الثلاثاء 11 يونيو 2024

الإسكندرية.. كوزموبليتان المتوسط

فن21-10-2020 | 15:02

يرى المؤرخون أن سبب اختيار الإسكندر  لتلك البقعة من اليابسة التى تفصل البحر المتوسط عن بحيرة مريوط لإنشاء مدينة عظمى على أحدث الطرز آنذاك، لكى تحمل اسمه وتخلد ذكراه وفى الوقت ذاته تكون ميناء يخدم التجارة الدولية، فكانت ولاتزال مدينة الإسكندرية، واستهدى الإسكندر بتوجيه معلمه الروحى هوميروس فى ملحمة "الأوديسة"، حيث ذهب "تليماك" ابن "أودسيوس" ملك إيثاكا، إلى مينيلاوس ملك إسبرطة، يسأله إن كان يعرف شيئا عن مصير والده المختفي، فحكى مينيلاوس عن أهوال الحرب وشجاعة ملك إيثاكا وجيشه المفقود، وأنه بعدما أضنى التعب جيوشهم، بلغوا شواطئ مصر، عند جزيرة فاروس، وهناك كما يقول ملك إسبرطة: "ارتوينا من كوثر هذه البلاد التى تجرى من تحتها الأنهار".

بدأ العمل على إنشاء الإسكندرية على يد الإسكندر الأكبر سنة 332 ق.م عن طريق ردم جزء من المياه يفصل بين جزيرة ممتدة أمام الساحل الرئيسى تدعى "فاروس" بها ميناء عتيق، وقرية صغيرة تدعى "راكتوس" أو "راقودة" يحيط بها قرى صغيرة أخرى تنتشر كذلك ما بين البحر وبحيرة مريوط، واتخذها الإسكندر الأكبر وخلفاؤه عاصمة لمصر لما يقارب ألف سنة، اشتهرت الإسكندرية عبر التاريخ من خلال العديد من المعالم مثل مكتبة الإسكندرية القديمة والتى كانت تضم ما يزيد على 700,000 مجلّد، ومنارة الإسكندرية والتى اعتبرت من عجائب الدنيا السبع، وذلك لارتفاعها الهائل الذى كان يصل إلى نحو 120 مترًا، وظلت هذه المنارة قائمة حتى دمرها زلزال قوى سنة 1307.

بموقعها على البحر ظلت الإسكندرية مختلفة عن بقية مدن المحروسة، فهى واجهة مصر على المتوسط، ومنذ تولى محمد على الحكم وخلال المائة وخمسين سنة التالية كانت الإسكندرية أهم ميناء فى البحر المتوسط ومركزًا مهمًا للتجارة الخارجية ومقرًا لسكان متعددى الأعراق واللغات والثقافات، وتحت حكم خلفاء محمد على استمرت الإسكندرية فى النمو الاقتصادي، فشهدت فى عهد الخديو إسماعيل تحديدًا اهتمامًا يُشابه الاهتمام الذى أولاه لتخطيط مدينة القاهرة، فأنشأ بها الشوارع والأحياء الجديدة وتمت إنارة الأحياء والشوارع بغاز المصابيح بواسطة شركة أجنبية، وأنشئت بها جهة خاصة للاعتناء بتنظيم شوارعها وللقيام بأعمال النظافة والصحة والصيانة فيها، ووضعت شبكة للصرف الصحى وتصريف مياه الأمطار، وتم رصف الكثير من شوارع المدينة، وقامت إحدى الشركات الأوروبية بتوصيل المياه العذبة من منطقة المحمودية إلى المدينة وتوزيعها بواسطة "وابور مياه" الإسكندرية، وأنشئت فى المدينة مبانى ضخمة وعمارات سكنية فخمة فى عدد من الأحياء كمنطقة محطة الرمل وكورنيش بحرى.

تعرضت الإسكندرية خلال  العصر الحديث إلى الكثير من الأحداث وخاصة عند بداية الاحتلال البريطانى لمصر، حيث قام الأسطول البريطانى بقصف المدينة لمدة يومين متواصلين حتى استسلمت المدينة معلنةً بداية الاحتلال البريطانى لمصر والذى دام لسبعين عامًا، وتحت الاحتلال البريطانى زاد عدد الأجانب وخاصة اليونانيين الذين أصبحوا يمثلون مركزًا ثقافيًا وماليًا مهمًا فى المدينة، وتحولت الإسكندرية وقناة السويس إلى مواقع استراتيجية مهمة للقوات البريطانية.

لظروف كثيرة أهمها الحروب قلت أعداد الأجانب فى الإسكندرية بعد أن عايش المصريون أصحاب المعتقدات الدينية المتباينة، جنبًا إلى جنب مع الأجانب الذين وفدوا من مختلف دول أوروبا، وبخاصة إيطاليا واليونان فهنا امتزج الجميع على شاطئ عروس البحرالأبيض المتوسط، فكان مولد مصطلح "الكوزموبوليتانية" الذى يعنى العالمية أو الكونية.

ومع العدوان السياسى وتكرار الحروب واشتعال المنطقة باع الأجانب ممتلكاتهم وتغيرت معظم أنشطة المحلات التى كانوا يديرونها، وبخاصة الملاهى والبارات التى كانت من معالم الإسكندرية البارزة، بعدما صعد إلى السطح وسيطر خطاب دينى محافظ، وخاصة فى حقبة نهاية السبعينيات وتنامى الظاهرة الإسلامية، ومنافسة الدولة للجماعات الإسلامية فى تشددها وغلوها، ابتغاء حيازة رضا الناس ولعبًا على عصب التدين الشديد الحساسية حتى حدثت الكارثة فى نتيجة انتخابات البرلمان التى تم إجراؤها فى أواخر 2011، بعد أشهر من اندلاع أحداث 25 يناير، كما يقول الباحث أحمد مدحت لجريدة "السفير" عام 2015، حيث اكتسح التيار الدينى، خاصة جناحه السلفى المتمثل فى "حزب النور"، أغلب مقاعد المحافظة التى تم طرحها للتنافس الانتخابى عبر صناديق الاقتراع، وسيطر على أغلبيتها.. بدا للجميع وكأن مدينة الرب، منارة الحضارة والتنوير، قد اختارت من يريدون دفع المجتمع بأكمله إلى الوراء، لتضعهم فى سدة البرلمان، حيث يمكنهم إعادة صياغة القوانين والتشريعات تبعًا لما يناسب رؤيتهم المتشددة للإسلام كأيديولوجيا حاكمة. وإذا كانت النتيجة مفاجأة للمتابعين والخبراء، وهم الذين احتفظوا فى مخيلتهم بصورة نمطية للإسكندرية تنتمى لعصور مضت وانتهت، إلا أن أبناء الإسكندرية، الساكنين فيها، والباحثين المتفاعلين مع الواقع السكندرى المعاصر، نظروا لما يحدث على أنه النتيجة الطبيعية للعديد من عوامل التغيير الثقافى والاجتماعى والاقتصادى التى تعرضت لها المدينة التى فاضت أحياؤها القديمة بسكانها، وبمن هاجروا إليها من الوادى والدلتا وخاصة صعيد مصر، فخرجوا إلى الأطراف يشترون الأراضى الزراعية من فلاحيها فتعرضت الأرض للتبوير الذى يؤهلها لأن تصبح جاهزة لأن تبنى عليها كتلة خرسانية، فتعددت العشوائيات الجديدة وتمددت وصارت واقعًا يفرض نفسه، والآن تشهد المدينة تنوعًا من صنف جديد من التنوع بعد أن صارت التركيبة السكانية والاجتماعية للمدينة خارج أى إطار.

فترة طويلة مرت على المرض الذى تمكن من تلك المدينة التى خرج منها عظماء فى كل المجلات مثل توفيق الحكيم، حسن فتحى، قسطنطين كفافيس، سيد درويش، عمر الشريف، فاطمة رشدى، يوسف شاهين، هند رستم، جلال عامر، والقائمة ممتدة وكبيرة.

لدى يقين أن إعادة الاسكندرية لبريقها ومعالجة الأمراض التى تمكنت منها عبر عقود ماضية من أولويات الرئيس عبد الفتاح السيسى الذى دائمًا يوجه بمواصلة عملية التطوير الشامل للمحافظة فى إطار تصميم عالمى يتسق مع مكانتها وقيمتها، ويتابع الجهود التى تقوم بها الحكومة  لرفع كفاءة الخدمات المقدمة بها واستعادة الوجه الحضارى لعروس البحر بما يسهم فى إعادة إحياء السياحة الشاطئية والتاريخية بالإسكندرية وبدأت ثمار توجيهات الرئيس تأتى ثمارها مؤخرًا فى عودة البريق للشاطئ الممتد بعرض المدينة، لكن الرئيس يريد تنمية تدخل عمق الإسكندرية وتفتت عشوائياتها وتنقل مواطنيها كما فعلت الدولة فى تجربتها بالقاهرة، وأعتقد أن محافظ الإسكندرية الذى كلفه الرئيس ليكون على رأس العاصمة الثانية لمصر، سيتمكن من إعادة الاسكندرية إلى بريقها على شاطئ المتوسط لما يمتلكه من خبرات وطنية والاستقامة الشخصية والنزاهة المشهود بها، والقدرة على التفكير المنهجى المنظم والتفكير الاستراتيجى وإنتاج الأفكار والحلول والمبادرات وامتلاك رؤية مستقبلية واضحة وجادة فى مجالات الشأن العام والانفتاح والتواصل مع أبناء مجتمعه من جميع الطوائف، وامتلاك قاعدة علاقات عامة متنوعة وامتلاك عقل وفكر سياسى ولديه القدرات الإدارية والقيادية القادرة على حُسن إدارة واستثمار الموارد المتاحة من البشر والأموال والمعرفة.