الخميس 21 نوفمبر 2024

فن

صلاح عبد الصبور شهيد الكلمة

  • 22-10-2020 | 13:44

طباعة

الشعر ذلك السجل البالغ الحساسية لرحلة الإنسان منذ أن اكتشف في تفسيررغباتها وعواطفها المتقلبة ونوازعها العسيرة علي الفهم والتفسير فالإنسان منذ اكتشف علاقة التوتر الأبدي القائم بين الذات التي تمثله والموضوعات المواجهة له متمثلا في الكون المدرك والمفهوم أو غير المدرك وغير المفهوم وهو في حالة من الصراع الكينوني مثلما هو متمثل في البيئة والمجتمع بل والعالم الذي يأخد منه ويعطيه ولأن الأخذ لابد أن يكون أمامه عطاء لذلك كانت أرض صلاح عبد الصبورالشعرية تحمل نبتة خصبة تزهر وتثمر بتنوع واضح حيث تحمل كل تجربة من تجاربه الإبداعية شكلا من أشكال الاختلاف عن سابقتها مما يجعل المبدع يضفي علي أعماله حالة من الابتكار الدائم ولأنه أعطي الكثير كان لابد من أن يأتي موعد الأخذ فأراد محبو وعاشقو شعره أن يقبل بأن يلقب بأمير الشعراء ولكن بتعفف وإصرار رفض رفضا قاطعا بقبول هذا اللقب ولكن الأسباب تبدو غامضة فكيف يعرض لقب أمير الشعراء عليه ويرفضه بإصرار وهوالمبدع الذي عاش للكلمة وبالكلمة وقتلته الكلمة فأصبح شهيد الكلمة.

تمر في الرابع عشر من أغسطس الجاري 2019 ذكري مرور ثمانية وثلاثين عاما علي رحيل أمير شعراء الشعر العربي الحديث  صلاح عبد الصبورذلك اللقب الذي عرض عليه قبل وفاته بفترة وجيزة ولكنه كان لديه من الحكمة والتفكير العميق ما ليس لدي أحد من مناظريه في هذا الوقت وهذا  المجال فرفض هذا اللقب وبشدة رغم علمه أنه يستحقه وبجدارة فهوأحد أهم رواد حركة الشعر الحر العربي وواحد من رموز الحداثة العربية المتأثرة بالفكر الغربي كما أنه واحد من الشعراء العرب القلائل الذين أضافوا مساهمة بارزة في التأليف المسرحي وفي التنظير للشعر الحر، لم يكن مجرد شاعر لامع ومشهور فحسب  لكنه جاء متفردا بعمق قل نظيره في فكره التأملي ورهافته المستمعة لنبض ذاته واستطاع أن يحفر في الفكر والوجدان العربيين علامة بارزة من خلال قصائد خلدها قبل أن تخلده إلا أن حساباته الإنسانية تفوقت علي طموح الشاعر الذي يمكن أن يأخذ في بعض الأحيان قدرا من الغرور والأنانية المشروعة.

يتذكر معنا الشاعر الكبيرمحمد إبراهيم أبو سنة ذكرياته مع الشاعرصلاح عبد الصبور ويروي لنا كيف قام  برفض هذا اللقب الذي ينتظره أي شاعر في عالمنا العربي ويعتبره تاجا علي رأسه يتباهى به بين الأمم مستعرضا بعضا من ذكرياته التي توضح كم كان هذا الشاعر يتخطى عتبات الإنسانية إلى السمو الملائكي.

فيتذكر الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة عندما عرض مجموعة من الأصدقاء والتلاميذ  والمحبين على الشاعر صلاح عبد الصبور نتيجة حبهم الشديد له  فكرة تتويجه أميرا للشعراء وبالتحديد كانت شرارة هذا التتويج تنبعث من مجلة روزاليوسف وكان الكاتب الكبير لويس عوض يدعمه دائما ويكتب عنه في جريدة الأهرام ويبرزه كأهم شاعر في العالم العربي وكم كان صلاح عبد الصبور متواضعا وذكيا في نفس الوقت لأنه كان يعلم جيدا أنه إذا قبل بهذا اللقب ستفتح عليه أبواب جهنم إن جاز التعبير فالساحة في هذا التوقيت لم تكن خالية من الإبداع والمبدعين، حيث كان يزخر الوطن العربي بعمالقة من الشعراء لا يقلون عن صلاح عبد الصبور أهمية، والبعض يتصورون أنهم أكبر بكثير من صلاح عبد الصبور مثل نزار قباني وأدونيس بلبنان وعبد الوهاب البياتي من العراق وغيرهم من الشعراء العمالقة الذين كانوا متواجدين وأحياء، ولأن صلاح عبد الصبور كان حكيما ولديه بصيرة وتواضع وفهم للخريطة الشعرية ويعلم جيد أن هذه القضية ستطرح ولكنها سوف تطوي بعد قليل لأنها ستصطدم بمعارك علي امتداد العالم العربي ولم تكتمل ونحن نعلم أن ما تم من إجراءات مع شوقي لا يمكن أن تتم مع صلاح عبد الصبور رغم أنه كان أشهر شاعر في حركة الشعر الحديث، وهذا الموضوع ما كان ليطرح أو يقترح علي شخص آخر غير صلاح عبد الصبور علي ضوء ما كان يكتبه الدكتور لويس عوض في الأهرام لأنه كان يحبه ويقدره ويري أنه أبرز شعراء عصره  لذلك رفض بشدة .

وعن ذكرياته مع الشاعر صلاح عبد الصبور يقول أبو سنة : الذكريات كثيرة جدا ولكن من المواقف المشهودة لصلاح عبد الصبور ولا ننساها ففي عام 1965 بعد تخرجي في كلية الدراسات العربية كنت أبحث عن عمل وأتردد علي الأهرام أنا ومجموعة اطلق علينا دكتور لويس عوض لقب شعراء الأهرام، وكنا نتردد علي مكتبه وكان في ذلك الوقت مساعد صلاح عبد الصبور وينوب عنه في بعض الأحيان وكنت في هذه المرحلة أبحث عن وظيفة وتحدثت في ذلك مع صلاح عبد الصبور فكانت النتيجة مباشرة حيث أخذني في سيارته وذهبنا إلي مدير إدارة التفرغ في قصر المانسترلي في الروضة وتحدث إليه وأوصاه بأن يمنحني منحة  التفرغ للكتابة وعلمنا من المدير أن الدكتور لويس عوص قام بالتوصية أيضا ولأنه من شروط المنحة أن يكون هناك تزكية من ثلاثة من كبار الأدباء  فقمت بالحصول علي التزكية من  دكتور لويس عوض ويحيى حقي والدكتور عبد القادر القط  والأستاذ أنور المعداوي، وأصبح لدي أربع تزكيات وليس ثلاثا، وبالفعل حصلت علي المنحة وقمت بكتابة مسرحيتين هما "حصار القلعة" و"حمزة العرب" وكان هذا بفضل صلاح عبد الصبور، فلولاه ما كنت تفرغت للكتابة آنذاك.

ومن المواقف المهمة والتي أثرت في حياتي أيضا كانت زوجة صلاح عبد الصبور المذيعة سميحة غالب التي كان لديها برنامج اسمه "لقاء الأجيال" فقامت باختيار ثلاثة أدباء هم ،عزيز أباظة باعتباره ممثلا للجيل الأكبر وصلاح عبد الصبور ممثلا للجيل الوسط، وأنا باعتباري من جيل الشباب، وبالفعل تم تسجيل هذا البرنامج في المجلس الأعلي للفنون والآداب في المقر القديم، وكنت لأول مرة ألتقي فيها بالكاتب الكبير عزيز أباظة وقدمت له ديواني حديقة الشتاء وهذه أيضا كانت نقلة كبيرة بالنسبة لي والسبب صلاح عبد الصبور، وذكريات ومواقف أخرى كثيرة مررت بها مع صديقي المقرب صلاح عبد الصبور ربما لا أستطيع البوح بها والتحدث عنها ولكن لا أنسي أبدا إشادته في جريدة الأخبار عندما كتب مقالا وقال فيه إن أهم شاعرين علي الساحة الآن محمد إبراهيم أبو سنة وأحمد عبد المعطي حجازي، وكنت في ماسبيرو وأخبرتني سامية صادق بما كتبه عني، وهذا المقال أيضا كان له صدي وتأثير كبيرين في حياتي إلي جانب أنه ساهم أيضا في نشر أكثر من ديوان لي، وذلل لي عقبات كثيرة كانت ستصبح حجر عثرة في حياتي لولا تدخله لأنه يؤمن بالموهبة ويحترم بل يقدس الصداقة؛ وملخص القول إن صلاح عبد الصبور كانت يداه بيضاوين علي من حوله فهو إنسان قبل أن يكون مبدعا.

وعن ليلة وفاة صلاح عبد الصبور وملابساته التي حيرت الجميع فهناك من يعتبر صلاح عبد الصبور قد قتل بخناجر الكلمات التي اخترقت قلبه الرقيق فلم يحتمل آلامها ففارق الحياة تاركا وراءه إبداعاته..

يقول أبو سنة" لم أكن متواجدا معه في هذه الليلة المظلمة السوداء والمشئومة التي مات فيها" ...يقول هذه الكلمات وفي صوته غصة ممتزجة بدموع يبدو أنها لم تجف طول ثمانية وثلاثين عاما عدد سنوات الدنيا بدون وجود صلاح عبد الصبور بها.

ويتذكرأبوسنة أنه يوم الوفاة كان معه في المكتب وكان قد أخبره أنه سيسافر إلي إيطاليا ليقضي الصيف هناك، وتحدثا في أشياء كثيرة ثم حدثت الفاجعة ورحلت العبقرية والموهبة والإنسان، ثلاثة عناصر تكتمل في نموذج نادر هو صلاح عبد الصبور.

ويستأنف أبوسنة ، وبعد الوفاه قمت بكتابة قصيدة في نفس اليوم وقمت بنشرها في اليوم التالي بجريدة الأهرام .

ملحوظة: يمكن وضع أبيات من  قصيدة الرثاء في هذا الموضع

وفي النهاية رحل عن عالمنا شهيد الكلمة صلاح عبد الصبور الذي كان مثالا للإبداع والإنسان والذي كان حريصا علي تجسيد ذلك في أشعاره

فيقول صلاح عبد الصبور في أحد أشعاره التي تعبر عن الكلمة

لا , لا تنطق الكلمة

دعها بجوف الصدر منبهمة

دعها مغمغة على الحلق

دعها ممزقة على الشدق

دعها مقطعة الأوصال مرمية

لا تجمع الكلمة ...

دعها رمادية

فاللون في الكلمات ضيعنا

دعها غمامية

فالخصب شردنا وجوعنا

دعها سديمية

فالشكل في الكلمات توهنا

دعها ترابية

لا تلقي نبض الروح في كلمة

    الاكثر قراءة