"المدنُ مثلُ الأحلام ، مكونةٌ من رغباتٍ ومخاوف" –
إيتالو كالفينو.
الإسكندريّةُ
إمبراطورةُ حُلمي .. وأنا عاشقُها المتوّجُ بالأحلامِ والقصائد !!
تعالوْا
جميعاً – شعراء وكتّاباً وفنّانين وعشّاقا ً – إلى حدائقِ قلبي المبدّدة الرياحين
، كُلّكم مدعوون حتّى انتهاء الزمان ، ولكُلّ واحدٍ منطادُ فرحٍ ، وقارورة عطر
الحياة ، لتشاهدوا .. وتعيشوا هذا الكرنفال الكونيّ الصاخب غير المسبوق ، في ذكرى
هذا اللقاء المخمليّ بالمدينة – الحُلم ، الأسكندريّة الغافية في سريرِ ذاكرتي
التي تقاومُ بهوائها .. وزرقةِ بحرها ..
ومواعيدِ عشّاقها الشيخوخة والنسيان ، وأُعلنُ ومعي كلّ شياطين شعري ، وتجاوزات
نثري ، من فوق تربتها الفسفورية ، أنّ ذاكرتي ليسَت شبيهة بذاكرة بورخس الّتي
تشبهُ النسيان ، وأن "الذاكرة ليسَت إلا عادات" – كما يُعبّر واتسن ..
وذاكرتي فائضة .. غارقة بالأحلام المتلوّة بيقظةٍ ، تتفتّحُ ورودها ، وهي تعيشُ
جمال هذهِ المدينة – المرأة الفاتنة ، وهي من صنع آلهةٍ ليلكيين ، مدينة الضوء ،
والريحان ، والربيع ، والمطر ، وكواكب البهجة الّتي لا تفقدُ بريقها أبدا ً.
أنا الشاعرُ .. عاشقُها المتوّجُ بانكسارات
الأزمان ، وغدر النساء ، وبُعدِ الأهلِ ومراوغة الكلمات ، وقسوة الوحي ، أعرفُ
أسرارَ جمالها الإلهي ، وسحرها وهي تعبثُ في صفحات التاريخ ، وقرائح الرواة ..وتعلنُ
أنّها ملكة جمال البحر بامتياز وأهيمُ في آيات هدوئها المخمليّ ، وأؤدّي صلاتي
الواجبة في شوارعها ، الّتي باتّساع قلب الله ، وميادينها وهي بمساحةِ أحلامي
،ومآذنها التي بعمق غابات إيماني وتنسكي .. هي البهية ، المعشوقة ، الممتدة من شريان قلبي النازف وحتّى آخر فنار
مضيء في بحرها الكرستاليّ الّذي تُعيدُ
نسائمهُ الحياةَ لِمَنْ يتأملهُ ، وتنشرُ ضفافه أجمل العطر في روحِ عشّاقه ..
المتورّطين في حُبّ تفاصيل مدينة ، تعاكس العالم بجمالها ، لتجدّد الحياة ، وتراوغ
الكون لتبزغً شمس فتنتها للمتيمين بها .. المسحورين بأطيفاها وهي تعيدُ سُلالة
الحالمين .. وتتقي بماء الحلمِ الذبول .. والتلاشي .. والشيخوخة تهزمُ الموت بليلها الذي يشبهُ النهار ، لتنتصرَ
للحياة .. لإنسانها المجنون برغيف الشمس .. وعسل ذكرياته .. ورائحة أُنثاه.
في
الإسكندرية يتوجّبُ عليكَ أنْ تصغي للقلبِ
لأنّهُ " حيثُ يوجدُ قلبكَ ، يُوجدُ كنزك َ " – باولو كويلهو –
الخيميائي
تتبعثرُ
كلُّ بلاغات الغزل في حضرتكِ .. أيّتها المدينة الثرية كالكلمات .. الجميلةُ
كالفرح .. المنيعةُ كالكرامة .. السّاحرةُ الودودة كالحرية .. العميقةُ كالطعنة ..
الشفّافة كالقُبلة .. الأبديةُ كالمدى ، ليسَ أمامي إلاّ أن أنحني لأشجار شموخك ،
وأُكبرُ فيكِ هذا الزهو الممغنط بكيمياء الورود ، وزخارف قطرات المطر ، وأغاني
الربيع .. ليس لديّ إلاَ الكلمات ثروتي .. منقذي .. ودليلي إلى جمالك ..إلى العالم
وهوَ يتغنى بهذا الجمال ، ويُؤرّخ لقامتِكِ الحضارية .. وإيقاعك الحياتي ..
الإنساني.
الفراتُ هو َمَنْ رتّبَ لي عشبَ هذهِ الذاكرة
النوستالجية ، وإذا بالأسكندرية – ضيف القلب ، تضيف لهذا العشب خضرةً .. وزهوراً
.. وطيوراً ملونةً .. وأمطاراً بقطرٍ كريستالي لقائي بالإسكندرية إبداعي ..
حضاري.. وإنساني ،
قرّبت
لي ملامحها التموزية زهوَ الفرات بتاريخه الحافل بفصول الانتفاضات والثورات ..
وقصّص العشق .. وأحلام الشعراء .. قرأت كلّ ذلك ، دونما صعوبة أوكلل ، في عيون
الأسكندرية البحرية ..وفي رقصات سمكِ بحرها العاشق .. وعراقة ميادينها المضاءة
برموز التاريخ والشعر والفن الذين سكبوا أدمعهم الحجرية ، وجدّدو أحلامهم في أحضانها الدافئة .. وعطر
قبلاتها ، ابتداءً من الأسكندر ، وانتهاءً بالشاعرين العظيمين كفافي وأونغاريتي ..
وآخرين تركوا قصّص عشقهم تتحّدث عنهم ، واختفظت ذاكرة الأسكندرية وحدها بوجوههم
وأسمائهم .
حينَ
وُلِدتُ في أحضان الفرات ، في ليلةِ قليلة المطر والحنان ، كثيرة الحزن والحنين ،
كانت ذاكرتي تختزنُ كلّ استعارات الفقر .. والألم .. والظمأ ، وباتت بلاغةُ العشق
خاوية أمامَ كلّ ذلك ، مضافاًَ إليها جرعة قاتلة من أحزان الأُمّ الطيبة ، وهي تفقدُ في زهرة ربيعها شريك حياتها ، وُلدتُ
ولمْ أجده ، وعرفت الغربة ولم أزل جنيناً ، وجدتُ العذاب يغرسُ أنيابه الحادة في
جسدي ، رفعتُ لهُ راية الاستسلام ، ورضيت بهِ اسما ً .. وقدرا ً .. وصديقاً حميماً
.
في الإسكندرية مُنحتُ ذاكرةً أُخرى ، وأنا
أهيمُ .. وأُغرمُ بملامحها الكونيّة ، وإيقاعها التاريخي ، ومواكب جمالها الأزليّة
، وقامتها الّتي تشبه قامة أُنثى في لحظةِ عشقٍ و " المكان الّذي لايُؤنّث لا
يُعوّلُ عليه" – ابن عربي ، أردتُ
أنْ أُصلّي لهيبتها التي فاقت في سحرها كلّ المدن ، وعلى امتداد التاريخ ، المدينة
السخية وهي تهديني من عائلة قلبها امرأةً بلون البحر ،ببساطة الضوء ، بجمال
التحية ، بروعة الوطن البعيد – المصادر ،
فكان لابدّ لي من أن أهدي المدينة – الحلم الإسكندرية ذهب الدمع ، فتافيت الجسد ، جوهرة الأحلام ،
وأكتب بحبرِ بهجتها وأوركسترا هدوئها أجمل
قصائدي .. وجدتني أتفجّرُ شعراً ونثراً في عشقها .. في ملامحها .. في عظمتها ، في
لغةٍ تتعدّى الكلمات .. لغةٍ كونيّة ،
وبلاغة
لا تُقرأ فصولها إلاّ في لحظات الإلهام .. أجدني والأسكندرية تسكنني ، وتوجّه
زورقَ أحلامي ، في لغة اللغة ، وبلاغة البلاغة ، وخيال الخيال!!
أعرفُ أنَّ الإسكندرية جملةٌ رشيقةٌ ..
مُستفِزّة في بلاغتها .. وإيحائها ، لكنّها ليسَت روما – إيتالو كالفينو ( المثيرة
للرغبات والمخاوف ) ، ولا باريس – لويس أراغون ( سيدة الأضواء والقلق) ، ولا
نيويورك – ألن جنسبيرغ التي
(
ليسَت أكثر من سبعةٍ وعشرين سنتاً ) .. هي المُلهمة فحسب .. أُمّ كفافي العظيم
والخارجين من جبّته ِ من الشعراء
والمبدعين المغرمين بمفاتنها الإلهية ، هي أُم الأنصاري ، وعبد الفتاح رزق
، وإبراهيم عبد المجيد ، وفؤاد طمان ، ومحمد جبريل ، وإدوار الخراط ، وكلّ مغنٍ
جريحٍ ، وُلِدَ من رحمها الدافئ وفي فمهِ وردة ، وفي نبات قريحته قصيدة .. قصّة ..
رواية ، وعلى أصابعه تُبعث أوركسترا خالدة ، وعلى قماش رؤاه لوحة تشكيلية بريشة
البحر .. ولون السماء .. وظلال الربيع ، يؤطرها أنين إنسانها العاشق .