ما الذي يجمع قصص هذه المجموعة؟ ثمة
رابط ما.. يزداد وضوح هذا الرابط – وتزداد قدرتك على رؤيته كلما قرأت قصة أو أعدت قراءة قصة، ويزداد حين
تقرأ عناوين المجموعة أو حين تتأمل مضامينها.. وهذا الرابط أحد الحلول المقترحة
لقراءة النص، وهو ما سنختبره هنا في مجموعة "سيرة القلب" لنجلاء علام.
نجلاء علام ساردة مصرية قاصة وروائية
وباحثة، صدر لها في أدب الطفل: رواية (لمسة الأم) و(عيون جميلة) رُشحت عام 2013
للقائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد العامية لأدب الطفل، مجموعة قصصية (أمير
الحواديت)، و(أيمن وكوكو في الفضاء) و(الأمنيات المضيئة). كما صدر لها روايتان:
(نصف عين) و(الخروج إلى النهار) وقصص: (أفيال صغيرة لم تمت بعد) و(روح تحوّم آتية)
ولها موسوعة في جزأين هي الأولى من نوعها في هذا المجال، تحت عنوان (تطور مجلات الأطفال
في مصر والعالم العربي منذ نشأتها وحتى عام 2000).
تجتهد المجموعة لجمع الأضداد؛ وهو ما قد
يوحي أولاً بالتنافر، لكن التعمق في نصوص المجموعة يضعنا أمام نتيجة أخرى غير التي
تعجلناها؛ فما الذي يجمع آدم بفتاة تفقد ساقها، بلقاء ضرتين، بامرأة عاقر تنتظر رجلاً
طارئًا، بامرأة فقدت حياتها ولم تفقد أغنيتها؟!!
العنوان أول ما يواجهنا: "سيرة
القلب" ما السيرة؟ وما المقصود منها هنا؟ أنحن أمام السيرة بمعنى قصة حياة
أحد العظماء، أم بكونها اعترافًا بما مضى، أم نحن أمام قصة يحكيها الناس "
فلان سيرته على كل لسان"؟ هل نحن أم تناص مع أغنية أم كلثوم سيرة الحب؟ كل
احتمال من هذه الاحتمالات يقودنا بالضرورة إلى مسار ما.
أما كان من الأجدى ألا يكون عنوان
المجموعة عنوانًا لقصة داخلها لأن هذا قد يدفع القارئ لتوهم عدم الوحدة العضوية؟
فلماذا اختارته بهذه الطريقة؟ من وجهة نظري، وبكلمة: اللعب.. فجوهر الفن هو
اللعب..
ثم تأتي عناوين القصص ذاتها، وهي خمس
عشرة قصة: (طيور
الأرض - بساق وحيدة أمشي - ذكريات نبتسم لها - سيرة القلب - إيقاع– معاودة– أول
الليل– انتظار– شجرة هناك .. وشجرة هنا– النعشان– ربما– سماء بنفسجية– هي وهو– في
قلبي غرام– مقامات)
فلا يمكن تجاهل أن العناوين مثلا على المستوى
النحوي تضم مختلف التركيبات النحوية: التركيب الإضافي: "طيور الأرض" و
"سيرة القلب" والتركيب الإسنادي: جملة فعلية: "بساق واحدة أمشي".
جملة اسمية: "في قلبي غرام" والتركيب الوصفي" سماء بنفسية"
والعطف: "هي وهو" هذا غير استعمال النكرة: إيقاع" و معاودة"
والمعرفة: "النعشان"، بل استخدام المفرد والمثنى والجمع.
لا بد من أن ندفع توهمين هنا، أن اختيار
العنوان جاء تعسفًا على القصة وذلك لتحقيق إطار عام.. وأن قراءتنا هنا هي قراءة
إجبارية.. فمكمن الشعرية- فيما أظن – هي أن العمل كائن حي بمعنى ما يغير مكوناته
كلما تقدمنا فيه، وأنه وفق هذا فإنه يطور نفسه كلما ذهب ناحية النضج.. فحين يبدأ
الكاتب إنتاج مجموعة شعرية؛ فإنه يغير عناوين، ومحتويات، وترتيبًا كلما ضم قصة، بل
ربما حذف قصة أو أكثر لأن هناك تنافرًا أو عدم راحة، مرد هذا ببساطة إلى أن النص
كائن حي.
وماذا يعني هذا؟ ماذا يعني اجتماع معظم
أشكال التعبير اللغوي (الكلمة – الجملة –
الكلم –
المفرد –
المثنى –
الجمع –
النكرة –
المعرفة)
فقير يرتقي بالطرق غير المشروعة أعلى
المناصب، ويتخلى في سبيل ذلك عن كل شيء، وتصل قسوته إلى إنكار أخيه ثم التخلص منه "طيور
الأرض". فتاة تعيش في أحلامها رغم فقدانها ساقها (بساق وحيدة أمشي) ضرتان
تلتقيان بعد موت الزوج (ذكريات نبتسم لها) إنقاذ امرأة تقاوم اختراعات مدمرة (سيرة
القلب) امرأة متشردة تسكن شجرة عجوز(إيقاع) رفض للحبيب المنتظر رغم عودته بعد
عشرات السنين (معاودة)انتظار الحبيب كل ليلة عيد(أول الليل) تعلق امرأة بزوجها
وإصرارها على الحياة مع ذكرياته(انتظار)فتاة تعشق فتى يعشق غيرها وتظل وفية له رغم
استشهاده (شجرة هناك .. وشجرة هنا)افتراق صديقين وانقسام العالم حولهما حيين وميتين(النعشان)قصة
الصراع بلسان آدم (ربما)موت البراءة بيد أقرب الناس (سماء بنفسجية)امراة عاقر تجعل
معشوقها الضعيف الإرادة رجلاً مكتملا(هي وهو)امراة تقهر أحزانها وأمراضها وخيباتها
في العيش داخل أغنية(في قلبي غرام) وحيد يحاور نفسه عن خيبات الماضي وصمت المستقبل(مقامات).
لم تقتصر لغة الحوار على الفصحى، بل
هناك تمازج بين الفصحى بمستوياتها والعامية القريبة من الفصحى.
شخصيات النص تكوّن عالمًا رحبًا
ومتنوعًا فمن ناحية العمر نجد أطفالاً وشبابًا وشيوخًا، ومن ناحية العمل نجد علماء
وفلاحين وجنودًا.
كما تتنوع أماكن الناس لتشمل الأمكنة
الطبيعية فنجد القاهرة والإسكندرية ونجد الريف بشكل عام، وتشمل الأمكنة الخيالية
فأين يعيش آدم في نصه؟ وأين يعيش أبطال سيرة القلب؟
أزمنة النص متنوعة أيضًا فنحن منذ بدء
الخلق مع آدم، ونحن في المستقبل في " سيرة القلب" ومع حرب تحرير سيناء
مصر من الصهاينة في 1973.
ألا يقودنا التفكير في هذا التنوع
المقصود إلى شيء؟
تحمل كل قصة معنى ودلالة؛ وهي ما يعطي
لها الاستقلال واكتمال البناء، لكن هذا البناء يكتمل بتضافر القصص ما يصنع
"النص الحي" ويجعلنا هذا نقف أمام الرابط الذي كان خفيفًا كخيط الهلال،
ومع التعمق نجده يزداد وضوحًا وسطوعًا.
الرابط في هذه المجموعات حالة التعايش
التي تصل بأقصى متخاصمين إلى قبول كل واحد منهما للآخر، إنه درس الحياة التي تتسع
للجميع.
النص
|
حالة
التعايش
|
وسيلة
التعايش
|
طيور الأرض
|
التعايش مع
واقع الحياة القاسي، والتعايش مع الاختيار الذي اختاره البطل، أن يكون من طيور
الأرض التي تراها مصدر رزقها، ومكان حياتها.
|
الكد والتحمل
والتكشف، ثم اللجوء إلى الانتهازية والأعمال القذرة والتخلص من كل ما يذكر
بالماضي.
|
بساق وحيدة أمشي
|
تعايش فتاة مع
فقدان ساقها
|
الأحلام وتجاهل
العرج.
|
ذكريات نبتسم لها
|
تعايش امرأتين
مختلفتين تزوجتا من رجل واحد.
|
الاعتراف بفضل
كل واحدة، الاعتزاز بقدرات الفرد.
|
سيرة القلب
|
تعايش مع فكرة
مقاومة توحش التكنولوجيا وفساد العلماء وأصحاب القرار.
|
مقاومة البطلة
وهربها من حبيبها الفاسد، قيام شخص بالتضحية من أجل الفكرة.
|
إيقاع
|
تعايش امرأة
مشردة مع معيشتها في حديقة عامة. تعايش المخرج مع رفض السيدة ترك الشجرة.
|
غناء العجوز،
وتصوير المخرج للمشهد.
|
معاودة
|
تعايش المحبة
مع هجران حبيبها لها، وخياناته المتكررة.
|
رفض عرضه بأن
يعود إليها.
|
أول الليل
|
تعايش مع خروج
الحبيب وعدم عودته.
|
تمني أن تكون
كل ليلة هي ليلة عيد.
|
انتظار
|
تعايش مع موت
الزوج في فتوته.
|
إخراج الصورة
وتأملها، والحفاظ على ملابسه.
|
شجرة هناك ..
وشجرة هنا
|
حب المحبوب
لامرأة أخرى، استشهاد المحبوب.
|
الاقتراب من
المحبوب، والحفاظ على ذكراه.
|
النعشان
|
تعايش القرية
مع اختلاف الصديقين.
|
انقسام الناس
حول النعشين، وسيرهما متجاورين.
|
ربما
|
التعايش مع
الصراع الأزلي بين آدم وإبليس.
|
البحث عن عذر
لإبليس
|
سماء بنفسجية
|
التعايش مع
تنازل الأب عن ابنته.
|
التحديق في
السماء، البحث عن المتع القريبة.
|
هي
وهو
|
تعايش امرأة مع
رفض محبوبها الزواج منها والاستقرار معها.
|
انتظار
المحبوب، وتعاملها معه كام.
|
في
قلبي غرام
|
تعايش امرأة مع
الحياة وآلامها وأحزانها.
|
الغناء أثناء
العمل واثناء المرض.
|
مقامات
|
التعايش مع ما
جرى فيما مضى من الحياة.
|
الصمت والرفق
والإحساس بالعوز والتخفي.
|
خاتمة
تقدم سيرة القلب بشكل فني معالجة لطريقة الناس في التعامل مع
مشكلات الحياة، كما تقدم نماذج بشرية ثرية بطريقة جديدة؛ فقليلون من تعاملوا مثلا
مع كيفية تعامل زوجات الرجل الواحد، واللافت أيضًا هو الصورة التي تلتقطها الزوجة،
وزاوية التقاطها وكيفية هذا الالتقاط، فنحن مثلاً في "ذكريات نبتسم لها"
أمام ضرتين وهذه صورة جيدة، لحظة وجودهما في المحكمة، أما طريقة الالتقاط فتأتي من
خلال الأسماء.
اعتدال الزوجة الأولى الحكيمة الخبيرة بالتجارة التي دفعت
زوجها من العامل السريح إلى التاجر الكبير، في مقابل حورية الزوجة الجميلة بهيجة
المعشر التي أتاحت لزوجها مناخ الراحة والسعادة، وهكذا تعبث بنا المفارقات فاعتدال
تشرب قهوتها مظبوطة أما حورية فسكرها زيادة، واعتدال أم لبنت متعلمة وحورية أم
لشباب طائشين..
ما يقدمه النص أيضًا ويستحق التفكير المرأة وأماكنها في الحياة
وأدوارها في المجتمع وهذا وإن خدم فكرتنا الرئيسية: "التعايش" فإنه
بحاجة إلى قراءة منفردة وفاحصة وموسعة.