تنشر بوابة «الهلال اليوم» فصلاً جديداً من كتاب «هيكل.. المذكرات المخفية» للكاتب الصحفي محمد الباز، والفصل تحت عنوان «مملكتي..
أيامى في الأهرام».
(1)
عندما اقترح على باشا الشمسى على عائلة تقلا أن أصبح رئيسا لتحرير الأهرام فى العام 1956 لإقالتها من عثرتها، بدا الترشيح غريبا بالنسبة لهم، لأنهم لم يتصوروا أن يأخذوا رئيس تحرير عمره 32 سنة فقط، وقد ساعدنى امتلاكى لاتجاه مختلف عن اتجاهات أصحاب أخبار اليوم فى حسم الأمر.
وعندما تعودون إلى ما كنت أكتب فى ذلك الوقت ستجده مختلفا.
والحقيقة أننى لم أكن وحدى فنحن جيل الحرب الذى تأثر بالحرب العالمية الثانية ومناخها، وأظن أن هذه الحرب قد أتت بالعالم إلى مصر، وأخرجت مصر إلى العالم.
وعندما ذهبت إلى الأهرام قدمت شيئا جديدا انطلاقا مما كنت أمثله كجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية، وانطلاقا من تجاربى فى تغطية الحروب والأحداث الساخنة فى العالم.
أذكر عندما ذهبت إلى حرب البلقان لم يكن أحد فى الأخبار متحمسا لذهابى بما فيهم أستاذى محمد التابعى، والذى كان يقول وماذا ستفعلون فى هذا الأمر؟
لم يساندنى إلا على أمين، وقد تغيرت الدنيا بعد الحرب العالمية الثانية خاصة بعد استخدام السلاح النووى، والجيل الذى سبقنا فى الصحافة المصرية كان مشغولا بقضايا الداخل، وخاصة الحركة الوطنية المهتمة بالاستقلال، أما جيلنا فانطلق خارج الحدود وانشغل بقضايا العالم المختلفة.
الأستاذ محمد التابعى كان مدرسة مختلفة، وعندما ننظر إلى مراحل تطور الصحافة، فأول مرحلة كانت مع رفاعة الطهطاوى الذى اهتم بالترجمة، والتى كانت وسيلة ربطنا بالعالم الخارجى، ثم جاءت مرحلة محمد عبده ولطفى السيد وهى المرحلة التى اهتمت بتجديد الفكر الإسلامى.
الشيخ محمد عبده كان يعبر عن روح العصر ولطفى السيد يبحث عن منابع الثقافة الغربية فى الفلسفة، " الفلسفة الإغريقية بالتحديد"، ثم جاءت بعد ذلك مرحلة صحافة الخطابة بداية من مصطفى كامل وحتى سعد زغلول، وهى مرحلة العمل السياسى والفكر السياسى، وأتذكر آخر خطبة ألقاها سعد زغلول وكانت فى شبرا والتى قال فيها " يعز على أن أرى منبر الخطابة منصوبا ولا أستطيع له رقيا، وأن أجد مجال القول واسعا ولا أجد له لسانا فتيا".
ولأننا كنا فى مرحلة طلب الاستقلال فكان من الطبيعى أن تلجأ الصحافة إلى الحجج القانونية والخطابية والبلاغية لتعبئة الرأى العام، ثم جاءت بعد ذلك تجربة البرجوازية الصغيرة، وهى صحافة تهتم بما قاله فلان وبما عملته فلانة، وهى بشكل عام تهتم بالطبقة الوسطى.
بعد دستور 1923 والذى انحاز إلى طبقة ملاك الأراضى، اتجهت الصحافة إلى الثرثرة، حتى دخلت الجيوش فى الحرب العالمية الثانية إلى مصر، وبشكل عام ظلت الصحافة متأثرة بالخطابة والترجمة، وعندما نقرأ المكتوب فى ذلك الوقت، نجد العبارة الجزلة والتعبيرات الرصينة والسجع والجناس والطباق وكل المحسنات البديعية، حتى جاء الأستاذ التابعى بأسلوبه الساحر الذى وضع أسلوب السرد والحكاية، وهى المدرسة التى تأثر بها بعد ذلك مصطفى أمين ويظهر ذلك جليا فى مقالاته " ماذا جرى بين الوفد والقصر".
المقالات كانت مليئة بالحكايات الفرعية المهمة والتى تكون فى النهاية صورة متكاملة للأحداث.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت مدرسة ما بعد الحرب وبدأت الأفكار اليسارية والإشتراكية فى الظهور، وبدأ العالم يموج بأشياء كثيرة مما حتم تغير لغة الصحافة، وهذا ما استطاع الأستاذ التابعى استثماره ليضع بصمته الخاصة على لغة الصحافة، وقد تأثرت بالأستاذ التابعى ولكنى احتفظت بأسلوبى الخاص.
عندما رشحنى الأستاذ على الشمسى لرئاسة تحرير الأهرام طلبت نسبة 2.5 % من الأرباح فرفض أصحاب الجريدة، وقالوا إن الأهرام قد خسر كثيرا خلال السنوات العشر السابقة، فقلت إن الأمر لن يكلفكم شيئا، فإذا حققت أرباحا أحصل على 2.5% منها فوافقوا على مضض، وكتب العقد المحامى الأستاذ مصطفى مرعى، وألغيت هذه الميزة عند صدور قانون تنظيم الحد الأعلى للأجور.
لقد كنت خامس رئيس تحرير للأهرم بعد بشارة تقلا الكبير، وداوود بركات ومطران خليل مطران وأنطوان الجميل، وكانت الدعاوى الوطنية قد تزايدت وقت دخولى الأهرام، وقبل ذلك كانت قد صدرت جريدة المصرى، ثم أخبار اليوم وكان ذلك يفرض تحديات على الأهرام، ولم يكن أصحاب الأهرام يعرفون ماذا يفعلون؟
وما زلت أذكر الجلسة الأولى التى جمعتنى بهم عند ذهابى للأهرام، وطلبت منهم أن آخذ معى أوراق الأهرام وأذهب إلى الأسكنرية، لكى أرى الصورة واضحة، وعندما فعلت ذلك استهولت ما رأيت، لكن ذلك لم يقلقنى.
الذى أقلقنى عند دخولى اجتماع مجلس الإدارة لتقديم تقريرى الأول، كان على الشمسى باشا الذى أحضرنى إلى الأهرام، وقد انتهت مدة عضويته فى مجلس الإدارة، وكان هو عضو مجلس الإدارة الوحيد الذى يعرف اللغة لعربية.
كانت أمامى مدام رينيه تقلا، وكانت سيدة مدهشة أعتقد أنها من الذين حافظوا على الأهرام، لأن الصحف تمر بمرحلة لا يكون المهم فيها أن تتقدم، بل أن تنجح فى المحافظة عليها، وأنا أعتقد أن مدام تقلا، وريمون شميل قاما بدور كبير جدا فى الحفاظ على الأهرام، بينما كان بشارة تقلا الذى ورث الأهرام عن أبيه لا يزال صغيرا.
فى هذا الاجتماع طلب منى أعضاء مجلس الإدارة أن أقدم تقريرى بالإنجليزية، بينما طلبت مدام رينيه أن يكون التقرير باللغة الفرنسية.
قلت لهم: إن إجادتى للإنجليزية أفضل من إجادتى للفرنسية، لكن لا بأس سأقدم تقريرى بالفرنسية، وفى هذا الوقت ظهر لى أن المأزق الحقيقى للأهرام هو أن أصحاب أقدم جريدة عربية تغيروا طبقيا، وأصبحوا لا يعرفون اللغة التى يصدر بها الأهرام، ومع ذلك ظلوا محافظين عليه كمؤسسة.
وفى أول تقرير لى قلت: إننا لا نستطيع أن نصنع تاريخا بدون جغرافيا ملائمة، فقد كنا فى عام 1957 بينما مطبعة الأهرام مصنوعة فى عام 1928، وماكينة الزنكات مصنوعة فى عام 1904، والمبنى كان بيتا للقنصل الإيطالى بنى فى عام 1901، لكن مدام رينيه قالت إنها لم تفهم ما هى العلاقة بين التاريخ والجغرافيا.
كانت هذه مشكلتى الثانية: كيف يمكن تحديث الأهرام فى هذه الظروف؟
كنت أتحرك وأنا أعرف أن حال الصحافة مثل حال المدن، وعلينا أن نفرق بين المدن وعشوائياتها، ولابد أن نقبل الواقع وهو أن قلب المدينة شئ، والعشوائيات التى تنشأ على أطرافها شئ آخر، وقد دخل المهنة من لا يدرك رسالة الصحافة، ولابد أن نفهم ذلك، ولا نحكم على المهنة بما يحدث فى عشوائياتها، لأن مهنة الصحافة مثل أى مهنة، ومجتمع الصحافة والصحفيين مثل أى مجتمع يجب أن يكون الحكم عليه بالأغلبية وليس بالأقلية، وبالأكثر تقدما وليس بالأكثر تخلفا.
عندما سألنى مدير التحرير كيف أريد الأهرام غدا؟
قلت له: أريده كما كان بالأمس، لأن ما يهمنى الآن ليس أن أكسب قارئا جديدا، ما يهمنى هو أن أحتفظ بقارئ ظل وفيا للأهرام طوال السنوات التى تحول فيها الأهرام إلى موقف دفاعى، وقبل أن أكسب قارئا جديدا أريد أن يطمئن القارئ القديم، سنظل مؤقتا كما نحن.
(2)
طلبت موعدا مع الرئيس جمال عبد الناصر، وفى اليوم التالى قابلته.
قلت له: لقد وقعت أمس عقدا مع الأهرام.
نظر إلى بدهشة، ولكنه كان كريما فى فهمه كعادته.
كان تعليقه الأول: أليس غريبا أن تقبل العمل فى الأهرام وأصحابه أسرة تقلا بينما اعتذرت عن العمل فى الجمهورية وأنا صاحبها؟
كان امتياز جريدة الجمهورية حين صدورها باسم جمال عبد الناصر.
قلت له: إن الأهرام له صاحب استطيع أن أتعامل معه مهنيا، وأما الجمهورية فلا يمكن أن يكون لديك الوقت لممارسة مسئوليات صاحبها، وبالتالى فهى بلا صاحب، وهذا يجعلها مهنيا معضلة شبه مستحيلة.
وانتقل إلى نقطة أخرى، قال: سوف تتعب مع هؤلاء الناس، ما أسمعه عنهم غير مشجع، ولا أظنهم يتركون لك الفرصة لتفعل ما تريد.
قلت: الحكم بينى وبينهم هو العمل نفسه، هم يريدون نجاحا لجريدتهم وهو ما أريده أيضا، الموقف كله يختلف إذا لاحت علامات نجاح.
وراح يفكر قليلا ثم سألنى: هل هناك مشاكل فى أخبار اليوم؟
قلت على الفور: مطلفا كل شئ هناك فى مجراه العادى، لكنى أشعر أننى وصلت مهنيا إلى آخر السلم فيما يمكن تحقيقه فى أخبار اليوم، وفى الأهرام شئ مختلف، سلم جديد من بدايته والطريق طويل، وهو فى كل الأحوال امتحان أشعر أننى متحمس لدخوله.
كان جمال عبد الناصر كريما ومشجعا وقال: الأمر لك كما تراه، فهو عملك ومستقبلك، وإن كنت لا أخفى إنى مشفق عليك من عناء تجربة جديدة مع اعتقادى أنك قادر على النجاح.
(3)
قبل أن أذهب إلى الأهرام كنت أعرف ما يدور هناك .
كان مكتب أنطون الجميل باشا رئيس التحرير يتحول كل ليلة إلى بوفيه، وكل الناس يجلسون حوله يتكلمون ويأكلون، كان مكتبه يجتمع فيه كل ليلة السياسيون والصحفيون.
مصطفى وعلى أمين "يفوتوا وتحلو السهرة".
كامل الشناوى كأنه فاتح مطعم من الساعة الخامسة حتى السابعة، يفرش مكتبه بالورق وتنزل صوانى الفتة و السجق والجبن والبسطرمة.
سيارة الركيب تقف أمام الأهرام بصوانى الممبار والكوارع.
وعندما توليت رئاسة الأهرام بدأت بوقف هذه السلوكيات، وغضب منى كامل الشناوى رغم صداقتنا، فأصريت وقلت لهم: مفيش عربية الركيب كل يوم تنزل كرشة.
بل كان أحد الشعراء عنده تجارة خاصة اسمها " واحدة ونص" يلتف حوله الصحفيون لأنها كانت مرتبطة بالمزاج، ويطلبوا من مطعم بولس بيض مقلى وسجق.
كنت أعرف أيضا أن أصحاب الأهرام حرصوا من البداية على تطوير صناعة الصحافة، فأدخلوا الصورة للمرة الأولى، وأحضر تقلا باشا ماكينات الجمع السطرية والطباعة بالألوان، وقد كان هذا التطوير مرتبطا بحرص شديد فى اختيار معاونيهم، فقد كان أنطون الجميل باشا ليس فقط من نفس الملة بل كان سكرتير اللجنة الإقتصادية فى مجلس الشيوخ، وهى مؤسسة شرعية معترف بها، كانت اختياراته موفقة، كان اختيار المالكين من العائلة لكن الأعضاء المصريين على درجة عالية من الكفاءة والإستكانة، وكانت معايير الاختيار دقيقة حتى يحافظ على حياد الأهرام.
كانت الحياة السياسية المصرية خلطة غريبة تركت الساحة لبروز صحافة أخرى بالتميز والظهور مثل صحيفة الجهاد وصحفيين مثل أبو الفتوح والرافعى والتابعى وتوفيق دياب.
وكانت هناك مدارس جديدة فى الصحافة مسمعة ومكتسحة السوق مثل مدرسة مصطفى وعلى أمين القائمة على الإثارة والخبر الشعبى، ومدرسة التابعى القائمة على جمال أسلوب الصحفى والحكايات وبعض النميمة والإبهار فى مجلة الحمامصى، وكانت المقارنة باستمرار لصالح الصحف المصرية، وكان أصحابها رأسمالية صغيرة، ولكن كانت تعرف قواعد السوق وتتعامل بجرأة.
كانت مدرسة التابعى مدرسة أسلوب وليست مدرسة حركة، لم يهتم كثيرا ب" الريبورت" أو التقرير الخبرى، لكنه كان يركز على الروايات والحكايات والدخائل، وهى المدرسة التى طورها الأستاذ مصطفى أمين بعد ذلك وأ ضاف لها النميمة التى تنتشر وتروج وسط الطبقة المتوسطة، وكانت موجودة فى دخائل السلطة حكايات عن النحاس باشا وماذا فعل محمد محمود فى أوربا.
وقتها كانت أولوياتى أن يخرج الأهرام من دائرة الحذر والإحساس بالإغتراب والحساسية.
فكان على أن أمصر الأهرام وأزيل شبهة الطائفية باختيار مسلمين فى الوظائف الإدارية العليا، وإلى جانب التمصير والأسلمة كنا حريصين على اختيار ناس مسالمين أو على الأقل لا تعمل مشكلات باستثناء مسلم واحد وهو أحمد الصاوى محمد، وهو أول رئيس تحرير مصرى للأهرام، لم يكن فى جرأة أحمد أبو الفتح مثلا، بل كان إما مسافرا أو هادئا وساكنا وغير مثير للجدل والقلق.
كان لابد أن أدخل مدرسة الحركة بدلا من مدرسة التسكين والاستسلام إلى شعارات، منها شعار أن من لم ينشر نعيه فى الأهرام فكأنه لم يمت.
تساءلت كيف والملايين التى لا تستطيع الإعلان... ألم تمت؟
وعلى الوزن نفسه أن الخبر الذى لم ينشر فى الأهرام كأنه لم يحدث بان هذا كلام فارغ.
أسست مدرسة الحركة فى الأهرام، وكانت نواتها مجموعة من أوائل قسم الصحافة منهم مكرم محمد أحمد وآمال بكير ومحمد باشا وفهمى هويدى وسامى متولى وماهر الدهبى وسمير صبحى وحسنى جندى، أو من الشباب الواعد فى صحف وأماكن أخرى مثل سناء البيسى وتوفيق بحرى وسلامة أحمد سلامة وإبراهيم نافع ومحمد حقى وأحمد بهجت.
استطاع الأهرام خلال شهور أن يحتكر صناعة الخبر الحقيقى، أن ينفرد وفرض أسلوبه فى الوصول إلى عمق الحدث وصناعته أحيانا، وتحديد نوعية الخبر الذى يستحق النشر البعيد عن الإثارة والتهويل والنميمة، وانطلاقا من قاعدة لا رأى إلا على قاعدة خبر امتازت مدرسة الأهرام بالمقال التحليلى والتفسيرى الذى يتناول بالشرح والتحليل والتفسير أخبار القضايا القومية الكبرى.
(4)
استطعنا بعد عام ونصف فقط إنهاء الخسائر وتحقيق أرباح لا بأس بها، خاصة بعد أن نجحنا فى إصدار قانون تنظيم الصحافة وليس تأميم الصحافة، الذى يمنح العمال بشكل مباشر نصف أرباح المؤسسة، أما النصف الآخر فيتم تخصيصه لعملية الإحلال والتجديد فى المطابع وغيرها من مستلزمات الإنتاج، وقد استطاع هذا القانون أن يحدد علاقة المؤسسات الصحفية بمؤسسات الدولة المختلفة والتى يفصل بيننا وبينهم الدستور، وكانت مؤسسة الأخبار معنا فى هذا الإطار، وقد خرج هذا القانون بالأساس من جريدة الأهرام.
بعد أن توليت مسئولية رئاسة التحرير بالأهرام استقامت ظرروفها المالية وأصبحت حريصة على أداء دور فاعل فى المنظومة المصرية كلها، وقد حرصنا طوال الوقت أنا ومن معى على أن نكون جريدة من طراز مختلف، وقد حرصت على التأكيد بأننا جريدة مهمتنا الأساسية هى نشر الأخبار وتحليلها والتعليق عليها.
استطعنا تحقيق سمعة إخبارية جيدة للأهرام، مما أدى إلى وجود استقلالية مالية وربحية قابلة للاتساع، وطوال الوقت لم يغفل الأهرام البعد الثقافى، ولذلك كنت حريصا على انضمام توفيق الحكيم إلى أسرة الأهرام، على أن يتقاضى راتبا مثل راتبى تماما مقابل الجلوس مع الشباب كل يوم، وكل ما يكتبه بعد ذلك يتقاضى عليه أجرا جديدا، ولذلك فقد كان الحكيم يحصل على ضعف أو ضعفين قيمة راتبى كل سنة.
كنت أبحث عن ثقافة شعب، وعليه فلابد أن تكون جميع تياراته موجودة.
البعد الإسلامى كانت تمثله الدكتورة عائشة عبد الرحمن بنت الشاطئ.
وتوفيق الحكيم كان يمثل فكرا آخر هو الوسطية.
ويوسف إدريس متأثر جدا بالأدب الإسبانى.
وعبد الرحمن الشرقاوى يمثل اليسار.
وهكذا فإن هذه المجموعة من كبار المفكرين والأدباء تمثل تكامل الثقافة المصرية، وتمثل الانفتاح والاحتكاك بكل ثقافات العالم الأخرى، من خلال التواصل مع كل المدارس الأدبية والفكرية، وهذا التواصل مع الآخر هو ما كنا فى أشد الإحتياج إليه.
(4)
فى اجتماعى الأول مع أسرة تحرير الأهرام، قلت لهم بوضوح إننى أعلم أن بعض الجالسين معنا إما على إتصال بالإتحاد القومى أو بالمباحث أو بالمخابرات، وأنا أري مندوبين للأهرام فى هذه الجهات وليس العكس، ولذلك فأمام هؤلاء مهلة لمدة شهر لقطع صلاتهم بهذه الجهات، وإلا فعليهم قطع صلتهم بالأهرام.
وأذكر أن محافظ القاهرة القوى سعد زايد أهان محرر الأهرام فؤاد سعد فى اجتماع عام، فقررت مقاطعة أخبار المحافظ حتى يعتذر للمحرر فى نفس الاجتماع.
ورغم شكوى سعد زايد للجهات العليا فإننى صممت على موقفى، وفى النهاية اعتذر محافظ القاهرة لمحرر الأهرام.
(5)
من أكثر الأشياء التى أعتز بإنجازها خلال فترة رئاستى لتحرير الأهرام، تلك المجموعة المتميزة من اللوحات الفنية، ولم يقتصر دورنا على مجرد الإقتناء، ولكن كنا نشجع وندعم الفنانين المبدعين.
فمثلا الخزاف الشهير محيى الدين حسين عينته فى الأهرام وأعطيته تفرغا، ليس من أجل تحرير الأهرام أو تقديم ورق مكتوب، ولكن من أجل أن يخرج " شعاع ضوء" فى سماء الفن والإبداع، فيجب أن ينطلق ضوء كاف خلف كل كلمة ، فالكلمات ليست مجرد حبر على ورق، فالكلمة بشكل أو بآخر يجب أن تكون شعاعا ينير الطريق أمام الناس، فأنت عندما تدخل الأهرام وتصافح عيناك تلك اللوحات الجميلة، فهذا شئ يسعدك بكل تأكيد.
قلب الإتحاد الاشتراكى الدنيا بسبب هذه اللوحات وما يدفعه الأهرام من أجل شرائها، فذهبت إليهم وهاجمتهم وقلت لهم عليكم أن تغضبوا إذا كنتم تدفعون ثمن هذه اللوحات، ولكن الأهرام جورنال يستطيع أن يغطى مصاريفه وحتى شطحاته، فإذا طلبنا منكم المساعدة فمن حقكم الاعتراض.
وقلت لهم: لقد صنعنا جريدة ناجحة ومعبرة عن الناس، وهذا ما نستطيع أن نؤديه تجاه بلدنا، ولا توجد لكم سلطة علينا خاصة وأنكم لا تقومون بتمويلنا، وليس فى مقدور الدولة أو الاتحاد الإشتراكى الإدعاء بتمويل هذه اللوحات، والتى اشتريناها من أموال الأهرام، وهذه اللوحات الموجودة فى الأهرام تمثل واحدا من أصوله حيث تساوى عشرات الملايين من الجنيهات.
(6)
بعد أن قامت الثورة كان جمال عبد الناصر على علاقة بعدد كبير من الصحفيين، وفى النهاية وبالإختيار الحر وعن طريق الممارسة ازددت قربا منه، وهذا أمر أعتز به، إذن عبد الناصر لم يخصنى بوضع استثنائى إنما ألقى على مسئولية استثنائية، ولقد فعل ذلك إحساسا منه بأننى أؤدى دورا فى نظامه.
وأنا تبعا لذلك لم أحصل على امتيازات على الصعيد المادى.
كنت مقيدا أيام عبد الناصر وإلى حين تركت الأهرام بالحد الأعلى للمرتبات فى مصر وهو خمسة آلاف جنيه سنويا من دون أى زيادة.
وعندما بنينا الأهرام لم نلجأ إطلاقا إلى الدولة لكى نعامل معاملة خاصة أو نستثنى من قانون البناء، وبنينا الأهرام فى ظل قانون الشركات المساهمة المصرى، وكان رأيى أننا بهذه الطريقة نقدم نموذجا جديدا فى إدارة المال العام، والأهرام لم تكن ملكى لكننى كنت أنظر إليها على أنها مسئوليتى فى العمل العام وأعطيه كل جهدى، وكان قصدى من ذلك معالجة الخلل الناشئ فى مفهوم الملكية الاجتماعية.
كنت أعتبر أن الأهرام يجب أن تكون نموذجا فى كل شئ بما فى ذلك الإدارة العلمية، وقد أعجب عبد الناصر بذلك متمنيا لو كانت مؤسسات الدولة كلها تدار بالطريقة التى تدار بها الأهرام، وبعدما زار عبد الناصر المبنى كان يتحدث فى كل مكان عن الأهرام، فى مجلس الوزارء تحدث مرات كثيرة، وكان يقول إنه سعيد جدا لأن مشروعا نجح فى مصر وأنه يتمنى أن تنجح كل المؤسسات كما نجحت الأهرام.
عبد الناصر زار الأهرام مرة واحدة فقط، جاء ليشاهد هذه التجربة بعدما لاحظ أن معظم صحف العالم كتبت عنها باهتمام، طلب أن يزور الأهرام وأنا مع كل فرد من أسرة الدار كنا فى غاية السعادة والاعتزاز بهذ الزيارة.
(7)
قصدت ألا يفتتح جمال عبد الناصر مبنى الأهرام الجديد، لأنه فى البداية والنهاية ليس مشروعا من مشروعات الدولة، والدولة لم تدخل فيه ولم تدفع له مليما واحدا، ولهذا جاء جمال إلى الأهرام زائرا، وكانت هذه الزيارة بناء على طلبه، وكان سبب طلبه أنه سمع كثيرا عن الأهرام، وكنا قد أصدرنا ملحق الأهرام الجديد، وأصبحت عنده رغبة فى الحضور لرؤية الأشياء التى سمع عنها عن قرب.
كان الرئيس عبد الناصر يعرف ويدرك أننى لم أطلب منه أى إمتياز للأهرام، كان يعرف أن موارد الأهرام من النقد الأجنبى هى التى تستعمل فى سد مطالبه من النقد الأجنبى، لم نطلب أية مبالغ مالية من وزارة الاقتصاد، ولم نطلب من أى جهة أخرى فى مصر.
قال لى الرئيس: مش حاتعزمنى أشوف الأهرام؟
جاء جمال عبد الناصر إلى الأهرام، رتبنا أن يمر على كل الناس حيث هم، بمعنى أن يدخل صالة التحرير والمحررون يعملون فيها لحظة دخوله، يعملون بصورة طبيعية، وكنا حريصين على أن يرى الكفاءة وطريقة سير العمل.
فى هذا اليوم طلبت من الأستاذ أحمد بهجت وهو كاتب لديه حس قوى بالتاريخ أن يمشى معنا، ويغطى الزيارة بالقلم، وكان هناك مصورون أيضا طوال الوقت.
عبد الناصر جاء إلينا فى حوالى الساعة السابعة مساء، وخرج فى حوالى الساعة الحادية عشرة، وعندما خرج فى الحادية عشرة كانت معه الطبعة الأولى من الأهرام وصورة الزيارة فى الصفحة الأولى، وكان سعيدا بهذا جدا.
لم تكن هناك إجراءات أمنية خاصة، الأهرام كان هو المسئول عن الأمن فى هذا اليوم، ومن الذى يحضر ومن الذى لا يحضر، ومن الذى يتكلم مع الرئيس، لأننا لو سمحنا بدخول الأمن كانت الزيارة فقدت الكثير من تلقائيتها ودلالاتها ورمزيتها، ثم إنه لم يكن فى مصر عبد الناصر أمن بالطريقة التى اتبعت بعد ذلك.
كنت فى انتظاره أمام باب الأهرام، ودخل عبد الناصر ومعه أنور السادات، دخل معه محمد أحمد ومحمود فهيم، وهؤلاء لم يكملوا الجولة حتى النهاية.
طلعنا مكتبى أولا، شرحت له تفاصيل ووقائع الزيارة.
ما كان يهمنى فى هذه الزيارة رغبتى فى أن يرى الأهرام فى حالة عمل، ومعنى هذا أن تكون كل الناس فى الأهرام فى مواقعها، لم يكن فى الأمر أى استعراض، ولكن عملية تحقيق لصورة الأهرام الذهنية عند الرئيس، وبالتالى كل الناس كانت فى أماكنها، لم يكن هناك عامل يتحرك فى غير مكانه، كل واحد فى مكان عمله لأنه يؤدى هذا العمل، كأن الأهرام لا يوجد به الرئيس فى ذلك اليوم، وينصرف عن عمله فى حالة واحدة فقط، أن يخاطبه الرئيس بصورة مباشرة.
كنا نمشى هكذا، كان هو يمشى ومعه أنور السادات، وكنت معهما ومحمد يوسف وحسن دياب فى الأمام، ومعنا أحمد بهجت، وأعتقد أن محمد أحمد كان يمشى خلفنا، كان عبد الناصر مهتما بالسؤال والمعرفة المباشرة التى يحصل عليها بنفسه من الآخرين، أعتقد أنه قضى وقتا جيدا وجميلا فى الأهرام.
فى هذا اليوم كان للرئيس أكثر من لقاء فى الأهرام.
التقى مع هيئة التحرير ومع الباحثين والمحررين والكتاب فى مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، ومع المسئولين عن نقابة العاملين فى الأهرام، وأعضاء نقابة الصحفيين بالأهرام أو ربما البعض منهم ووحدة الاتحاد الاشتراكى العربى .
كانت اللقاءات موزعة أثناء خروجه من الأهرام، ولكن من المؤكد أن هيئة تحرير الأهرام ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية والكتاب والأدباء والمثقفين، كانت هذه اللقاءات الثلاثة هى أطول اللقاءات التى استغرق فيها أطول وقت قضاه فى الأهرام.
فى صالة التحرير وقف واهتم ونظر ورأى.
وفى المطبعة توقف وسأل.
لكن المناطق الثلاثة التى توقف عندها بالأهرام كانت هيئة تحرير الأهرام، ومركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، والقسم الأدبى بالدور السادس.
عندما دخلنا معه إلى القسم الأدبى كانوا كلهم موجودين، وكانوا وقوفا، توفيق الحكيم، حسين فوزى، نجيب محفوظ، لويس عوض، عائشة عبد الرحمن.
قلت لعبد الناصر: فى هذه القاعة ستجد كل المدارس الفكرية وكافة الاتجاهات، ستجد حسين فوزى الذى يقول بحضارة الشمال الأوربى، ويناشد المصريين الإبحار والاتجاه شمالا، وستجد توفيق الحكيم الذى يقول بحضارة البحر الأبيض المتوسط، وستجد عائشة عبد الرحمن التى تقول بالتوجه الإسلامى، وستجد من يقولون بالماركسية، ومن يقول مصر المملوكية مثل نجيب محفوظ، لويس عوض يقول الغرب، غرب عصر النهضة، وتوفيق الحكيم يقول أوربا.
كنت أعرف أن توفيق الحكيم يرتبك عند الكلام فى حضور جمع من الناس، فما بالك إن كان الكلام فى حضور الرئيس جمال عبد الناصر، أعطيت الكلمة لحسين فوزى حتى يكون أول المتكلمين فى حضور عبد الناصر، وحسين فوزى اختار أن يعقب على كلامى.
قال: سيادة الرئيس، الأستاذ هيكل قال إننى أقول أوربا، وهذا صحيح، واتجاه مصر كان دائما إلى الشمال، وعلى القيادة السياسية أن تحدد هل هو شمال غرب أم شمال شرق؟
قلت لعبد الناصر: الدكتور حسين فوزى يحاول أن يكون دبلوماسيا.
وقلت لحسين فوزى: قل بوضوح إنك تتكلم عن غرب أوربا.
لكن حسين فوزى قال لى: وشرقها، وضرب مثلا ببطرس الأكبر، قال إنه ذهب إلى الغرب، أى أن شرق أوربا اتجه إلى غربها، وكان حسين فوزى يقصد الكلام بالتلميح دون التصريح أى من غير أن يسمى الأشياء بأسمائها – عن علاقات مصر بالاتحاد السوفيتى، كما كانت فى ذلك الوقت.
ثم بدأ توفيق الحكيم يتكلم، قال كلاما عاما عن حياة الناس فى مصر وعن المعركة واحتمالاتها، وبيان 30 مارس الذى كان قد خرج قبل ذلك بقليل، وجاء كلام توفيق الحكيم عاما فى هذا الإطار.
(8)
كثيرون كانوا يتصورون أن الأفكار التى تتضمنها مقالاتى أو الأخبار والتحليلات التى كانت تنشر فى الأهرام كنت أحصل عليها من عبد الناصر، وهذا لم يحدث أبدا.
وكان كثيرون يتصورون أن التقارير التى تصل إلى عبد الناصر أطلع عليها ومنها أنتقى الأفكار والمعلومات لأضمنها مقالاتى.
وأنا أطلعت بالفعل على مئات التقارير التى كانت تصل إلى عبد الناصر، ومنها تقارير سفرائنا فى الخارج ولم أجد فيها سوى أن الأداء البيروقراطى الموجود على السطح هو الأداء البيروقراطى الموجود فى الداخل.
كنت أرى عبد الناصر باستمرار وأتناقش معه باستمرار، وكنت أعيش فى وسط الأحداث، ولا أنتظر من يعطينى الخبر أو المعلومة، لقد عايشت أحداث التجربة المصرية ساعة بساعة كطرف فى الحوار الدائر فيها، ولم أكن أمد يدى إلى جيب عبد الناصر لآخذ منه الخبر أو أنتظر منه أن يتصل بى هاتفيا ليقول لى أنه سيخص الأهرام بخير كبير.
كنت دائما إلى جانب عبد الناصر نتعامل من دون وساوس ولا أنتظر نبأ يتعلق بقضية ما لأننى كنت طرف حوار فى هذه القضية، وإذا كان يحدث أن عبد الناصر يطرح فكرة أكون ضمنتها مقالة لى أو شعارا أطلقته فيها فهذا معناه أن عبد الناصر اقتنع بضرورة طرح الفكرة أو إطلاق الشعار.
وكان كثيرون يتضايقون، وكان بعضهم يقول ما معناه لماذا لم يعطنا عبد الناصر الفكرة الفلانية وخص هيكل لتظهر فى مقالته؟
إننى كنت صادقا معه، وكان واثقا بى متقبلا ما أكتب وأنشر.
وكانت حالات التوتر بيننا مظهر عافية لهذه العلاقة بين قائد تاريخى وكاتب شاءت له الظروف أن يكون قريبا منه.
لنكن أكثر دقة وصراحة، فأنا لم أكن أفصل، بمعنى أننى كنت أكتب عما أتكلم حوله مع عبد الناصر، وحدث كثيرا أننا تناقشنا ساعات فى قضايا وآراء كان بيننا فيها اتفاق على ألا أتناولها فى مقالاتى أبدا، ومع ذلك كان هناك كثيرون يفترضون أننى أذهب إلى عبد الناصر يوم الخميس لآخذ منه أفكار مقالى ليوم الجمعة، وهذا التصور سبب لى إحراجا فى مرات كثيرة، لكننى أجزم بأن الإتفاق الذى كان بيننا أن يكون نقاشنا وتبادل الآراء بيننا بمعزل عن المقالات، وكان هذا الاتفاق ينفذ بدقة، والمرات التى تحدثنا فيها عن مقالاتى كانت قليلة جدا.
فى العادة لم يكن يجرى اتصالا بيننا يوم الجمعة، وأقضى هذا اليوم مع عائليتى فى برقاش، ولكنه عندما يتصل بى يوم الجمعة يكون معنى ذلك أن هناك أزمة.
مثلا فوجئت يوما فى السابعة مساء يوم جمعة بالرئيس عبد الناصر يتصل بى، وفى ذلك الوقت كانت مقالاتى حول التغيير، وفيها كتبت بشئ من الدقة ما معناه إذا لم يستطع النظام أن يغير فلابد أن يتغير، ومن نبرة صوته شعرت أنه يريد أن يقول لى أمرا ما.
قال: هل تريد رأيى فى مقالتك حول التغيير؟
أجبته: بالطبع.
قال: المقالة مكتوبة بأسلوب غسان توينى فى مواجهة شارل حلو، لكننى لست شارل حلو وآمل ألا تكون غسان توينى.
وفى غير ذلك لم أشعر أن عبد الناصر يضيق بما نكتب أنا وغيرى فى الأهرام لأننا نكتب من موقع الحرص على الثورة.
(9)
كنت أعرف دورى جيدا فى الأهرام .
لقد حاولت أن أجعل من الأهرام مرآة لعصره وزمانه وعالمه، وملتقى لأفكار كثيرة مهما كانت متعارضة، كان هدفى أن أخلق مناخا، كنت أفكر فيما يحدث فى الخارج، فإن ما يميز صحيفة عن صحيفة هو الروح، الفارق بين التايمز والديلى تلجراف فى الصحف البريطانية أو الفارق بين واشنطن بوست ونيويورك تايمز فى الصحف الأمريكية هو الروح.
وعندما تسأل عن مهمة رئيس التحرير فهو المايسترو الذى يضبط الإيقاع، ويترجم الحياة والأخبار والحوادث بتصوره وكيفية تفسيره.
مهمة رئيس التحرير أن يكون المايسترو، وليس بالضرورة أن يكون عازفا على آلة، مؤلفو الموسيقى الكبار من أمثال بيتهوفن، وهايدن، وشوبان وغيرهم، كل ما يسترو يقود فرقته لعزف مقطوعات لهم يختلف عن الآخر فى رؤيته للعمل، مايسترو يختلف عن مايسترو، وبالتالى النص واحد، واللحن واحد، لكن الروح التى يعكسها المايسترو على اللحن تعطيه مذاقا مختلفا، ولذلك فإن الفرق بين عصرين فى نفس الجريدة الواحدة، والفرق بين جريديتن فى عصر واحد، هو شخصية رئيس التحرير وطريقته فى العمل التى تنعكس على الجريدة كلها، وفهمه للعصر وللأحداث، والروح التى يعكسها على الجريدة.
والذى كان يحدث عندما كنت أكتب مقالى الأسبوعى " بصراحة" كانت لحظات عزف منفرد على البيانو، ثم أعود إلى مكانى فى الأوركسترا، مع بقية صفحات الجورنال، مع باقى المحررين، وهذه هى النظرة الشمولية، لأنه من غير الصحيح أننى كنت الكاتب الأوحد الذى يكتب الجورنال بمفرده، ويرمق وينظر إليه، على أنه الكاتب الأوحد، الذى كان يحدث أننى أكتب مقالا يوم الجمعة، وكاننى أعزف منفردا ومع تقليب بقية الصفحات تتداخل كل آلات الأوركسترا ويعود الجورنال كما كان.
كنت فى الأهرام مشغولا بترجمة عصرى وعالمى، وما يجرى فيه وأتوجه إلى قارئ مهتم بمعرفة ما يجرى فى العالم، وأنا أعتقد أن الخبر هو الأساس فى عمل الصحف فى العصر الحديث، لأن الصحافة فى بدايتها كانت تشمل الأدب والفلسفة، ثم أصبحت مهمة الصحافة الأولى هى الخبر وما يتصل بالخبر، وترجمة الخبر وإيضاح معناه، بشرط أن يكون الخبر صحيحا، وأن يترجم بتفاصيله وحواشيه وما ينطوى عليه، ثم على الصحيفة أن تقوم بمهمة التفسير والتعليق على الخبر، وهذا ما كنت أفعله فى الأهرام.
(10)
بعد خروجى من الأهرام طاردنى سؤال عن الجريدة التى صارت باهتة ومهذبة جدا.
كنت أقول لهم ربما يكون هذا هو السؤال الوحيد الذى لن أجيب عليه، فبينى وبين الأهرام رباطا قويا جدا شئت أم أبيت.
عندما خرجت من الأهرام كنت قد قضيت فيها ما يقرب من 18 سنة، وقتها كانت هذه السنوات تمثل سدس عمر الأهرام، وفى هذه الفترة قمنا فى الأهرام صحافيا وإعلاميا ووطنيا وعربيا بدور أنا شخصيا راض عنه وسعيد به، واعتقد أن خروجى من الأهرام أضاف لهذا الدور ولم يأخذ منه، لأنه أثبت أمام كل الناس أنه ليس موضوع تكنولوجيا أو صلات بالسلطة أو موضوع تأثير، لكنه فى النهاية موضوع قناعات.
لذلك أنا أحزن جدا وأتضايق، إذا تكلم أحد عن الأهرام بما لا يليق، وأتمنى إذا كان هناك من أوجه تقصير أن تتجاوزها الأهرام.
فما يقال عن الأهرام لا يمسنى فقط، إنه أنا.
أرى نفسى فى حجارته كلها.
كل لوحة على جدارنه أنا الذى وضعتها فى مكانها.
كل ماكينة فى كل مكتب مررت بجوارها
لقد سكنت الأهرام الروح ولم تغادرها أبدا.