الأربعاء 26 يونيو 2024

أن تعیش لتكتب

فن21-10-2020 | 12:52

لن تكتب.

قالھا قاطعة ثم صمت.

كانت النظارة تغطي عینیه بشكل متواطئ، كأنھما اتحدتا معاً،ونظرة غلٍ خفیفة تكاد تنطق، ربما سخریة ربما بعض الغیظ لأنني أنیق وأملك كل تلك المساحات الشاسعة من الكلام.

ظلت ملامح وجهه مصرة على جملته، كنت أحكي وسط مجموعة متنافرة من الأصدقاء، كل واحد أتى برفیق معه ، كنت أحكي بتدفق حكایات عجیبة وغریبة دخل جلھا فیما بعد إلى روایتي الأولى ألعاب الھوى، لا تعرف ھل الحكایة أم طریقتي في الحكي ھي من رمت السحر بینھم، ما أتذكره أنھم كانوا مأخوذین.

قال أكثر من واحد: لماذا لا تكتب؟

قلت : أخشى أنني أفرغ طاقتي في الحكي، والحكي المستمر.

لكن صاحبنا رد قائلاً: لا، ھذا لیس صحیحاً، لن تكتب.

حین كتبت مجموعتي القصصیة الأولى"خلف النھایة بقلیل" حرثت الأرض بحثاً عنه، بحثت عنه أكثر حین خرجت ألعاب الھوى،كأنني أرید أن أرمي أمامه الفرق بین الحكایة والسرد، ھأنذا أكتب، لم أعثر علیه، قیل إنه ھاجر وأن أباه مات.

كان شاعراً بقصائد محدودة، یكتب سرداً طول النص ثم ینھي القصیدة بمفارقة بصوت عالٍ یستجلب التصفیق.

تعلمت منه أن أتّبع روحي وألا أغرق في ھذه الخفة مھما كان صداھا عالیاً في نفس اللحظة.

كنت مشغولاً بـ"ریتسوس"، بالجملة التي یكتبھا "غسان شربل"تحدیداً.

حین أتذكر متى كتبت، یخطر على بالي "بلند الحیدري" بأناقته شكلاً وروحاً، كان یحكي لي عن لحظة الھذیان المروع التي تدھمه لحظة ولادة القصیدة، كنت ومازلت أستشعر تلك اللحظة أو أوھم نفسي بحضورھا عند الكتابة، أعرف تماماً أن الحفر في الكتابة السردیة سوف یركل ھذه الجملة، لكن لا بأس، كنت أسوق سیارتي أو أمشي في شوارع القاھرة على قدم ونصف القدم، القصة تتقافز في رأسي، أوقف سیارتي كیفما اتفق وأعرج على أقرب مقھى لألقي بصیدي وأتلقى العطایا.

حدث ذلك بالضبط عند أول قصة، كنت أمشي وأمشي حتى اختمرت أو ظننت أنھا كذلك، دخلت إلى أقرب مقھى، القلم في جیبي، وعند أول ورقة یابسة لدى النادل كتبتھا.

كتبتھا.

ورحت أغني كالمجنون في الشارع.

وكرت الحكایة.

كان البساطي رقیق الحاشیة رغم صراحته الشدیدة، بحث عن ھاتفي ،اتصل بي وقال : حین قرأت قصة "المدینة" قفزت من فوق الكرسي.

كان المشھد مزدحماً، ونبي الحساسیة الجدیدة إدوارد الخراط یلقي بیانات ثورته قبل سطوع ثورة الخمیني، من عبر هذه النوعیة إلى القصة القصیرة وغیرھما ، كان زعیماً بمریدین وغوانٍ، وكان تعبیره الأثیر في صدارة كل ندوة عرامة الاحتشاد، لم أجد لي بینھم موطئ قدم ولا ذھبت، كنت خائفاً من تلك الحشود التي تمنحك الاعتراف، لا قِبَل لي بالحشود التي تزأر تحت رایة زعیم،إما أن أكون زعیماً أو مغنیاً، لا أملك شجاعة الجلوس بین مریدي زعیم، لكن النصوص التي ساقها المصطلح لم توف الفكرة حقھا،ھنا ظھرت قصصي القصیرة جداً أو القصیدة كما قال إدوار خلف تورجنیف "وإن لم یعترف بھذا".

قرأ إدوار قصصي وحده، وكتب عنھا وحدھا، كتابة محبة حتى ولو شابھا التقتیر، وملأني الزھو من استقبال النصوص ورحت أتخیل أنني مثل "یوزیبیو" لاعب بنفیكا والبرتغال الشھیر، رحت أتخیل عنواناً مثل العنوان الذي كتب في البابیس الإسبانیة یوم سحق بنفیكا ریال مدرید في عزه بتشكیلة عمادھا بوشكاش ودیستیفانو وھیدیكوتي وخنتو: إیوزیبیو : أنت وحش ، ورحت أتخیل العنوان: وحید الطویلة ، أنت وحش.

كان موعد معرض الكتاب قد اقترب، وحین نوقشت المجموعة كان ھناك إلیاس لحود وعبد المنعم رمضان، أذكر أن إلیاس قال وقتھا إن خلف النھایة بقلیل تولد بدایة جدیدة، وقال رفعت سلام إن نھایات القصص تشبه  نھایات "ریتسوس"، وصدرت نشرة معرض الكتاب بعنوان یغیظ یوزیبیو وإدوار نفسه:  وحید الطویلة یحقق إبداع القصة القصیدة.

فرحت لدقیقة، لكن الرعب ضرب مفاصل الكتابة عندي بقیة الوقت، ورحت أبحث عن عرامة الاحتشاد.

ودخلت زھرة البستان.

ھناك أماكن في القاھرة یصعب علیك أن تدخلھا وحدك رغم أن أبوابھا مفتوحة مثل بار الجریون، ستسمع من آحاد أن العیون تكاد تخترقك وأنت داخل، لا تعرف لماذا! عیون متلصصة تشكو من عملاء الأمن طول الوقت، لذا تمارس نفس الفعل، عیون مقتحمة إلى ما تحت طبقة الثیاب الداخلیة وربما خائفة.

لكن مقھى زھرة البستان مفتوح الأبواب، وإن كان مقفل القلوب،كتاب یأكلون بعضھم ویأكلون البعید، ھنالك نظریة غیر مكتوبة تقول إن الكاتب الذي یذھب إلى دول الخلیج یجب شطبه فوراً من اللائحة المبجلة للمبدعین، لكن لو ذھب لكندا أو فرنسا فھو مبدع وثائر.

ما علینا، دخلت بعد كتابة بعض القصص، كان لا بد من مراسم التعمید، قال لي "وفیق الفرماوي" وھو قاص حاذق وشخص ماكر یرى نفسه أفضل من تشیخوف: حین سألت عنك قالوا "واحد عاوز یبقى كاتب".

لم تكن ھناك كراسٍ خالیة جنب المبدعین إلا للمبدعین أو عُبّادھم،وبعد القصة القصیرة وجدت مقعداً خالیاً لي.

كنت أخرج من الجامعة العربیة القریبة حیث أعمل للمقھى وسیماً أنیقاً، مفرطاً فیھا -لاحظ نرجسیتي- بلغة أنیقة، أناقتھا لا تجرح وحشیتھا ولا بعض الشر الضروري جداً للكتابة، قال "آدم فتحي"الشاعر والمثقف التونسي والمھذب دوماً- وھو یمسك بـ"خلف النھایة بقلیل": لماذا لا تعترف أنك تكتب قصیدة النثر.

قلت وأنا أبتسم: أعترف.. أعترف تماماً.

لم أعرف ساعتھا إن كان مدحاً أم ذماً، قلت لنفسي: ھذه القصص حالة أعیشھا، أتنفسھا وھي حظي من الكتابة، حظ طیب، لا تتركھا یا بن الطویلة لأنك لو فعلت لن تعود إلیھا، ولن تعود إلیك.

ھذه القصص تشبھني، ھي أكثر ما یشبھني.الآن لم أعد أكتبھا إلا في الأحلام، ولا أعرف إن كنت أقنعت أو أوھمت نفسي بذلك، أو أنني طردت الحب الطاھر الصافي فاستعصى عليَ، لكن القصص تبدو لي دوماً طفلاً بكراً مشاكساً وشجاعا، ربما علمتني الجرأة على اللغة.

أكْتب وأنت واقف.

جملة أعلقھا على كتفي منذ كتبت المجموعة الأولى، أكتب جملة قصیرة كي ألحق بالوحي، كي لا تؤلمني قدماي، أو لأنني – وھذا ھو الأرجح- أرى العالم والجمال على تلك الشاكلة، أكتب أحیاناً بعجلة كأنه یملى عليَ، صادفت ھذا العام أن ھیمنجواي قالھا یوماً،نعم أكتب وأنا واقف من یومھا، لیست لدي جملة طویلة حسبما

أتذكر، حتى في باب اللیل روایتي الأخیرة كنت أستشعر أن خلف النھایة بقلیل حاضرة لأول مرة منذ زمن أمامي، كنت قد نسیتھا تماماً، لكن بعد فترة اكتشفت أن الجملة حاضرة بقوة.

سأدعي- وھذه نرجسیة أخرى- أنني أكتب كل كتاب بطریقة مختلفةعن سابقه، وأن مجدي ھو شجاعتي في رمي ما بزغت فیه – لكن جملة تلك القصص كانت حاضرة في روایتي"باب اللیل"، وإن بطریقة أخرى، كان سؤالي: كیف تصنع نصاً سردیاً بنفس شعر بدون أن تعطل السرد.

الشاعر محمد عید إبراھیم الذي أحب باب اللیل یقول دائماً: إنني أستطیع أن أستخرج لك مقاطع كاملة من الروایة كقصیدة نثر.

 

ربما لا ظل نھائیاً للمجموعة في الروایة، وإنني بھذیاني من أدعي ھذا، لكنني كتبت واقفاً في الاثنتین وفي غیرھما، الفارق أنني بعد خلف النھایة وبعد باب اللیل كنت أغني بمزاج عالٍ.

كان یحیى الطاھر عبد الله یحفظ قصصه ویغنیھا، وأنا أفعل مثله وأغنیھا، بالإضافة إلى أنني مغنٍ بالأساس، "وأنت الأساس كما یقول زیاد وفیروز"، یبدو أن جرعة الحقد لم تكن كافیة لتنتشر ھذه المیزة عني في البدایة، لكنني حین أقرأ قصص ھذه المجموعة على جمع في ندوة أتحول لشاعر یصعد بقصته القصیدة إلى الأعالي- لاحظ أن النرجسیة اكتملت- أقرأ كنبي وشیطان وعازف، أقرأ وأنا أستحضر ألعاب "فیللیني" حین كان یصعد للمسرح فینسىخ جله.

ھل للكتاب الأول طعم الحب الأول؟ تلوذ بذكراه كلما تقلبت علیك القصص والكتب، أم أن الأمر مختلف في الكتابة یتطلب حباً أروع من سابقیه یستوجب دفن القصص القدیمة وإن داومت على نفس طرق الغزل؟

أفكر أحیاناً أن أطلب من أخي المغني أن یدفن مجموعتي الأولى وروایتيْ "ألعاب الھوى" و"باب اللیل" معي - لولا خشیتي أن یحرق السلفیون الذین زاد عددھم على نصف تعداد القریة – قبري. استعنت بأسماء حقیقیة لبشر في قریتي حتى ولو كانت الحكایة بعیدة عنھم، وكتبت عن شخصیات أخرى حقیقیة بأسماء حقیقیة أخرى، كانوا كلھم من الغلابة المحملین بأشواق أو كوابیس، بعضھم كان یحمل الشیطان على ظھره في وضح النھار وبعضھم لا ینتظر من الدنیا سوى كسرة خبز وبعض حنان، لم یكن من بینھم العمدة ولا سعادة وكیل النیابة ولا زوجة المأمور.

تقدمت أمي التي كانت أول امرأة في منطقتنا تدون اسمھا في قوائم الاتحاد الاشتراكي في عز أیامه، ولدیھا صورة شھیرة معلقة في غرفة الضیوف مع رئیس مجلس الشعب الذي اتخذ دائرتنا مكانا له لیقفز على السلطة، تقدمت أمي وأنا جالس وسط خمسین واحداًعلى الأقل ووجھت الكلام لي بلھجة زاجرة: یا بني اكتب عن أناس محترمین.

    الاكثر قراءة