الجمعة 3 مايو 2024

نانسي إبراهيم تكتب: سحر الخرافة بين الكتابة الروائية والتقنية السينمائية.. في رواية «الفيل الأزرق»

فن21-10-2020 | 22:22


للخرافة سحر خاص، يجذب العامة والخاصة، الكبار والصغار، العَالِم والأُمي، نحو عالم خفيّ لا يمكننا الوصول إليه، أو معرفة أسراره كاملة. فهي مادةٌ خصبةٌ، مُهَيّأَةٌ سَلَفًا لسحر الحكايا التي لا تخضع لثوابتنا العلمية والمنطقية، بل وللخيال المألوف في كتابة الرواية. لقد جذبت الخرافة مخيلة الروائيين؛ حيث توفر لهم الكثير من عناصر الدهشة والإيهام القابل للتصديق، لا سيّما إذا كُتِبَتْ عبر سرد محكم، وشخوص مرسومة بدقة وعناية، وأحداث يُسلم كل منها إلى الآخر بصورة ديناميكية. 


وهذا ما فعله أحمد مراد في روايته "الفيل الأزرق"، الصادرة عن دار الشروق عام ٢٠١٢، في أربعمائة واثنتين وأربعين صفحة من قطع روايات الجيب، والتي توالت طبعاتها، كما تم تحويلها إلى عمل سينمائي يحمل العنوان ذاته في جزأين. غير أن الجزء الثاني لم يكن مسبوقًا برواية أخرى، لذا فسوف أكتفي بالحديث عن العمل ذي الأصل الروائي، حيث وصلت الرواية إلى القائمة القصيرة للبوكر عام ٢٠١٤، بعد عدة روايات للكاتب. فمن المعروف أنه كتب روايته الأولى "فيرتيجو" عام ٢٠٠٧، ثم "تراب الماس"، ثم "١٩١٩"، وكذلك "أرض الإله"، و"موسم صيد الغزلان"، ومؤخرًا "لوكاندة بير الوطاويط"، التي صدرت قبل شهر واحد فقط.


يقول بوفون: "الأسلوب هو الرجل نفسه"، ونستطيع أن نتلمس الأسلوب المميز للكاتب عبر نسيج سرده السينمائي، واتكائه على كثير من العناصر التي جعلت رواياته من أكثر الروايات مبيعًا،  رغم تفاوت لغة السرد ومستوياته التقنية والكتابية.


يدخلنا أحمد مراد عالم روايته الخفيّ عبر عنوان لا يحمل مدلولًا واضحًا عن موضوع وفكرة الرواية، حيث تدور أحداث الرواية في عالم البرزخ بين الحقيقة والخيال، بين الجائز والممكن والمحتمل، وبكثيرٍ من الغموض يغوص في أعماق العوالم الغيبية والنفسية، من خلال شخصية الدكتور "يحيى راشد"، الذي يعود إلى العمل في مستشفى العباسية بعد مرور خمس سنوات على وفاة زوجته وابنته في حادث سيارة كان يقودها، ما دفعه إلى الانعزال وإهمال رسالته الأكاديمية وإدمان الكحوليات، حتى وصله إنذار من مقر عمله، وبعد مفاوضات مع رئيسته بالعمل "الدكتورة صفاء" يستقر الأمر على عودته للعمل في قسم "٨ غرب". 


وهو القسم الذي يضم مرتكبي الجرائم في شبهة خللٍ نفسيٍّ ما. تلك البداية سبقتها ظلال بعض الأحداث والشخوص تمهيدًا لما سوف تحمله الصفحات التالية، كعلاقته بصديقته "مايا"، مرورًا بالسائق الذي يحمل إليه بصورة عابرة خبر سرقة المتحف الإسلامي، ومرورًا كذلك بـ "عم سيّد"، أشهر مرضى المستشفى، وهو ترزيٌّ عتيقٌ، تخطّى العقد السابع، ولا يذكر أحدٌ تاريخًا لدخوله، في حوار غامض وجملة ستحمل الكثير من الأحداث لاحقًا: "هو عارف أنك هترجع.. مكتوب نتقابل عند الشجرة!".


عند تَسَلُّمه عمله في قسم "٨ غرب" تظهر مفاجأة تقلب حياته رأسًا على عقب، إذْ يجد صديقه الدكتور "شريف الكردي" مُتَّهَمًا في جريمة قتل زوجته بأن ألقاها من الطابق الثلاثين، فتبدأ الأحداث في التصاعد، حيث رحلة  الغموض والكشف يسيران على نَحْوٍ مُتَوَازٍ، وتتجمع كقطع البازل المتناثرة، ليكتمل المشهد عبر عوالم غرائبية وأحداث لا متناهية. فشريف هو شقيق "لُبنى"، حبيبة يحيى السابقة التي تزوجت بآخر، وسيتمُّ اللقاء بينهما مُجَدَّدًا في ذلك الموقف الدرامي، ثُمَّ تتوالى الأحداث إلى أن يتم توصيف حالة شريف بحالة من حالات الاضطراب النفسي، ما بين "الشيزوفرينيا" أو "السكيزوفرينيا"، وتستمر حتى يرى يحيى - بواسطة ملابسات غرائبية - صورًا لصديقه مع زوجته (بسمة/القتيلة)، في حالة من الساديّة الجنسية، المصحوبة بتعذيب وحشي بآلة حادة في انتشاء واستعراض.


ثم تبدأ جدليّة الغياب والحضور بين عالميْن متوازييْن ومتناقضيْن في جسد واحد يتصارع داخله (عالم سفلي/ وآخر علوي)، حتى يتبين لـ "يحيى راشد" أن من قام بهذا الفعل الذي أدى إلى جريمة القتل ليس صديقه شريف، بل شيطان يسكن جسد صديق له يُدْعَى "نائل". 


وبعد رحلة طويلة من الأحداث المشوقة والمثيرة، والحوارات المكتوبة بحرفية وإتقان، يعلم يحيى أن زوجة شريف كانت قد رَسَمَتْ وَشْمًا (تاتو) تسعى به للتقرب من زوجها، دون علم منها أن هذا الطلسم النجس يَسْتَدْعي جِنِّيَّا يحل في جسد الزوج فينكح زوجته من خلاله دون علم منه، لكن في علم تام من راسمة الوشم "ديجا" التي تستطيع وحدها صرفه بعد ذلك عن طريق (عزيمة) تضعها في فم كلب أسود، تقتله بنفسها بالسُّم بعد أن يتم القرب بين الزوجين وإزاحة حالة البرود والفتور بينهما، غير أن الكلب قد مات في هذه المرة من تلقاء نفسه، حتى أدركت أن هذا النوع من الجن نوع غريب، يحل ولا ينصرف.


تستمر لعبة فك الشفرات بعد مقتل "مايا" عشيقة يحيى، التي يحمل جسدها وَشْمًا آخر بعد علاقة جنسية معه تشبه علاقة شريف بزوجته، ما أدى إلى انهيارها تحت عجلات سيارة بعد هروبها من منزل يحيى، بعدما أهدته في بداية ليلتهما قُرْصًا مُخَدِّرًا يُغَيِّبُه عن العالم المحيط في رحلة إلى العالم الآخر، حيث يفرز في المخ مادة "DMT" ثنائي ميثيل تريبتامين". 


وهي التي يفرزها جسد الإنسان عند الموت، "أخرجت مايا من حقيبتها علبة شفافة صغيرة، التقطت منها قُرْصًا بلون العاج، وعليه رسم لفيل أزرق بأربع أذرع، رافعًا خرطومه إلى أعلى"، وكان هذا أول ربط بين عنوان الرواية (الفيل الأزرق) وأحداثها في صفحة ١٩٤، حيث ندرك أثر العنوان مع كل رحلة ليحيى بعد كل قرص ينقله إلى العالم الآخر في رحلة الكشف، بحبكة مقبولة دراميًّا، تجمع فسيفساءات الصورة عبر مشاهد سينمائية وسرد محكم.


بين السينما والرواية


ثمة علاقة مشتركة ما بين العالم الروائي والسينمائي، فكلاهما يُلهم الآخر ويستمد منه، حيث ترسم الرواية الفكرة والشخوص والأماكن والأحداث لُغَةً، بينما تترجمها السينما إلى شريط مرئي، مع اختلاف آلية التناول، ومراعاة النقل لملاءمة الوسط الجديد Adaptation، الذي يلتزم بالخطوط العريضة لفكرة الرواية وأهم أحداثها وشخوصها، مع معالجة درامية باستخدام التقنيات السينمائية وإضافة المؤثرات البصرية والسمعية والتعبيرات المرئية وكتابة النص الوسيط (السيناريو والحوار)، وانتقاء الشخصيات بعناية، وكذلك أماكن التصوير، ما يشكل عوامل مهمة في نجاح العمل السينمائي أو إخفاقه.


مع عدة روايات لأحمد مراد لم يكن الأمر صعبًا، ولكنه – أيضًا – لم يكن سهلًا، إذْ قدم في رواياته الكثير من العناصر الملائمة للنقل السينمائي، فهو  يكتب بنفسه السيناريو والحوار، الذي لا يبتعد كثيرًا عن أحداث الرواية ولغتها، بل وصل الحوار في هذه الرواية إلى أكثر من تسع صفحات متتالية، تم نقلها جميعًا – حرفيًّا - داخل العمل السينمائي، كما تميزت روايته بمشهدية عالية، وتفصيلات خارجية وداخلية لشخوصها، ساعدته عليها قدرته التصويرية، فهو – في الأصل - خريج المعهد العالي للسينما قسم التصوير السينمائي، وله أفلام قصيرة نال عنها جوائز عدة في مهرجانات دولية بإنجلترا وفرنسا وأوكرانيا وإيطاليا.


أمّا عن الشخوص، فمنذ المقاربة الأولية بين الرواية والفيلم نستطيع الوصول إلى كل شخصية بمجرد رؤية ملامحها، وقبل الغوص في الأداء التمثيلي البارع لجميع المشاركين بالعمل، بداية من (كريم عبد العزيز/ يحيى راشد)، الذي يُبهر المتلقي دوما بتلقائية الأداء وبساطته المركبة كأجنحة فراشة متداخلة الألوان، والمارد العملاق (خالد الصاوي/ شريف - نائل) الذي استطاع أن يُجَسِّد عالميْن متوازييْن ومتناقضيْن في جسد ووجه واحد، بتفصيلات وتعبيرات عِدَّة، تمتد عبر الملامح والصوت والحس والجسد، ثُمَّ (نيللي كريم/ لُبنى) بملامحها الجميلة الهادئة وخفة حضورها في تجسيد دور امرأة تزوجت بشكل تقليدي، تحاول إقناع نفسها بمحبة زوجها (خالد) في عجز تام عن التعبير عما يدور بداخلها، أو المساهمة في حل مشكلة أخيها، مما يُعرف دراميًّا بالبطولة السلبية أو البطل/ اللا بطل، الذي يفتقر لمواصفات البطولة التقليدية من حضور فاعل.


أمّا الشخصيات الثانوية/ اللاثانوية فقد ساهمت في كثير من تنامي الأحداث، وكُتبت رُوَائِيًّا بدقة بالغة، وتُرجمت سينمائيًّا بشكل لا يقل جودة وبراعة: (مايا/ دارين حداد)، (ديجا/ شيرين رضا)، (د. صفاء/ لبلبة)، (د. سامح/ محمد ممدوح)، (عم سيد/ جميل برسوم)، وحتى العناكب والخنافس والكلب الأسود رُسمت كمفردات أساسية لا كمكملات للمشهد.


أمّا المؤثرات السمعية والبصرية فإن المايسترو مروان حامد – من خلال الإنتاج الضخم – استطاع ترجمة الخيال الصعب؛ ذلك لأن الخيال دومًا أكثر خصوبةً واتساعًا من الواقع، لا سيما حين يتصل بعوالم غامضة مثل السحر والجان، ولا بُدَّ حينئذٍ أن تتوفر لها عناصر الدهشة والإبهار حتى تحقق أثرًا يكسر التَّوَقُّع لجمهور ينتظر الكثير من عالم ما وراء الطبيعة. واستطاع أن يحوّلها عناصر مادية مرئية مسموعة عبر موسيقى هشام نزيه، التي تشبه دهشة عالم غيبي ينقر على السمع والوعي والنبض بوتيرة تشبه البصمة، إضافة إلى المؤثرات البصرية القادرة على الجذب والإبهار، بتقنيات الوقفة والتكرار والحذف، ودمج الواقعي بالمُتَخَيَّل في قالب فانتازي يواكب تقنيات السينما العالمية، ما جعل بعض المُتَلَقِّين يتحدثون عن احتمالية نقل – أو سرقة - فكرة الفيلم من الفيلم الأجنبيThe tattooist.


بين الواقع والخيال


ثمة أفكار لا يمكننا الحكم على صاحبها بالسرقة، لعموميتها واختزانها ضمن الوعي الجمعي، وإعادة إنتاجها في سياق وتوظيف جديد، دون حاجة لتوثيق مصادر النقل. ورغم ذلك فإن مراد قد وضع مصادره بين طيات روايته كخلفية للأحداث الواردة فيها، كثيرٌ منها من التراث العربي الذي أورده في نسيج عمله الدرامي، فمنها قصة مذكورة في كتاب (عجائب الآثار في التراجم والأخبار) للجبرتي، وتحديدا في أخبار ١١٩١ ه، تقترب من فكرة الرواية إبان حكم المماليك. 


وردت فقرة بعنوان (الشيخ صادومة)، تحكي أن أحد الأمراء اختلى بمحظيته فرأى على سوأتها كتابة، فسألها عن ذلك مُهَدِّدًا لها بالقتل، فأخبرته بأن الشيخ هو من قام بكتابة بعض التعاويذ ليقربها إلى سيدها، فقام الأمير بقتل الشيخ والجارية انتقامًا منهما. تلك القصة قد وردت صراحة في إحدى رحلات يحيى راشد نحو العالم الآخر، تحديدا صفحة ٢٦٣، عبر حوار دار بين راسمة الوشوم وجارية المأمون حين رسمت لها وشمًا على فخذها، واعدةً إياها بأن سيدها سيتقرب إليها، وأن ذلك الطلسم سيتصدى لعمل سُفلي، و"هيفُكّ عين أم الصبيان!".


أما فكرة الوشم (أو الطلاسم النجسة التي تستدعي الجان وتسخره) فقد وُجِدَتْ في حضارات عدة لدى المشعوذين والسحرة، في المغرب العربي وحضارات بلاد ما بين النهرين، ومن ضمنها السومرية والبابلية، إضافة إلى الفرعونية والجاهلية، بل وردت فكرة المعاشرة الجنسية بين الإنس والجن في العديد من كتب التراث، منها (شمس المعارف) وغيره،  تحت أسماء أخرى للجن مثل (ميمون النكاح)، وقصص استدعائه لذات الغرض للحلول في جسد الرجل يضاجع امرأته بقوته بدلًا عنه.


ولسنا بصدد التحقق من نسبة الحقيقة إلى الخرافة في تلك القصص، بل الوصول إلى مدى تأثيرها على المتلقي، ونسبة إيمانه واقتناعه بها، لا سيما أن القرآن الكريم والسيرة النبوية يعترفان بوجود الجن والسحر والمس، بل علاقة الإنس بالجن جنسيًّا، ففي تفسيره لقوله تعالى ﴿لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ﴾ الرحمن/٥٦، يقول ابن الجوزي: "فيه دليل على أن الجِنِّيَّ يغشى المرأة كالإنس"، بل التناكح ما بين الإنس والجن وإمكانية حدوث حمل كذلك.


يجمع أحمد مراد بعض التفصيلات، مضيفًا إليها حادثة (سرقة المتحف الإسلامي)، ومواصفات قميص المأمون المسروق، في قالب من التخييل والفانتازيا والعجائبية وعالم الأحلام والغريزة، وغيرها من عناصر الواقعية السحرية التي أشارت إليها "إيزابيل الليندي" في ذكرياتها (بلدي المخترع)، وغيرها من كتب الواقعية السحرية،  حيث كان عالم الخرافة هو المفتاح السحري لتفسير ما لم يستطع تفسيره الطب النفسي، في نسج دراميّ مُحْكَم، لا يغفل تلك الروح المرحة التي تطل علينا بين آنٍ وآخر، في أحداث تجمع ما بين الجريمة والميتافيزيقا، بينما أصبح الحُكْمُ الأخير مستندًا إلى قدرة الكاتب على ابتكار زاوية جديدة تجذب المتلقي، سواء كان من جمهور القراءة أو السينما أو كليهما.


نشر المقال بالتعاون مع مجلة عالم الكتاب - عدد 48 - سبتمبر 2020

    Dr.Randa
    Dr.Radwa