الثلاثاء 2 يوليو 2024

أوراق الجنوبي الأخيرة تجليات الذات في ديوان أوراق الغرفة (8)

فن20-10-2020 | 20:56

ينتمي أمل دنقل (1940- 1983) إلى شعراء جيل الستينيات، وهم الذين أطلق عليهم لويس عوض "شعراء الرفض"، لأنهم - من وجهة نظره - كانوا رافضين ومرفوضين معًا، ومن بينهم تميز خطاب الشاعر أمل دنقل بكونه الأكثر رفضا للسلطوية وعداء لكل أشكال الهيمنة والدكتاتورية، ووظف للتعبير عن ذلك - كسائر شعراء جيله - التراث بكل أنواعه على نطاق واسع، فكانت الشخصيات التراثية المستدعاة لديه وسيلة للمقارنة بين الماضي وعظمته، والحاضر بتناقضاته وسلبياته، ومن طرائقه الأسلوبية كذلك، اعتماده على سهولة مفردات المعجم الشعري، واستخدام مفردات من الحياة اليومية، والتخفف من عناصر البلاغة التقليدية، وشكلت كل من السخرية والمفارقة سمتين أساسيتين في الخطاب الشعري لديه تم توظيفهما لتوضيح التناقضات الموجودة في الواقع؛ فكانت السخرية دائمًا سلاح الشعراء في التمرد والرفض، ولم يقف التمرد عنده على لغة القصيدة وشكلها، بل تخطى ذلك ليتمرد على محددات النوع الأدبي، فنجده يحرص على تشكيل قصيدته عبر استثمار بعض الأدوات الفنية من فنون أدبية أخرى، كالمسرحية والقصة، وفنون بصرية، كالسينما والتصوير.


وبالطرائق الأسلوبية والتشكيلية نفسها عبر  دنقل في أشعاره عن آلامه وهمومه الذاتية، كشعوره بالاغتراب بعد انتقاله من القرية إلى المدينة بحثًا عن العمل والنابع من عدم تكيفه مع الواقع الجديد كما في مجموعته الشعرية  "مقتل القمر" (1974)، وكذلك عن المشاعر التي ألمّت به فترة مرضه، كما في مجموعته الشعرية  "أوراق الغرفة 8" (1984) التي جُمعت ونُشرت بعد وفاته، لينحى نحو الكتابة الذاتية التي مكنته من وضع الذات مركزًا للأحداث من ناحية، ورصدًا لتاريخ المجتمع والواقع الثقافي كما انعكس عليها من ناحية أخرى.


و"أوراق الغرفة 8" كما جاء في الخطاب الختامي للديوان والذي نهض به الناقد جابر عصفور ليعلق على عنوان المجموعة الشعرية ويخبر القارئ بمعلومات حول أصول العمل وظروف تحريره ومراحل تكوينه، يضم القصائد الأخيرة التي كتبها دنقل طول فترة مرضه التي استمرت أربع سنوات، فهو أوراق أمل الأخيرة، و"الغرفة رقم 8" الفضاء المكاني الذي شهد تلك الفترة وهي آخر الغرف التي قاوم فيها أمل مرضه في معهد الأورام، ومن ثم صارت بطلا مكانيًا، سواء في سيرة أمل أو في شعره.


والموضوع المسيطر على الديوان "الموت" الذي أعلن دنقل نفسه عن عدم خوفه منه في حديثٍ له بقوله "الموت بمعنى مفارقة الروح للجسد هذا شيء لا يخيفني.. بل لا أفكر فيه.. والعجز أكثر رهبة من الموت.. أن يكون الإنسان حيًا ولا يستطيع أن يفعل ما يريد". لذلك نجده يؤنسنه ويضعه في مجابهة حوارية ويراقب أوقات تحركاته ومفارقات اختياراته؛ ويجب الإشارة إلى عدد من القصائد التي لم تناقش موضوع الموت، بل تطرقت إلى قضايا أخرى سياسية واجتماعية مثل قصائد "الخيول"، و"مقابلة خاصة مع ابن نوح" و"قالت امرأة في المدينة"، وغيرها من قصائد جمع بينها زمن الكتابة.


واتخذت كتابة الذات في الديوان صيغًا قرائية مختلفة، مثلما اتخذت أنماطًا كتابية خاصة، واشتغلت الذات الشاعرة على تلك الأنماط التي ساعدتها على البوح - بشكل صريح أحيانا وبشكل ضمني أحايين أخرى -  بما يشغلها من أفكار عامة ورؤى خاصة، مع اعتماد كل نمط من تلك الأنماط على علامات دالة تحدد صيغة قراءة العمل وتوجه مسارات تلقيه.


ففي قصيدة "الورقة الأخيرة: الجنوبي" - أول قصائد المجموعة من حيث الترتيب وآخرها من حيث التدوين - يعمد دنقل إلى تقنية الصورة التي تسمح للذات بالانقسام على نفسها، بحيث تخضع واحدة منها لمبدأ الواقع والأخرى لمبدأ الرغبة، وتخلق مسافة بين الذات المشاهِدة أو الناظرة، والذات المشاهَدة أو المنظور إليها:


(أو كان الصبي الصغير أنا؟/ أم ترى كان غيري؟/ أحدق/ لكن تلك الملامح ذات العذوبة/ لا تنتمي الآن لي/ والعيون التي تترقرق بالطيبة/ الآن لا تنتمي لي/ صرتُ عني غريبًا/ ولم يتبق من السنوات الغريبة/ إلا صدى اسمي/ وأسماء من أتذكرهم - فجأة -/ بين أعمدة النعي/ أولئك الغامضون : رفاق صباي/ يقبلون من الصمت وجها فوجها فيجتمع الشمل كل صباح/ لكي نأتنس).


وفي المقطع الأخير من القصيدة نفسها يوظف دنقل تقنية المرآة، التي تنهض بالوظيفة ذاتها لتؤكد انشغال الذات الشاعرة بفكرة الانقسام الذاتي التي اتضحت في توظيفها تقنية المرآة، تلك التقنية أوجدت حضورا لضمير المخاطب والمجابهة الحوارية  ومن ثم فكرة الإيهام بالذات، لتخلق مسافة بين الأنا الساردة والأنا المسرودة، وكأن الذات الشاعرة قد أرادت باستخدامها ضمير المخاطب أن توهم بعدم التطابق بينها وبين الأنا النصية، ومن ثم اقترحت على المتلقي صيغة قراءة النصوص ومحاولة تفسير عائدية الضمير:


( -هل تريد قليلاً من البحر؟/  -إن الجنوبي لا يطمئن إلى اثنين يا سيدي/ البحر و المرأة الكاذبة./ -سوف آتيك بالرمل منه/ وتلاشى به الظل شيئًا فشيئا/ فلم أستبنه./ - هل تريد قليلاً من الخمر؟/ - إن الجنوبي يا سيدي يتهيب شيئين: / قنينة الخمر و الآلة الحاسبة/ - سوف آتيك بالثلج منه/ وتلاشى به الظل شيئاً فشيئاً/ فلم أستبنه).


ويرى جابر عصفور أن وظائف تلك التقنيات تتباين باختلاف وعي الذات بنفسها ما بين التمرد عليها، أو الهروب من ضغوط واقع لا تتحمله، أو مساءلتها ومحاسبتها، أو تأملها بشكل يسمح من زيادة المعرفة والإدراك بكينونتها وبالتالي تقبلها أو التنافر منها -سواء في حضورها الذاتي أو حضورها العلائقي كطرف في علاقة مع غيرها - ومع كل هذا التباين يثبت دائما حضور البعد المعرفي، أي حضور الوعي الذي يتأمل صورته في المرآة، وحضور الذات التي تحاور الصورة أو الظل.


ويمكن القول إن تلك الصيغ تسهم في خلق فضاء شعري تتحرك فيه الذات الشاعرة بحرية أكبر، وتحقق نوعا من التخييل بالذات، وعدم الاندماج الكامل معها، فهي تشاهد "ذاتها" من الخارج وتراقبها وكأنها "آخر" لا يتطابق معها ترغب في نقله بموضوعية –ظاهرية - للمتلقي الذي تشركه في تفسير العلاقة. 


وفي قصيدة "زهور" تتماهى الذات الشاعرة مع فكرة النموذج الذي يعني - بتعريف فيليب لوجون- "النسخة المطابقة، والواقع الذي يدعي الملفوظ أنه يشبهه"، وذلك عبر تكسير "الأنا" والتلاعب بها بلا تردد ومنحها ذوات أخرى متغيرة ومتعددة الأبعاد، لتتوارى الأنا بعيدا عن الأنظار، وتتحول إلى مراقب لنموذج آخر:


(تتحدثُ لي/ أنها سقطتْ من على عرشها في البساتين/ ثم أفاقتْ على عرضها في زجاج الدكاكين أو بين أيدي المنادين/ حتى اشترتها اليد المتفضلة العابرة/ تتحدثُ لي/ كيف جاءت إلي (وأحزانها الملكية ترفع أعناقها الخضر)/ كي تتمني لي العُمر!/ وهي تجودُ بأنفاسها الآخرة/ كل باقة/ بين إغماءة وإفاقة/ تتنفس مثلي - بالكاد - ثانية.. ثانيهْ/ وعلى صدرها حملتْ - راضيهْ/ اسم قاتِلها في بطاقهْ)


لتكون علاقة الذات الشاعرة (داخل النص) بذلك النموذج (مرجع خارج النص) هي علاقة تطابق بشكل عام، ويكون النموذج الممارسة الشعرية التي اعتمدت عليها الذات الشاعرة في استعادة تجاربها الذاتية وإعادة تأويلها وفق منظور جديد، وكانت "الزهور" تلك النماذج الذي تحكي عنها بضمير الغائب وتجمعها بها علاقة مشابهة وتضامن في التجربة.


وهنا يمكن القول إن قصيدة "السرير" تندرج ضمن هذا النمط الكتابي، فتتوحد الذات الشاعرة - عبر توظيف تقنية التعليق باستخدام التقويس أداة كتابية - مع سريرها وينتظران معا المصير المشترك: 


(هذا السرير/ ظنني - مثله - فاقد الروح/ فالتصقتْ بي أضلاعه/ والجماد يضم الجماد ليحميه من مواجهة الناس/ صرتُ أنا والسرير/ جسدا واحدا.. في انتظار المصير).

 

صيغة كتابية أخرى من صيغ كتابة الذات يلجأ إليها أمل دنقل تُعرف باسم "قصيدة التجربة الذاتية"، وتعد شكلا من أشكال كتابة الذات وجزءا من قصيدة السيرة الذاتية، لا تختلف عنها سوى في اعتمادها على سرد تجربة خاصة اختبرتها الذات الشاعرة وأثرت فيها بشكل مباشر فاستدعتها في قول شعري منتظم أكثر تركيزا وتكثيفا، وهي في هذه الحالة تجربة المرض.


ويعرف الصيغة الكتابية المذكورة، صابر عبيد باعتبارها قولا شعريا ذاتيا يقتصر على تجربة - سير ذاتية واحدة - ذات خصوصية متميزة في حياة الشاعر، تدفعه إلى تسجيلها شعريا ويكون مضمونها مؤهّلا لمثل هذا التشكل الفني، وهي بذلك تكون أكثر تركيزا وتحديدا وتبئيرا على مستوى الزمن والمكان والحدث والحكي.


وتندرج قصيدتا "ضد من" و"لعبة النهاية" ضمن هذا النمط الكتابي، وفي الأخيرة تؤنسن الذات الشاعرة الموت عبر المراوحة بين ضميري الغائب والمتكلم، وتتلبس الذات الشاعرة دور الراوي كُلّي العلم الذي يسرد  للمتلقي الافتراضي  عن تلك الصور والمشاهد التي تراءت لها عن وعي أو في حالة من اللاوعي لتحركات الموت وانتقاء ضحاياه، والتي أجملتها الذات الشاعرة في صورة شعرية مكثفة:


(في الميادين يجلس/ يطلق – كالطفل – نبلته بالحصى/ فيصيب بها من يصيب من السابلة/يتوجه للبحر،/ في ساعة المد :/ يطرح في الماء سنارة الصيد،/ ثم يعود .../ ليكتب أسماء من علقوا/ في أحابيله القاتلة/ لا يحبّ البساتين َ.../ لكنه يتسلل من سورها المتآكل/ يصنع تاجا / جواهِره.. الثمر المتعفن/ إكليله الورق المتغضّنُ/يلبسه فوق طوق الزهورِ/ الخريفيةِ/ الذابلة / .../ أمس: فاجأته واقفا بجوار سريري/ ممسكا - بيد- كوب ماء/ ويدٍ- حبوب الدواء/ فتناولتها/ كان مبتسمًا/ وأنا كنت مستسلما/ لمصيري)