الثلاثاء 2 يوليو 2024

العلم والعلماء في زمن السوشيال ميديا

فن22-10-2020 | 12:00

لطالما تساءلت ما الذي يقف وراء وجود الكون؟ ربما يظل الزمن والمكان لغزين أبديين، لكن هذا لم يوقف مسعاي أبدا. فاق تواصلنا معا كل الحدود، لذلك باتت الفرصة سانحة أمامي كي أشارككم رحلتي وكلي حماسا وشغفا. كن فضوليا، أعرف أنني سأواصل كوني ذلك الفضولي للأبد.

مرحبا بكم، وأشكركم على زيارة صفحتي على فيسبوك".س. ه.

كانت هذه هي أول كلمات البروفيسور ستيفن هوكينج على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بتاريخ ٢٤ أكتوبر ٢٠١٤، لم يسبقها ربما إلا وضع صورة له كي تكون هي الصورة الرئيسية للصفحة وهي صورة لوجه البروفيسور بالأساس وبحسب الصفحة فقد التقطها جايمي ترافايزان.

ربما ينتاب أحدنا بعض العجب عندما نجد بروفيسور بحجم هوكينج اهتم بإنشاء صفحة على فيسبوك كي يطل من خلالها على الناس. يدفعنا ذلك للتساؤل كيف يستخدم العلماء منصات التواصل الاجتماعي؟ هل يتعاملون معها مثلما نتعامل؟ هل استفادوا من رؤية المتابعين لهم لجوانبهم الشخصية أم أضيروا؟ هل ساهمت تلك المنصات في إتاحة العلوم وأخبارها بصورة أكبر؟ هل هي مصادر موثوقة فعلا للأخذ عنها؟ كيف أثرت تلك المنصات في طريقة عرض المواد العلمية؟ وربما يتساءل البعض هل سهلت تلك المنصات من تواصل العلماء أنفسهم مع بعضهم البعض؟ هل يجئ اليوم الذي نجدهم هم أنفسهم يستخدمونها عند إجراء أبحاثهم كمصادر بدلا من الاستعانة بمواقع أخرى متخصصة وموثوقة وذات باع؟

لو واصلنا التجوال في صفحة البروفسور هوكينج على موقع فيسبوك سنجد منشوره التالي مباشرة عبارة عن فيديو له وهو يقوم بتحدي دلو الثلج وهو تحد يقوم فيه الشخص إما بسكب دلو من الثلج على رأسه أو بالتبرع بمائة دولار لصالح رابطة مرضى التصلب العضلي الجانبي.. وهو فيديو يتعامل فيه البروفيسور هوكينج بخفة دمه المعتادة حيث يشير إلى أنه نظرا لإصابته بالتهاب رئوي منذ عام مضى، فتحد مثل هذا قد يمثل خطرا على حياته لكنه محظوظ بأن لديه ثلاثة أبناء جميلين هم روبرت ولوسي وتموثي سيأخذون هذه الغطسة بدلا عنه، نستمع في هذه اللحظة إلى ضحكات مبتهجة مكتومة ثم تنتقل الكاميرا إلى مقعد يجلس عليه الأبناء الثلاثة متجاورين ومعهم صبي صغير هو أحد الأحفاد على الأغلب ثم يُسكب عليهم جميعا الماء المثلج لتنطلق ضحكاتهم المبتهجة النشوانة بينما يرتعدون تحت تأثير الماء.

هكذا نجد صفحة البروفيسور هوكينج مزيج ثرية وسحرية، يتنقل فيها بين أخباره العلمية ومحاضراته التي ألقاها وأبحاثه الجديدة والقديمة ورؤاه العلمية وآرائه الفلسفية والحياتية، منشورات بعضها جاد وبعضها ساخر..في خليط عجيب إنساني مبهج..

ربما يدفعنا ذلك للتساؤل ما الذي حفزته به مواقع التواصل الاجتماعي في العلم؟

كي نجيب عن هذا السؤال، ربما نكون بحاجة إلى الارتحال في جولة أوسع قليلا، نجد صفحات علمية موثقة أخرى لشخصيات مثل البروفيسور برايان جرين وغيره وهي صفحات تمارس دورا قريبا جدا من ذلك الذي مارسته صفحة البروفيسور هوكينج حيث تحاول أن تعرض العلم مبسطا لكنها كذلك تحاول أن تمنحه خفة وسهولة دون انتقاص من جماله وسحره..

نجد كذلك صفحات لا ترتبط بشخصيات لكنها تحاول نشر الثقافة العلمية وأحيانا تحاول التصدي للخرافة والعلم الكاذب مثل صفحة (أنا أصدق العلم) على سبيل المثال.

نجد أيضا صفحات لمجلات علمية كبرى أو لمؤسسات هامة سعت للتواجد كذلك من خلال مواقع التواصل الاجتماعي مثل science  وscientific American  وللعلم وغيرها كثير، غير أنها أقرب إلى مشاركة أحدث الأخبار الجادة ومشاركة مقالاتها التي تنشرها على صفحاتها لتوسيع دائرة الإطلاع والإنفوجرافات أيضا.

نجد علماء مصريين كذلك قد سعوا إلى تقديم أنفسهم من خلال صفحاتهم الشخصية مثل البروفيسور المصري هشام سلام صاحب الاكتشاف العظيم ديناصور منصوراصورس، يعرض البروفيسور هشام أهم أخبار اكتشافاته وأبحاثه الجديدة عند نشرها وأخباره الشخصية وكذلك أهم الأبحاث في مجاله لكنك لا تعدم أن تجد كذلك خفة دم منقطعة النظير كأن نجد صورته وهو يقفز ومن خلفه الصحراء وقد شاركها تحت جملة (أكبر دليل على أن الإنسان أصله قرد) أو نجده مشاركا لصورة لعبد الفتاح القصري منكوش الشعر وقد شاركها تحت جملة (لا يوجد عباقرة في جنس هومو) وجنس الهومو بحسب علم التصنيف هو جنس يندرج تحت فصيلة القردة العليا ويضم البشر فيما يضم، لو استمررنا في تجوالنا داخل الصفحة الشخصية سنجد كذلك لحظات شخصية حميمية مثل صورة لفنجان قهوة وبجواره قطعة كب كيك أو صورة له وهو في أحد المواقع يحمل معداته الثقيلة بنفسه وصورا له وفيديوهات مع فريق عمله.. أكثر ما يركز عليه البروفيسور هشام سلام عرض نظرية التطور وعرض مفاهيمها وأدلتها ودفع كل تفسير خاطئ لها وهو يفعل ذلك أحيانا بصورة مباشرة عبر معلومة وأحيانا على نحو ساخر محبب.

هناك آخرون كثر قد سخروا صفحاتهم الشخصية كذلك لنشر العلم، على سبيل المثال الدكتور طاهر الدمرداش الذي لا يكف عن السخرية من كل علم كاذب وإلى جانب منشوراته الجادة نجد كذلك حسا فكاهيا علميا منقطع النظير، نجده مثلا قد استخدم برنامج الفوتوشوب ليصور لنا توك توك شرودنجر وشرودنجر لمن لا يعرف هو أحد أهم علماء نظرية الكم، على التوك توك كتبت معادلة شرودنجر وكذلك رسمت قطته الحية والميتة في نفس الوقت، كما كتب على التوك توك (الحلوة يا ناس يا هم اسمها ميكانيكا الكم).

يذكرني ذلك بفكاهة انتشرت في إطار الفيزياء كذلك، تحديدا وقت الإعلان عن التحقق من وجود (موجات الجاذبية) لكنني لا أذكر لمن تنسب غير أنها انتشرت بشدة حينها على مواقع التواصل الاجتماعي وهي عبارة عن صورة آينشتاين كتب عليها (العبد لله مسك الزمان تناه).

هناك صحفيون علميون كذلك سخروا صفحاتهم لنشر أحدث أخبار العلوم، يلخصونها في أسطر قليلة كطلقات معلوماتية، على سبيل المثال الصحفي العلمي محمد منصور.

 

أعتقد أن مواقع التواصل الاجتماعي قد ساعدت في تقريب المجتمع العلمي من الناس، فهم لم يعودوا غريبي الأطوار الذين تصورهم الأفلام في هيئات شاذة، يتحدثون كلاما عجيبا ويعيشون حياة منفصلة بل هم أناس عاديون، يمشون في الطرقات ويعرفون روح الدعابة.

كذلك لم يعد العلم ذلك الكيان المفارق البعيد. بل أصبح قريبا جدا ولا أقصد بالقرب مجرد سهولة الوصول بل أقصد اكتسابه لمسحة إنسانية فريدة ، ربما لم تتح له من قبل ولم يسبق أن ظهرت للعامة بهذا الوضوح. لكي يصل العلماء للحقيقة عادة ما يتخلصون من كل ما هو ذاتي، يجب أن يعيش العلم في عالم تجريدي متفق عليه، عالم من أعداد مغلقة تفضي لبعضها البعض لكن فور الوصول للحقيقة والمعرفة يجب أن تعاد ترجمة ما تم الوصول إليه لمصطلحات إنسانية من جديد كي تكتسب معناها بالنسبة لنا مرة أخرى..

على سبيل المثال يعرف كل البشر الجاذبية هذه هي الخبرة التي ننطلق منها صوب المعادلات التي تصف الظاهرة والتي نعود لها بعد أن عرفنا المعادلات واستخدمناها، لكن المعادلات في  ذاتها لا تعرف الجاذبية ولا تدرك معناها، إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي قد انتقلت بذلك الوضع لخطوة أبعد حيث بات العلم يعرف روح الدعابة والفكاهة وتمتزج معادلاته بروح الإنسان وذاته بشكل غير مسبوق..

خطوات العلم وأنساقه لا تزال بعيدة عن كل ذاتية لكن النتائج يعاد أنسنتها بصورة غير مسبوقة وعبر أشكال لم تكن مطروحة أو حتى متصورة.

بالتأكيد ليس كل ما يعرض على السوشيال ميديا حقيقيا وصحيحا لكنها كأي مصدر يمكن إخضاع معلوماته لمعايير معينة قبل أن نوليها ثقتنا، وأغلب هذه المعايير تتعلق بالمصادر وهو الأمر الذي تنشغل وسائل التواصل الاجتماعي مؤخرا به حيث تحاول جاهدة تدقيق المصادر وتمييزها وتوثيقها.

إننا نعيش عصرا غير مسبوق حيث توفر وسائل التواصل الاجتماعي قدرة غير مسبوقة على ملاحقة الأخبار والتواصل وهي فائدة بالتأكيد لن تصبح مقصورة على محاولات تبسيط العلوم أو التعريف بها، بل ستتوسع بدون شك، على سبيل المثال تحاول بعض المؤتمرات العلمية مؤخرا استغلال ذلك بتوفير رسائل سريعة تبثها بثا حيا للأحاديث الدائرة فيها ولمحاضراتها ونقاشاتها بل أحيانا ما تسمح لمستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي بالإدلاء بدلوهم والمشاركة أون لاين من خلال شبكات التواصل تلك.

يفتح ذلك نافذة جديدة ربما لتواصل العلماء أنفسهم مع بعضهم البعض وتبادلهم للمعلومات والخبرات من خلال مواقع التواصل، لا مجرد استخدامها للإطلال على المتابعين.

إلا أن تطور ذلك مرهون باستجابة العلماء أنفسهم كما أشار مقال بعنوان (مواقع تواصل الاجتماعي للعلماء) نشره محررو مجلة نيتشر الشهيرة. إنهم يستخدمونها حاليا بكثافة لكن حدود هذا الاستخدام مرهون بخياراتهم هم الشخصية ومحاولاتهم للموازنة بين الفوائد والأضرار.

الأكيد أن العجلة تحركت والعالم لم يعد كما كان.. ربما لا تزال الممارسة العلمية كما هي لكن السوشيال ميديا فيما أعتقد كفيلة بتغيير المنظور الإنساني بمجمله.