الثلاثاء 11 يونيو 2024

الأيام الحلوة فقط ..أحمد الحوتي

فن22-10-2020 | 11:54

هذا اسم غائب قليلا ما يأتي ذكره في الحياة الأدبية . كان شاعرا جميلا حقيقيا مجددا لكنه لم يلقَ حظه من الشهرة مثل غيره . كان ممن أطلق عليهم جيل السبعينيات لكن نادرا ما يأتي ذكر اسمه بين شعراء هذا الجيل . عرفته مبكرا قبل أن أقابله من خلال ما ينشره من شعر في المجلات الأدبية في أوائل السبعينيات . ثم عرفته عن طريق أحد أصدقائي الذي كان مُحاصرًا معه في الجيش الثالث أيام حرب أكتوبر وما جرى من حصار لهذا القطاع من الجيش بعد الثغرة التي عبرت منها قوات إسرائيل في جنوب سيناء . صديقي هذا رحمه الله كان محبا للأدب وكان يكتب الشعر لكنه لم ينشر ما كتب ولم يستمر في الكتابة . حدثني كيف كانا وسط الحصار وكان معهما عدد واحد من مجلة الطليعة , عدد واحد كان أحمد الحوتي رحمه الله قد عاد به من إجازته قبل اندلاع الحرب . قال لي صديقي كنا نتبادل قراءة العدد كل يوم وقرأناه مرات كثيرة في انتظار الفرج وانتهاء مباحثات الكيلو 101 التي بعدها عادت القوات الإسرائيلية إلي سيناء وفُتح الطريق للمحاصرين في الجيش الثالث . قال لي أن أحمد كان يعرفني مما قرأه أو استمع إليه من كتاباتي وكان الحديث عني كثيرا بينهما . ما استمع إليه كان قصصا أو مقالات أرسلها إلي البرنامج الثاني – البرنامج الثقافي الآن – وكان الأستاذ بهاء طاهر يقدم برنامجا عن الأدب الجديد يقرأ فيه ما يختاره مما يصل إليه من الأعمال . كنت أنا أيضا قد استمعت لشعر لأحمد الحوتي في البرنامج كما استمعت لقصص لمحمد المنسي قنديل . كان برنامجا جميلا جدا ننتظره نحن الأدباء الشباب ذلك الوقت الباحثون عن منفذ لنا وسط كتاب الستينيات الذين تقريبا أقاموا سورا حولهم صعب اختراقه . كان بهاء طاهر كريما رغم أنه محسوب علي ذلك الجيل , أعني التسينيات . بعد أن انفك الحصار انتهت خدمة أحمد الحوتي في الجيش وبدأ ينشر في المجلات الأدبية واقرأ ما ينشره ولم نلتق . هو من المحلة وأنا من الإسكندرية وأزور القاهرة أحيانا أسلم قصة لمجلة أو أتسلم مكافآتي وأجلس علي مقهى ريش لكني لا أقابله فالصدفة لا تجمع بيننا .

في عام 1974 انتقلت للعمل بالثقافة الجماهيرية بالقاهرة . قررت أن أعيش فيها وسط صخب الحياة الأدبية . ذهبت إلي العظيم الراحل سعد الدين وهبة وكان رئيسا للثقافة الجماهيرية وطلبت مقابلته وقدمت نفسي إليه باعتباري كاتبا شابا نشرت أربع أو خمس قصص في مجلات الطليعة ومجلة المجلة فوافق علي عملي علي الفور . أيام وبينما أقف بين الموظفين لأتسلم العمل فوجئت بأحمد الحوتي أمامي . لم أكن رأيته من قبل لكن أحد الموظفين قال لي إنه شاعر ومدير قصر ثقافة الريحاني بحدائق القبة . فرحنا ببعض جدا وعرف أحمد أني جئت لأتسلم العمل لكن لم أستقر علي إدارة بعد فقال لي تأتي تعمل معي في قصر الريحاني وتتولي مهمة الثقافة العامة . الندوات والمؤتمرات واللقاءات الأدبية . كان هو مدير القصر . وسألني أين أعيش قلت له لم أبحث عن مكان فقال لي تأتي تعيش معي أنا أعيش في غرفة واسعة بها سريران في بنسيون في روكسي . حلّ لي كل المشاكل في لحظة . أنهيت أوراق استلام العمل وخرجت معه واتسعت القاهرة حولي فلم تعد هناك مشكلة . عمل ومكان إقامة مع شاعر صديق . كان مديري حقا لكن الأدب يجعلنا أصدقاء .

حكايات طويلة بعد ذلك تسربت إلي روايتي "هنا القاهرة" التي جمعت فيها بين أكثر من شخصية قابلتها وعشت معها في شخصية واحدة ومن بينهم شخصية أحمد الحوتي . كان البنسيون تملكه سيدة طيبة لكن لديها هسس بأن أحدا ما سيسرقها كل ليلة فكانت عند الفجر تستيقظ تصرخ هاتفة " سرقوا الحلق .. سرقوا الصيغة .. سرقوا الكردان " وتدور جريا في الصالة حتي تعاود نومها . كان هذا يزعجنا جدا فكنا نقفز من النافذة – الدور الأول - إلي حديقة العمارة الصغيرة مرتدين البيجامات التي لم نجد فرصة لتغييرها وأهم ما كنا نحرص عليه أن يكون في أقدامنا شبشب ونعود عند الفجر نجدها نامت فنعاود النوم . كانت تفرض علينا لعب الكوتشينة معها ولابد أن تفوز بالرهان وكنت أنا أكسبها ولا أوافق علي الهزيمة لها وكان ذلك يغضبها مني جدا وكان أحمد الطيب يهمس لي " أخسر لها مرة يا إبراهيم خلينا قاعدين المكان حلو " لكن جنون الإسكندرانية كان يركبني . لم أخسر . كانت تتقاضى منا مبلغا معقولا إيجارا لكنها تفرض علينا أن نأكل من يديها بمبلغ كبير وكنت أكره أكلها . كانت لثلاثة أيام أول الشهر أو يومين تطهو لنا دجاجا أو لحما ثم بقية الشهر خضارا بلا لحم أو دجاج وفول وفلافل وكانت مغرمة جدا بالكشك حتي كرهت سيرته . كما كانت تغسل ملابسنا نظير أجر في الغسالة وتضعها كلها معا وأقول لها لا تغسلي ملابسنا مع بعضنا , اغسلي ملابس كل شخص وحدها .  تمردت علي غسيلها وصرت أغسل ملابسي بيدي . تمردت علي طعامها وصرت آكل بالمطاعم وكانت وهذا غريب أرخص مما ندفعه وقررت أن أترك البيت.

وجدت سكنا آخر في حدائق القبة قرب قصر الثقافة . كانت سيدة تجاوزت الخمسين من عمرها وتفرض علينا لمبات إضاءة ضعيفة فكنت أخبئ اللمبة القوية حتي تنام وأضعها في غرفتنا وقبل أن ننام أغيرها بالأضعف حتي لا تراها . حدثني أحمد الطيب وهو متأثر جدا أنها سيدة طيبة لا تتركها  فهذه الشقة التي جعلتها بنسيون لنا هي كل ما تملكه . أقول له ستجد غيرنا . لا يوافق ويتأثر جدا تكاد الدموع تطل من عينيه . أقول له إن لديها محل كاوتشوك وليست في حاجة لنا . لا يوافق ويستمر التأثر في عينيه . أخبرتها أني سأترك المكان فوقفت تشتمني وتلعن الإسكندرانية لكني مشيت وفي سكني الجديد بعد منتصف الليل  وجدت شخصا يدق الباب فتحت فوجدت أحمد حاملا حقيبة كبيرة بها أشياؤه ودخل يرقص وهو يقول هربت منها .. هربت منها . لقد جاء يعيش معي .