الإثنين 20 مايو 2024

"كيميا" والقراءة الطباقية للتصوف

فن21-10-2020 | 10:36

تقدم رواية "كيميا" للشاعر والروائي وليد علاء الدين، قراءة سردية خاصة للتصوف، اعتمادا على وعي جمالي وسردي جسور، فتقدم رؤية مغايرة تعاكس إشارات نمط من الروايات ذاع مؤخرا في تعاطيه مع الخطاب الصوفي ورموزه.

لقد عرفت الرواية مؤخرا طريقها إلى التصوف -بعد رحلة طويلة للشعر مع الخطاب الصوفي في مشهد الحداثة - فتواترت على نحو ملفت للانتباه النقدي ظاهرة الرواية الصوفية أو ما اصطلح على تسميته "الرواية العرفانية"، وهي شكل روائي منفتح على تجربة التصوف ومنجزها الأدبي وأشكالها الكتابية، فضلا عن شخصياته المؤثرة، وتشغيل الجانب الخيالي والروحي والإشراقي الذي تنسجه جوانب التسامح والبحث عن كونية الديني في الروح الإنسانية متجاوزة حدود التحيز والطائفية والتعصب. وأحسب أن الانتشار النسبي للرواية الصوفية أو العرفانية في الرواية العربية، بهذا المعنى العام، ربما كان تحت وطأة بروزها الجلي في السرد العالمي الراهن، ودعوى العولمة الكونية إلى ايجاد بديل روحي أكثر انفتاحا وتسامحا مع الآخر، خاصة مع سيادة مشهد كوني طافح بنزعة أصولية لا تخلو من تطرف وإلغاء للآخر المغاير. فتمثل ذلك، في بروزها الجلي في المشهدين العالمي والعربي مع مطلع الألفية الثالثة وظلالها النزاعة لكونية جارفة وعولمة مليئة التقاطبات والصراعات الحضارية.

لكن الملفت أن رواية "كيميا" تبحر بالقارئ ضد التماهي مع الخطاب الصوفي، أو الإيمان بسردياته الكبرى، والترويج لها، بل تخضعه لنوع من النقاش والتشكك والمساءلة. فتكشف عن وجه مستتر من وجوه "القراءة الطباقية" للنصوص، وهو نوع من القراءة ابتكره الراحل إدوار سعيد في تفكيكه للاستشراق، مستقى من الطباق الموسيقى وعلم النفس الذي يعكس تقاطبا في اللحن/ الذات رغم ما يظهرا من تماسك لحظي، فتكشف النصوص عن مفارقات ضمنية تنال من مصداقيتها السائدة بل الارتياب فيها، عبر السكن في موقع مغاير يشتبك بالمهمش، مما يدعونا إلى عدم الثقة في السرديات الكبرى المؤسسة.

لذا تستثمر  رواية كيميا إحدى سمات التخييل التاريخي، في كونه لا يقع تحت وطأة الأساليب التدجينية للرواية التاريخية التقليدية، التي طالما حاولت الدفاع عن مرجعية احترافية تتماهى مع المرويات التاريخية المعتمدة، بل تحاول عبر التخييل التاريخي تطوير رؤية للتاريخ لا تقمع تنامي القصص، بل تصبح الرواية أداة بحث، وتفسير، وترقيع للحكايات والغائب منها، بل اختلاق وقائع تسد الثغرات والفجوات في النصوص، وإعادة ابتكار علاقات محتملة تبني حبكة مختلفة للتاريخ.

وتتبدى تلك الحبكة في ظل قراءة طباقية للمتن من خلال تأويل الهامش، وإعادة بناء الصوت الجهير الحاضر من خلال الصوت الصامت المغيب، فتنقض المركزي بالملحق به. يتجسد هذا الطباق مع عتبة الرواية فنرى تدابرا بين صوتي المؤلف والرومي، فنسمع صوت الرومي مناديا: "اللّيلةَ الماضية، في المنام، رأيتُ شيخًا في حيّ العِشْق، أشار إليّ بيده: اعزمْ على الالتحاق بنا". في مواجهة صوت المؤلف الذاهل عن هذا النداء، ليعترض قائلا: "ولكنني قررت، قبل ذلك، أن أصنع ثقبًا في الجدار الغليظ؛ لتحلّق روحُ كيميا." وتعمق بنية السرد الرؤية الطباقية حين تجعل من "كيميا" تلك الفتاة الصغيرة مركزا لإعادة قراءة الرومي نفسه، وفي مقابل وفرة النصوص التاريخية حول قطب الصوفية، تجعل من شح المصادر التاريخية وبخلها حول شخصية كيميا ومآلها قطبا سرديا يتسم بالغنى التأويلي لنصوص الرومي نفسه. فلم يحتفظ التاريخ المدون سوى ببعض أسطر عن تلك الفتاة التي تبناها الرومي وزوجها لشيخه شمس التبريزي وهو كهل جاوز الستين فعاشت حياة بائسة وماتت في ظروف غامضة. فهناك مصدران لتاريخ كيميا هما: "الأول رسالة فريدون بن أحمد المعروف بسبهسالار؛ والآخر مناقب العارفين لشمس الدين أفلاكي" (ص 100).

تعول الرواية على هامشية شخصية "كيميا" فيما كتب حول الرومي، وفحوى هذا الغياب الذي يحيطها. لذا يتساءل الراوي: " كيف لشاعر حقيقي وصوفي عاشق أن يقدم طفلة قربانًا لاستمرار علاقته بمحبوبه؟ وكيف اختفت كيميا هكذا وكأنها لم تكن؟ لماذا لم يتأسف الرومي في أشعاره على موت قربانه الرقيق؟ لماذا عاشت نكرة وماتت مجهولة القبر. .. لماذا أهداها لشمس رغم علمه بالحب الذي جمعها بابنه علاء الدين ورغبة الأخير في التزوج بها؟ ما وضع المرأة في عقيدة العاشق الأكبر؟" (ص 67).

إن التاريخ وفق هايدن وايت إنما هو شكل من أشكال الخطاب يعتمد بنسبة كبيرة على الخيال السردي، ومن اللطيف أن حكاية كيميا استهوت الخيال السردي فجعل منها مركزا لبناء تاريخي خيالي وكأنه يجبر نقص المرويات التاريخية، ولذلك لم تكتف وليد علاء الدين بمحاورة التاريخ ونصوص الرومي بل دخل  في حوار خلاق مع ثلاث روايات حول الرومي. تمثل كيميا دورا هامشيا في "قواعد العشق الأربعون"، لإليف شافاق مقابل علاقة الرومي بشمس التبريزي المركزية، وتقع كيميا في قلب البؤرة السردية في "بنت مولانا"، لمورل مفروي، أما رواية "الرومي:  نار العشق" لنهال تجدد، فتمثل قراءة خاصة لعلاقة الرومي باتباعه واستنطاق عميق لشعره. ودون مواربة تقف الرواية موقفا ضديا لقراءة شافاق ومفروي لشخصية كيميا، فلم تر فيها شافاق إلا أداة لاستكمال الدراما،"ولكي تبرر عشق طفلة لرجل جاوز الستين، ماذا فعلتْ؟ صورت التبريزي رجلا "يجمع بين السحر والعذوبة، يمنحه شَعرهُ الكثيف المتهدل فوق عينيه وسمرة بشرته وسواد عينيه جاذبية تضاف إلى جاذبية نظرته الغامضة"، زِفْت.. نظرة نسوية سخيفة وخيالية للمتصوف الأسطوري، مهدت لانجذاب كيميا إليه «كما تنجذب الفراشة إلى النور "(ص105). وهذا ما يجعل المؤلف يرفض أيضا سردية مفروي التي جعلت كيميا بؤرة الحدث "وتصورها وكأنها ماتت عشقًا في شمس التبريزي. يا له من مصير لطفلة لم تكمل عامها الثاني عشر؛ تهيم عشقًا بشيخ جاوز الستين! مفروي عين استشراقية أعمتها شمس الرومي الساطعة" (ص 52). ولكن الرواية لا تفصح لنا بشكل مباشر عن موقفها من رواية نهال تجدد، وفيما يبدو أنها تستلهم منها بشكل ضمني تشكلات العلاقات بين الرومي والتبريزي وحقد علاء الدين ولد على التبريزي.

لكن رواية كيميا قائمة على استنطاق وتعميق علاقة حب بين علاء ولد ابن الرومي الاصغر وكيميا، ووقوع تلك الفتاة ضحية كيرا خاتون الزوجة الثانية التي أكلتها الغيرة عندما استحوذ عليه شمس الدين تبريزي، وخوفها من وقوع الرومي -المولع بالصغيرات مهما اجتهد في تغطيتها بفلسفته ولفلفتها بكلماته الغامضة -في فتنة الصبية، فألقت بها بعيدا عن شيخ الصوفية لتبعدها عنه لتلقيها عظمة في فم التبريزي لتبعده أيضا عن الرومي الهائم به.

هذه الاستنطاق الجمالي يعيد ترتيب شخصية الرومي نفسه، فيبدد التسلم المطلق به، فتغدو أبياته السبعة التي دونها بخطه في صدر المثنوي عن أنين الناي إنما هو صوت أنين كيميا حين "قدّمها مولانا قربانًا على مذبح شمسه المُعتم. ثم رقصا معًا على صوت أنينها المبحوح كصوت الناي، وحشرجات أنفاسها المذهولة كصوت الربابة. هل عرفت الآن لماذا اختار جلال الدين الناي والربابة ليقيم عليها طقوس رقصته؟ إنهما صوت أنين كيميا وحشرجات أنفاسها التي ظلت تطارده إلى لحظته الأخيرة" (ص 183).  وبصوت علاء الدين ولد يصبح "المثنوي نَظمٌ مسجوع لقصص ركيكة سطحية تدّعي أنها عميقة المعنى. وحجتهم في تلك الركاكة أن الله لا يستحي أن يضرب مثلا لا ما بعوضة فما فوقها. كتاب يُلغز ثم يقول لك إن لم تفهم ألغازي أو تعجبك حكاياتي فليس العيب فيها، إنما في ذاتك... راجع نفسك... انظر في مرآتك!" (ص 161).

ولا يقف الأمر عند هذا الحد إنه يصيب رؤية المتصوف الكبير حول العشق في مقتل حين يصبح عاشقا مجنونا، لا يبال إلا بشهواته ورغباته. ويتصل الأمر إلى أن يصبح الشيخ الأكبر أبعد ما يكون عن ظلال التسامح، فنصوص المثنوي نفسها طافحة بالسخرية من الآخر، والديانات السابقة، وهو أمر يتصادى مع التاريخ الكوني الذي يجمع كسراته المؤلف في أحلامه حول تاريخ كيميا ومآلاتها حتى وصولها لبيت الرومي. وكأنه ينفيى بقصد عن التصوف أن يكون ذلك البديل أو النسخة السمحة للتعايش. بل يجعل من ارتماء التصوف في عباءة التتار نوعا من الرعاية المتبادلة بين الديني والسياسي، والتوظيف السياسي للتصوف مقابل حمايته وعهدته بالانتشار. وليس بغريب أن يصبح التصوف نفسه لونا من التجارة وجمع الهبات ومزارا للحج وطقوسا مهيبة تنسى في حضرتها قصة الحب النقية الأولى التي دفنت في قبر معزول لكيميا.

يؤطر تلك القراءة الطباقية إقامة الرواية لتزاوج جمالي مقصود بين سرد مرجعي وسرد تخييلي، وتشبيك الحاضر والماضي، والواقع والحلم والتاريخ. ويتكفل سرد الرحلة بتقديم ميثاق سردي لخطاب مرجعي في صميمه، فيفصح المؤلف/ الراوي دون مواربة عن رحلته ضمن فريق إلى تركيا ضمن مشروع "ارتياد الآفاق" لمواكبة احتفال اليونسكو بالمئوية الثامنة لرحيل الرومي. بل يتبدى لنا صوت المؤلف المنغمس في سرد رحلته، القائم بمهمة صحفية استقصائية، فتظهر رسائل البريد الإلكتروني المرسلة للشاعر نوري الجراح، المضمنة لستة تقارير صحفية اتخذت عنوانا ثابتا "في الطريق إلى مولانا" امتزج فيها سرد المشاهدات اليومية بوصف الأماكن بالرصد الآني والمرجعي بسيرة الأماكن وتاريخها.

وأظن أن الرحلة في الرواية ينبغي ألا نحصرها في تقديم خطاب مرجعي بل نمد البصر فيما وراء خطاب الرواية الضدي للتصوف نفسه، لنرى فيها عدولا عن كتابات الرحلة الخيالية في تراث المتصوفة، ففي هذا العدول دلالة ضمنية موازية للقراءة الحاضرة للماضي وليس تحكم الماضي في الحاضر، ففي موقع الآن/ هنا، ترحل الرواية كان/ هناك وتعيد قراءة المفارقة الزمنية.

من المثير في الرواية أن تقع تقارير الرحلة المرجعية "في الطريق إلى مولانا" في علاقة ضدية مع حركة الأحلام التي تمثل الطريق إلى كيميا، ومن هذا الموقع الضدي، يمكننا رؤية تقنية الحلم التي وظفتها الرواية بوصفها لونا من الوعي المعاصر بالماضي، أو استنطاقا قرائيا لشخصياته. فلم تعول على مرجعياته الصوفية الدالة على الاستيهامات والوجد والآخذ بل التأكيد على أن الحلم له تفسير علمي يمكن فهمه في ضوء ظاهرة الحلم الصافي Lucid dream، الذي يتعرض لها بعض الناس، فليس حكرا على الصوفية. مهما يكن من أمر، لقد كان للحلم دوره في إقامة التوازي مع العالم المرجعي، فعبره سوغت الرواية لنفسها اللقاء بين وليد علاء الدين المؤلف وبين علاء الدين ولد، ورحل الاثنان معا في عالم من الوحدة الجمالية والشعرية بحثا عن كيميا، فانبثق صوتها من وراء الحجب وكأننا إزاء عوالم متوازية تكفل لحركة الدخول والخروج بين الأزمنة.