مدينة الإسكندر وعاصمته ، ومنارة العلم القديمة مدينة الثقافات المتعددة ،
قاطرة الثقافة المصرية المعاصرة ، وموطئ طليعتها من الفنانين والأدباء مصدر
الإلهام ، ومورد الأفكار ، وباعثة الأحلام ، إنها الإسكندرية الحلم الذى مازلت
أحياه ، منذ أن تنفستُ عبيرها للمرة الأولى فى أغسطس 1989 ، حين وفدت إليها طالبا
للفن ، مستجدا ضمن مئات آخرين ، فوجدتنى مبهورا ، ولم تتوقف تلك الجميلة يوما عن
إبهارى ، فقد احتضنتنى حابياّ فى شوارعها أتحسس التاريخ التابع فى كل بقعة من
أرضها ، وعلى كل حائط من مبانيها، ثم استوعبتنى ساعيا فى مسالكها الثقافية ، مشدوها
بنور المعرفة الصادر من قلبها أو بالأحرى قلوبها النابضة بالمعرفة والإبداع ، ثم
وجدتنى مهرولا فى طريقى حاملا سماتها موشحا باسمها أو صفتها كسكندرى من أبنائها ،
ودائما لا أحتمل البعد عنها أكثر من أيام معدودة فهى المدينة الساحرة ، المدينة الرائقة
، والشعب الطيب الهادئ ذو المزاج الخاص جدا ، بها من السحر ما يستعصى على الاستيعاب
شريطة أن تؤمن بها كمنارة لا تنطفئ ، ومع ذلك لا أدرى إلى متى تستطيع الجميلة أن
تصمد ، إلى متى تستطيع أن تحفظ لنفسها ذلك العمق الخاص ، أمام ما تتعرض له من
أزمات ، ولا أقصد هنا أزماتها التى يصنعها التجاهل لهويتها الخاصة ، ودورها
المفقود كعاصمة تاريخية للعلوم والثقافة فى العالم ، دورها كقائدة للتنوير فيه، فهى من كانت
عاصمته ومركزه العلمى والثقافى، منها تطورت الفلسفة وبها تقدمت العلوم وفى شوارعها
سالت الدماء دفاعا عن حرية العقل البشرى ، وهى المدينة التى استطاعت أن تحتوى
ثقافات البحر المتوسط جميعها فى سنواتها الكوزموبوليتانية ، وهى المدينة التى حملت
راية الإبداع فمنها خرج محمود بك سعيد ومحمد بك ناجى والأخوان وانلى ، ومحمد حامد
عويس ومن تلاهم من أجيال المصورين الذين كان لهم الفضل فى وضع مصر على المسار
الفنى عالمياً بعد انقطاع عن ثقافة الصورة لمدة تزيد عن الألفى عام ، ومنها خرج
الطليعيون من الأدباء والشعراء والمسرحيين وأيضاً رواد السينما ، وفيها تم أول عرض
سينمائى فى مصر فى ذات العام الذى اخترعت فيه فى أوروبا .
الإسكندرية الجميلة قاطرة الثقافة والتنوير فى مصر والعالم يقتلها الإهمال
وسوء الإدارة فتضيق بمبدعيها الحقيقيين ، ويدفعهم دفعاّ إما إلى هجرتها لأضواء
العاصمة ، أو للتناحر والتصارع على ما هو متاح من محدود الفرص وسبل التقدم
والتقديم ، فى غياب واضح لموضع مستحق لمؤسساتها الثقافية فى السياسات الثقافية
للدولة المصرية - هذا إن وجدت من الأساس -، وعلى الرغم من وجود بنية ثقافية متميزة
إلا أنها لا تفعل لأسباب أهمها غياب الإيمان بخصوصية الثقافة السكندرية ، وأيضا
سوء الإدارة ومركزيتها وتركزها فى العاصمة وكأن مصر كلها تختزل فى القاهرة ، فكل
حدث مهم ، أو دعم ملحوظ ، أو مبادرة لابد لها أن تولد فى القاهرة ، وعلى المقيمين
خارجها اعتبار أنفسهم من التابعين أو المهمشين ، أيها السادة ليس استجداء من أحد
ولا طلبا فى غير محله ،أعطوا الإسكندرية مكانتها التى تليق ،فعلوا مؤسساتها
الثقافية ، أضيئوا قناديلها ، واسكبوا الزيت فى مصابيحها ، قدروا مبدعيها ، وارعوا
نشأتها حتى تعود عاصمة الثقافة ، ومركز النور كما كانت ، حتى يستمر حلم محبيها .