الأحد 24 نوفمبر 2024

فن

صلاح عبد الصبور.. تأملات فى زمن جريح

  • 22-10-2020 | 11:48

طباعة

كلما قرأت شعر صلاح عبد الصبور( 1931 ـ 1981 ) أجده جالساً حزينا! وكلما نظرت إلى صورته، فى قصاصات الصحف القديمة، أرى وجهه حزيناً! وكلما جلست للاستماع إلى صوته ـ من خلال اليوتيوب ـ تأتينى نبراته حزينة! حزين هو دائماً، سواء كان متكلماً أو صامتاً. حزين.. إذا ما كتب عن الحب، والحرب، واللهو، والجد، والأرض، والسماء. حزين.. إذا ما كتب عن الخبز، والوطن، والشمس، والقمر، والرقص، والغناء. حزين..إذا ما ترجل من حجرته   إلى شرفته ـ بسبب القصيدة ـ فى الصباح وفى المساء. لكن لماذا هكذا أراه؟! وهو الذى قال ذات يوم:" لست شاعراً حزيناً، ولكنى شاعر يتألم"! الإجابة وجدتها بجوار أبواب الصدق، والحرية، والعدل، تلك المعانى، والأمانى، والقيم، التى عاش من أجلها، وجعلته دائما حزيناً. هذا الحزن تحول ـ بتجارب الحياة ـ إلى الألم. وهذا الألم  تحول إلى موت ـ بعد رحيله المفاجئ والمباغت ـ عندما وجد كل الأبواب، مغلقة، ومعتمة، فى وجه الصدق لصالح الكذب. وفى وجه الحرية لصالح الطغيان. وفى وجه العدل لصالح الظلم. هذا هو صلاح عبد الصبور وهذا حزنه، الذى لا تطفئه الخمر ولا المياه. ولا تطرده الصلاة. حزن صلاح عبد الصبورأصبح ألماً ـ فى قلبه وعقله وشعره ـ من أجل الإنسان .. ومن أجل الحياة! 

                                      ***

ـ "وحينما التقينا يا حبيبتى

ـ أيقنت أننا مفترقان

ـ وأننى سوف أظل

ـ  واقفا بلا مكان".

(مصر الجديدة ـ 1963)

الساعة الآن السابعة مساء. الشوارع هادئة، والبيوت ساكنة، باستثناء بيت صغير، يطلق عليه اسم منزل القاضى. بداخله تجلس فتاة ذكية، وجميلة، ومثقفة، تعمل فى البرامج الثقافية بالإذاعة المصرية فى حالة توتر وقلق وخوف. بعد دقائق عاد أبيها للبيت. جلست إليه ثم قالت بشجاعة وثقة. أبى .. هناك شخص ما يريد أن يتقدم لخطبتى؟ سأل الأب عن عائلته ووظيفته ووضعه الاجتماعى؟ سكتت سميحة قليلاً ثم قالت: هو اسمه صلاح. رد: عظيم.. " بيشتغل إيه بقى؟ ردت بهدوء : شاعر! ـ قال الأب: أنا أعرف إن الشعر هواية..وليس مهنة.. وهذا معناه ـ إذا وافقت على زواجك منه ـ أن    ابنتي ستزوج من شاعر ليس له مهنة، لذلك أرفض هذا الزواج. سكتت سميحة وحبست دموعها ولم تتكلم. مرت أسابيع على هذا والأب مازال رافضاً. تدخل خالها ـ وكان رجلا مثقفاً يحب الشعر والشعراء ـ وأقنع الأب بالموافقة، وبعد عدة شهور أخرى، تزوج الشاب صلاح عبد الصبور، من الفتاة سميحة غالب، ليبقى الحب ـ رغم كل شىء ـ هوالأبقى وهو الغالب!

                                    ***

ـ "لا يجب أن تأخذك الهموم

ـ هذا العالم لا يدوم.

ـ لا تبكى. لا تغضب. لا تسأل عن السبب

ـ إنها مسألة وقت".

 ( مقهى زهرة البستان ـ 2019 )

أجلس الآن على المقهى، فى انتظار معتزة ابنة الشاعر الراحل صلاح عبد الصبور. بعد دقائق رأيتها قادمة من بعيد. العديد من رواد المقهى استقبلوها بحفاوة كبيرة. الشاعر زين العابدين فؤاد ترك مكانه وأصدقائه وجاء ليحتضنها بتأثر شديد ثم عاد إلى مكانه بهدوء. قلت لها: كتبت وأنت مازلت طفلة صغيرة تقولين:"هذا العالم لا يدوم.. لا.. تبكى. لا.. تغضب" وقبل أن أكمل قالت: هذه الكلمات كتبتها ضمن قصيدة عنوانها "لا تغضب" وكان أبي يعجبه كثيراً ما أكتبه، ويرى أن خيالى أوسع من تجربتي فى الحياة، بسبب حبي المبكر للقراءة. بعد دقائق جاء النادل، بفنجان قهوة لها وكوب شاى لى. قلت: كيف كان صلاح عبد الصبور الأب فى حياتكما ـ أنت ومي ـ فى البيت. وضعت فنجان القهوة أمامها، ثم قالت: كان مثل النسائم فى شهورالصيف. مثل شعاع الشمس الدافء فى أيام الشتاء. كان هادئاً، باسماً، ضاحكاً، يلعب معنا ببهجة طفولية فى أوقات فراغه. كانت مطالبه قليلة، ووقته منظم. القراءة لها وقتها المحدد. والكتابة لها وقتها المحدد. كتبه، وأوراقه، وأقلامه منظمة، يجلس إلى مكتبه فى العاشرة مساء، ويظل يقرأ ويكتب حتى ساعات متأخرة من الليل. ينام بعدها ليصحوا عند الظهيرة، يرتدي ملابسه، ويأتي إلينا بسيارته الخاصة (ماركة فيات 28) للمدرسة ليصحبنا عائداً للبيت ـ مثل أى أب ـ ثم يذهب إلى عمله الوظيفى الروتينى اليومى المعتاد.

                                     ***

ـ من أنا

ـ سأحكي حكمتى للناس،

ـ  للأصحاب

ـ  للتاريخ

ـ  إن أذنت مسامعه الجليلة لى"

( رملة بولاق ـ  1980)

   والتاريخ يقول:هو الآن، يجلس على مكتبه، بصفته رئيس الهيئة العامة للكتاب، يكتب بيده الرد التالى: طلب إسرائيل المرسل للهيئة، التى تعلن فيه عن رغبتها  فى المشاركة فى معرض الكتاب لهذا العام مرفوض، لأنه أرسل بعد غلق موعد تقديم الطلبات! هنا صلاح الموظف ـ وليس الشاعر ـ لا يريد الصدام مع الرئيس السادات. هو يحاول منع إسرائيل من المشاركة بطريقة دبلوماسية. فى المقابل إسرائيل لم تسكت. تواصلت مع الكاتب أنيس منصور وأعربت عن غضبها من ذلك المنع. الرئيس السادات تلقى الرسالة من أنيس منصور وأجبر صلاح عبد الصبور على قبول مشاركة إسرائيل . ثارت ثورة المثقفون ـ الرافضون من الأساس معاهدة كامب ديفيد ـ وأعلنوا صدامهم المباشر مع المعرض و مع صلاح و مع السادات ذاته. حاول منع الصدام بين ثوابت الثقافة وتوازنات السياسة، قدر استطاعته ونجح إلى حد ما. مرت الأزمة ـ رغم عنفها ـ على الجميع بسلام، إلا على صلاح نفسه، حيث ظلت وتيرة الهجوم عليه، تتواصل من كافة التيارات الفكرية، والسياسية، والثقافية خاصة من بعض الشعراء فى الدول العربية الذين استغلوا الأزمة للقضاء عليه ـ معنوياً على الأقل ـ والتخلص منه، قبل أن ينصب أميراً على إمارة الشعر العربي بعد أحمد بك شوقى. 

                                          ***

ـ "سيدتى، إليك قلبي

 ـ واغفري لى..

ـ أبيض كاللؤلؤة،

 ـ وطيب كاللؤلؤة"

( زهرة البستان ـ 2019)

أنا مازلت أجلس مع معتزة.. ومازال رواد المقهى، يتوافدون لتحيتها . بعد دقائق قالت إن لديها موعد مع صديقة على مقهى آخر فى شارع محمد محمود. طلبت منها أن أسير معها حتى هناك. فى الطريق قلت:أظن أنه كان أب استثنائي، أليس كذلك؟ قالت كان مثل اللآلىء. فهو ـ من وجهة نظري ـ لا يتكرر فى كل شىء، فهو فى الحب مختلف. وفى الأبوة مختلف. وفى البيت كزوج مختلف. قلت: ولأنه كان شخصية استثنائية، نجده يموت فى ظروف استثنائية، قلت ذلك فى اللحظة التى كنا وصلنا فيها  إلى شارع باب اللوق. معتزة سمعت كلماتى وأحسست أنها لا تريد الحديث عن لحظة وفاته التى باغتت الجميع وكانت هى طفلة تمسك بيد شقيقتها مى فى حضن أمهما فى صالة منزل الشاعر أحمد عبد المعطى حجازي، حيث رأت أبيها يغادر الشقة مترجلاً بصعوبة بين الدكتور جابر عصفور و الشاعر أحمد عبد المعطى حجازى فى طريقهم للمستشفى التى مات فيه بعد 60 دقيقة تقريباً من لحظة وصوله مصابا بذبحة قلبية قاتلة، متأثراً بكلمة قالها صديق!

                                       ***

ـ يا صاحبي

ـ ذوق حديثك ، كل شىء قد خلا من كل ذوق

ـ أما أنا فلقد عرفت نهاية الحذر العميق

ـ الحزن يفترش الطريق"

(مصر الجديدة ـ 1981)

اليوم هو الخميس14 أغسطس 1981 . الساعة تعدت السابعة مساء بقليل. أحمد عبد المعطي حجازى مع زوجته(سميرة ) فى شقتهما الصغيرة بالدورالخامس( العمارة بدون أسانسير) اطمئنا على كل شىء، لقضاء ليلة سعيدة مع الأصدقاء بمناسبة عيد ميلاد طفلتهما. بعد دقائق توافد ضيوف الحفل (أمل دنقل وزوجته عبلة الروينى. بهجت عثمان. جابر عصفور. صلاح عبد الصبور وزوجته سميحة غالب وابنتيهما). بعد دقائق تجمعت الصحبة، وبدأت مراسم الضيافة. ثم انتقل الأصدقاء ـ من الحر الخانق ـ إلى" البلكونة" ثم دارت عجلة الكلام والدردشات فى الشأن الثقافى، والسياسي، والعام، فى ظل حالة التوتر القائمة ـ حينذاك ـ بين السلطة والمثقفين بسبب الصلح مع إسرائيل وحالة الاستقطاب المتبادلة بينهما، والتى جعلت البعض الآخر بالخيانة، والعمالة، وبيع القضية. فى البداية طلب من أمل دنقل أن يلقى قصيدته(لا تصالح) لكنه رفض؛ لأن القصيدة لا تلائم المناسبة. وقدم للحضور بديلاً لها شريط كاست عليه قصيدة(سوق العصر) لصديقه عبد الرحمن الأبنودي المسجلة بصوته. الجو حار. والرطوبة مرتفعة. والأصدقاء جالسون، يدخنون وهم صامتون فى انتظار حجازي الذى غاب لدقائق. عاد بعدها بجهاز كاست قديم من غرفة مكتبه، وأدار الشريط وسط حالة من السكون التام فى الشرفة، إلا من صوت الابنودي، الذى عانق سحابات دخان سجائرهم المتطاير بكثافة فى الفضاء. فى صالة الشقة كانت سميحة غالب وطفلتيها و زوجة حجازى وطفليها يتسامرون ويضحكون، ويلعبون، ويغنون أغانى أعياد الميلاد. مرت الدقائق مبهجة وهادئة فى الصالة. أما " البلكونة "التى تحمل ثلاثة شعراء، وصحفية، ورسام، وناقد، فكانت جدرانها، ساخنة، ومتوترة، من شدة تفاعل وتجاوب ضيوفها مع صوت الأبنودى وهو يقول:"ما احناش فى زمن الشعب/ ما احناش جسد واحد). الجميع يستمع فى صمت، باسثناء صوت واحد، هو صوت صلاح عبد الصبور، الذى قال بحزن واضح: جميل يا أبنودى؟ ومعك كل الحق.. الشعب الذى يصمت على سارقيه يستحق ما يجري له. هنا انتبه بهجت عثمان لتعليق صديقه ووجه كلامه إليه قائلاً: وما ذنب الشعب؟ ومثقفوه باعوه وخانوه! صلاح بدهشة وانفعال يرد: تقصد إيه بكلامك يا بهجت؟. بهجت بانفعال وتوتر: أقصد أمثالك اللى باعوا القضية بمالاليم يا صلاح.  قال ذلك ثم أطفأ سيجارته بهدوء وعلى وجهه دهشة وذهول ثم سكت. ويا ليته ما قال. ويا ليته سكت.  الأجواء توترت. صلاح يرد ووجهه محتقنا: أنا لم أخن قضيتى . ولم أبع أي قضية. ولم أتراجع أو أغير مواقفي . بهجت عثمان أشعل سيجارة جديدة وسكت  بعدما شعر بأنه تسرع بقوله واتهامه لصديقه. جابر عصفور وحجازي يتدخلان لنزع فتيل التوتر وتهدأت الموقف. أمل صامتاً تنظر عينيه بحميمية إلى صلاح الذى بدأ يشعر بضيق فى التنفس. الجالسون فى الصالة شعروا بالانفجار الذى حدث فى البلكونة بعدما تسرب منها التوتر والاحتقان والهجوم المباغت  والهجوم المضاد، المتبادل بين الصديقين. بعد دقائق نجح الأصدقاء فى إعادة الهدوء وتغير مسار الحديث، لتجاوز ما حدث. بعد لحظات تحركت الزوجة سميحة غالب بخطوات سريعة إلى البلكونة وصبت هجومها ـ أو بمعني أدق دفاعها ـ على من فيها خاصة حجازي وبهجت، وفشلت كل المحاولات لاسكاتها، حتى من صلاح نفسه. فعلت ذلك بعنف وعصبية مبررة، ثم عادت لجلستها بالصالة التى فزعتا فيها طفلتيها فزعا شديداً، وألقيتا ما بأيديهما من حلوى ولعب وأمسكتا بيد أمهما فى هلع واضح. فى البلكونة.. عاد  التوتر إلى مجراه. بهجت عثمان ينسحب بهدوء مغادرا الشقة كلها. حجازى وعصفور لا يزالان  يحاولان تهدأتا  الموقف. أمل دنقل مازال صامتاً، لأنه  ـ فيما يبدو ـ شعر بالموت وهو يسحب المقعد الخالى، الذى تركه بهجت وجلس عليه معهم فى انتظار اللحظة. بعد دقائق طلبوا من صلاح الدخول لحجرة مجاورة لينام قليلاً، فعل ذلك لكن قلبه مازال متوتراً وعقله مشوشاً، وجسده واهناً. فى الصالة بين الحجرة والبلكونة مازالت زوجه حجازى تهدأ من فزع مى ومعتزة، بعدما هدأت سميحة غالب  قليلاً خاصة، بعد مغادرة بهجت عثمان.فى البلكونة عبلة الروينى تنظر إلى أمل الذى مازل صامتا، ينظر بتركيز إلى مقعد بهجت الخالى. جابر عصفور وحجازي يتبادلان الحديث ببضع كلمات مرتبكة. بعد دقائق عاد صلاح من الحجرة قائلاً: أنا مازلت اشعر بضيق فى التنفس". وقف جابر عصفور وعبلة الروينى وحجازى الذى قال بحسم: إذن نذهب للمستشفى للاطمئنان وقد كان!

 (باب اللوق ـ 2019 )

ـ "فى ذلك المساء

كنت حزيناً

مرهقاً

فى ذلك المساء"

الساعة الآن تخطت الثامنة مساء، ومن بعيد اقترب شارع محمد محمود. وأنا مازلت اتحدث مع معتزة فى موضوعات شتى فى الشأن العام. هاتفت صديقتها لتعرف لماذا تأخرت عن موعدهما. اقتربنا من المقهى. استقبلها النادل ترحاب شديد وهو يقول: الف رحمة ونور عليك يا أستاذ صلاح ثم دعاها للجلوس. قبل أن أودعها قلت لها: هل تذكرين ذلك المساء عام 1981؟ نظرت للسماء بعيداً، ولم تنطق بكلمة ثم لمحت من بعيد صديقتها قادمة مسرعة، فودعتنى قائلة: "إبقى خلينى أشوف يا خيري" ثم احتضنت صديقتها وجلستا على اقرب " ترابيزة" وغادرت المكان بعد وداعهما فى طريقي إلى مبنى مستشفى هليوبوليس الذى وصلت  إليه بعد ساعة تقريباً ووقفت أمامه ناحية الاستقبال والطوارئ الذى جاء إليه صلاح عبد الصبور قبل 38 عام يمشى على قدميه، فخرج منه محمولا على الأعناق.

                                      ***

    (مستسفى هليوبوليس ـ 1981)

 الساعة الآن  الواحدة من صباح الجمعة. عصفور وحجازى يصحبان صلاح للمستشفى كإجراء روتينى للاطمئنان عليه. فى المسافة من البلكونة للصالة يقف الجميع. يساندونه بالكلمات والابتسامات الخفيفة. صلاح ينظر لطفلتيه ويقول لزوجته: خللى بالك من البنات يا أم مي؟ قالها وهو فى طريقه للنزول على سلالم العمارة.أمل دنقل مازال فى البلكونة ينظر لمقعد بهجت عثمان وباقى المقاعد التى أصبحت فارغة من الجميع.  

بعد 10 دقائق وصل الثلاثة لقسم الطوائ( عصفور وحجازي وصلاح الذى كان عادياً ، إلا من الإعياء الذى كان ظاهراً عليه، ويتحمله بصعوبة. طبيب الاستقبال تعرف على شخصيته بسهولة، وبدأ بسرعة يفحص نبضات القلب والضغط والحرارة. بعد لحظات قال: ضربات القلب غير منتظمة، ثم غادر المكان مسرعاً. أمسك الطبيب بأقرب سماعة هاتف واتصل بالدكتور فايز فايق بطرس أستاذ جراحة القلب بالمستشفى. على السرير مازال صلاح ممداً هادئاً وبجواره يقف حجازى وعصفور فى حالة توتر ظاهرة.   

(مصر الجديدة ـ 1981)   

الساعة الآن الثانية صباحاً، فى منزل الدكتور فايز فايق بطرس. رنين هاتف المنزل يكسر سكون الليل. يصحو الطبيب من نومه على صوت طبيب الاستقبال شارحاً له الموقف.

الطبيب الشاب: الحالة جلطة فى القلب باسم صلاح عبد الصبور.

الدكتور فايز: هذا شاعر كبير.. بسرعة جهز الحالة لدخولها غرفة العناية المركزة وأنا أرتدي الآن ملابسي وسأكون عندك بعد 5 دقائق          (المستشفى كان قريباً من المنزل).

الطبيب الشاب: لكننا لم نستكمل إجراءات الدخول؟

ـ الدكتور فايز: تجاهل كل إجراءات الروتين ونفذ ما طلبته منك فوراً.  وصل الدكتور فايز مسرعاً، وعلى الفور قام بنقله إلى غرفة العناية، واستخدام جهاز تنظيم ضربات القلب، والتنفس الصناعي واستمرت محاولاته لمدة 30 دقيقة خرج بعدها يقول لحجازي وعصفور: الباقية فى حياتكم. الأستاذ مات. ليبكي الجميع بما فيهم الطبيب الذى كان من محبي شعره وكتاباته. فى ظل الدهشة والذهول ظلا حجازي وعصفور تائهان، يبكيان، وبصعوبة يتماسكان، ويسألان أنفسهما ماذا سنقول لزوجته وطفلتيه؟ كم أنت قاسي يا أيها الموت. بدأ عصفور يجري اتصالاته لاستكمال الإجراءات ونجح فى ذلك. أما حجازي فمازل مذهولاً. عاد سوياً بعد ساعة للشقة واتفقا على اصطحاب زوجته وطفلتيه إلى منزل أخيها القريب. وبالفعل تماسكا قدر الإمكان ونجحت الحيلة مواجهة الموقف العصيب، بعدما قال لها إن صلاح احتجز فى المستشفى للاطمئنان عليه فقط كإجراء روتينى. الكل اقتنع بهذا الكلام إلا أمل دنقل الذى ظل جالسا على مقعده فى البلكونة، يشعر بأن طائر الموت الذى كان يجلس معهما قبل ساعات نفذ مهمته ورحل. نظر أمل فى عينيهما ثم انفرد بجابرعصفور وقال له هامسا: هل مات صلاح؟ لم يستطع عصفور المقاومة وانهارت دفاعاته وهز رأسه فى ألم. سكت أمل وهو يشير إلى عبلة الروينى لينصرفا وهو يقول بصوت حزين: " كان أبي يمسك الجرح

يمسك قامته، ومهابته العائلية. قال هذه الكلمات وغادر المكان. بعده بدقائق نزل عصفور وحجازى واستقلا سيارته  ومعهما الزوجة والطفلتين متجهين إلى منزل أخيها القريب. وبعدما دخل لصالة البيت ووقف شقيقها يودعهما انتحيا به وألقيا فى وجهه الخبر الصادم وطلبا منه إبلاغ شقيقته ثم غادرا المكان على صوت صراخها الذى شق سكون تلك الليلة المعتمة الحزينة.     

                                      ***

الآن.. مات صلاح عبد الصبور.. ومأساته الحقيقة أنه ـ من فرط نقاؤه وصدقه ـ عرفنا ولم نعرفه. سمعنا ولم نسمعه، قرأنا ولم نقرأه.. أحبنا ولم نحبه. لأننا ـ وهذا ليس بجديد علينا ـ  

ـ أحببناه، فقتلناه.

ـ قتلناه بالكلمات.

ـ أحببنا كلماته

أكثر مما أحببناه

فتركناه يموت، لكي تبقي الكلمات 

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة