمتع بالمرونة التي تمنح الفقيه القدرة على التعامل مع المستجدات الزمانية، ومتطلبات المراحل المختلفة، وما يلبي حاجات شتى البيئات على كوكبنا الأرضي؛ لذا وجدنا نوعًا من أنواع الفقه يُسمى فقه النوازل، وهو: نشاط ذهني يبذله الفقيه في نصوصٍ شرعية في إطار قواعد كلية وضوابط أُصولية؛ لاستنباط حكمٍ شرعي جديد في مسألةٍ أو حادثة نزلت ببيئةٍ معينةٍ أو بالبشرية عامة، ولم يسبق لها أن حدثت بذاتها في الدنيا، وأوضح نموذجٍ لذلك هو وباء الكورونا المستجد (كوفيد19).


ومما ينبغي أن ننبِّه القارئ إليه في هذا المقام أنَّ الفقيه هو ذلك الذي يُزاوج بين الواجب والواقع، فليس فقهيًا ذلك المتشدد المتزمت الذي يُحجِّر ما وسع الله في شريعته، كما ليس فقهيًا ذلك المتسبب المتهاون، وليس فقهيًا ذلك الذي يتصدر للإفتاء للناس، ولم ينل من العلم إلا مقدار ما يتناوله الكف إذا صافح سطح الماء، ومزاوجةً بين الواجب والواقع في شأن ذلك الوباء أن نقول:


إذا كان الشرع الشريف يكره حضور صلاة الجمعة للجزار الملوث الثياب بالدم من خلال قياسه على آكل الثوم والبصل بجامعٍ أنَّ كلًّا منهما يُنفِّر الناس من الصلاة والمجيء إلى المسجد، فلئن يعلق العلماء صلاة الجمع والجماعات خوفًا من تفشي العدوى بالكورونا فهذا من باب الأولى.


فالنظرة الفقهية الواعية في ظرف الشاهد تؤيِّد هذا المنع لسببين:


أولهما: أنَّ الأحكام الفقهية التشريعية مبنية على الظن الغالب، والظن - بل العلم- من أهل الاختصاص- الأطباء- أنَّ الجماعات والتجمعات تزيد من تفشي الوباء، وتعرض حياة الناس للهلاك، ولا ريب أنَّ هذا أمرٌ يمنعه الشرع الشريف.


ثانيهما: أنَّ طاعة ولي الأمر تجب ما دام لم يأمر بما يُخالف الشرع الحنيف، فما بالك إذا كان يأمر بما يأمر به الشرع مما فيه مصلحة الناس وبما يدرأ عنهم الفساد والإفساد. 


هناك ضوابط يجب على الفقيه مراعاتها بين يدي النازلة أو الحادثة المستجدة قبل أن يتكلم، ويدلي بدلوه فيها، من هذه الضوابط:


1 - أن يكون قلب الفقيه متبتلًا في محراب الرضوان الإلهي حتى يكون عمله عبادةً لله.


2 - أن تكون وجهته مصلحة الجمهور من الناس حتى ولو غضب بعض الناس، وهذا ما رأيناه واضحًا في فتاوى فقهاء الأمة في تعليق الجماعات في المساجد والجمع، وتعليق الحج والعمرة وزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وتعليق الدراسة في شتى المؤسسات التعليمية، فقد كانت وجهتهم مصلحة الجمهور العام استنادًا إلى الأحكام الشرعية في فقه النوازل دون نظرٍ أو اعتبارٍ إلى من لا بصر لهم في العلم ولا بصيرة من الغوغاء والدهماء الذين اعترضوا - بل علم- على العلماء، وقالوا: إنَّ ذلك تعطيل للشرائع وإهدار للأعمال وتفريط في حق العلم.


3 - أن يفهم الفقيه النازلة ويتحقق من واقعها، وما يترتب عليها من مخاطر بالغة وأضرار محققة في النفس والمال، وممَّا يدل على مراعاة هذا الذي نقول ما كتبه عمر بن الخطاب  لأبي موسى الأشعري- رضي الله عنهما- حيث كتب له كتابًا في القضاء جاء فيه:" أمَّا بعد؛ فإنَّ القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أُدلي إليك، ثم الفهم الفهم فيما أُدلي إليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة، ثم قايس الأمور عند ذلك، واعرض الأمثال، ثم اعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله بالحقِّ". 


4 - أن يستشير الفقيه أهل الخبرة وأهل الاختصاص في النازلة أو الحادثة التي لم يحط بواقعها، وهذا الأمر مؤسسٌ على قول الله تعالى: ﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، خاصةً وأنَّ عصرنا الحالي مليء بالمستجدات في أغلب المجالات، بل هناك مستجدات داخل التخصص الواحد، كل ذلك يحتاج من الفقيه الفهم الدقيق للنازلة عن طريق أهل الخبرة والاختصاص للإلمام بما يتطلبه النظر الصحيح في تلك الحادثة أو النازلة.


هذا الذي بيَّنته أصلٌ من الأصول الذي ينبني عليه حكم الحادثة المستجدة، ولا ريب أنَّ وزارة الأوقاف في قراراتها بتعليق صلاة الجمعة والجماعات في المساجد، وتعليق الحج والعمرة قد استشارت أهل الاختصاص في عالم الطب والفيروسات، وعلمت أنَّ هناك ضررًا متوقعًا سوف يحدث من تجمع الناس في المساجد. 


هذه أربع ضوابط توجبها المطالبة لكلِّ فقيهٍ أن يقف عندها متأملًا قبل أن يتكلم في شأن الحادثة.


وهناك مرتكزات ومنطلقات ينطلق الفقيه من خلالها في مواجهة النازلة، وهي: 


1 - اليقين أولًا بأنَّ الثوابت القطعية هي المعيار في الحكم على الوقائع المستجدة، فلا يجوز- بحالٍ من الأحوال- أن يحاول أي أحدٍ - مهما كانت درجته العلمية- أن يجتهد أو يتأوَّل أو يتصرف في تلك النصوص القطعية الثبوت القطعية الدلالة، فأركان الإسلام من صلاة وصيام وما إليها لا يجوز إطلاقًا أن يتأوَّل في نصوصها متأول أو يجتهد في فهمها مجتهد، وهكذا لكن ننبه إلى أنَّ هناك فرقًا بين فرضية الصلاة في حق الإنسان المكلف وبين تعليقها عنه في المسجد لضرر بالغ يلحق به؛ لأنَّ هذا التعليق نفسه نابع من أدلةٍ قاطعةٍ مأخوذةٍ من مجموع نصوص الوحي، ولا أدلَّ على ذلك من أنَّ مساجد الأوقاف في آذانها للصلوات تنبِّه الناس إلى أنَّ الصلاة في رحالكم.


2 - أن يضع نصب عينيه تلك القاعدة الفقهية ((درء المفاسد مقدمٌ على جلب المصالح))، وبيانًا لذلك نقول: مما هو معلومٌ أنَّ الشرائع تنزلت - كما ذكرنا سابقًا- لتحقيق مصالح العباد دنيوية وأُخروية، أو لدرء لمفاسد عنهم دنيوية وأُخروية كذلك، هذا فضلًا عن أنَّ الشريعة الإسلامية تأمر - عندما تقتضي الحال- بارتكاب بعض المفاسد لتحقيق مصالح العباد، فالجود بالأرواح لتزهق في سبيل الله فيه مفاسد قتل النفس إلا أنَّ الشريعة حضَّت على ارتكاب هذه المفاسد لحماية الآلاف المؤلفة من المستضعفين، والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم ضد عدوان المعتدين، ومن هنا نقول: درء مفسدة المخاطرة بالأنفس في مناخ انتشار وتفشي وباء كورونا مقدمٌ على تحصيل ثواب الجمع والجماعات في المسجد.


3 - أن يراعي الفقيه في فقه النوازل: قاعدة التيسير ورفع الحرج التي جاءت بها النصوص الصريحة، كقوله تعالى: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، وقوله تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6]، وقوله- صلى الله عليه وسلم-: «يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا»، ولله درُّ سيدنا سفيان الثوري؛ إذ قال: " الفقه الحقيقي الرخصة من ثقة، أمَّا التشدد فيحسنه كلُّ أحدٍ".


4 - مراعاة تغير الأحوال والظروف، فهذا أمرٌ تقتضيه مرونة الشريعة، ولا ريبٍ أنَّ الاجتهاد الذي سوف يبذله الفقيه في استنباط حكم الحادثة المستجدة سيكون باستعمال القياس على الأحكام المنصوص عليها في الكتاب والسنة سواءٌ أكان القياس على النص مباشرةً أو بطريق الملاءمة وهي الدخول تحت جنسٍ اعتبره الشارع في الجملة بغير دليلٍ معينٍ، أو ما يسمى باسم المصالح المرسلة. 


5 - أن يأخذ الفقيه في اعتباره الأعراف والأحوال، فإنَّ إِجراءَ الأحكام التي مُدْرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد: خلافُ الإِجماع وجهالةٌ في الدّين- كما يقول الإمام القرافي- بل كلُّ ما هو في الشريعةِ يَتْبَعُ العوائدَ: يَتغيَّرُ الحكمُ فيه عند تغيُّرِ العادةِ إِلى ما تقتضيه العادَةُ المتجدِّدةُ"،  على أنَّ يشترط في هذا العرف: قدمه، سداده، التزام الناس به، عدم معارضته للنص.


ورحم الله الإمام أبا محمد بن زيد القيرواني المالكي المتوفى سنة (386 هـ) حيث اتخذ كلبًا للحراسة، فقيل له: إنَّ مالكًا يكره ذلك. قال: لو أدرك مالك زمانك لاتخذ أسدًا ضاريًا.