لقد تحدث
صلاح عبدالصبور عن
الموت فى دواوينه
جميعاً ولكن حديثه
فى ديوان “الإبحار
فى الذاكرة” أخذ
شكلاً جديداً، لقد
تحدث عن الموت
والموتى، وكان الموت
يهزه هزاً لكنه
لا يعنيه، لقد
تناوله بشكل تجريدى
فى قصيدته الحرية
والموت رأى فيها
أن الموت قدرا
مقدورا وأنه حقا
وأن الأجيال لو
خيرت ما تصنع
لاختارت الموت، كانت
الفكرة هنا تبدو
عقلية صارخة فى
عقلانيتها:
أقول لكم
إن الموت مقدور
وذلك حق
ولكن ليس
هذا الموت حتف
الأنف
تعالوا خيروا
الأجيال أن تختار
ما تصنع
لكى توسع
لمن يتبع
فلن تختار
غير الموت “ص
172”
ويستخدم الموت
فى قصيدة “الظل
والصليب” ليعبر عن
حالة صادقة من
حالات مواجهته لنفسه،
فليس الموضوع هنا
موضوع الموت وإنما
هو عرى الإنسان
وفقرة لقد رجع
بحار الموت دون
موت، وحين أتاه
الموت لم يجد
لديه ما يميته وعاد
دون موت “ص
149” ويجد فى الموت
صيده الصوفى بشر
الحافى عقاباً لتردى
العالم فهو يتمناه
إنه عقاب إلهى
لكون لا يصلحه
غير الموت.
تغير إحساسه
بالموت فى ديوانه
“شجر الليل” بأن
شعوره بترك الشعر
قد بدأ فى
هذا الديوان ليس
الوضوح الذى ظهر
به فى ديوانه
الإبحار فى الذاكرة
ولكن الشاعر بدأ
فى الظهور فيه،
بشعور يثقل الحياة
للناس والتساؤل عن
قيمة ما يصنع،
والألم من كل
ذلك عبء ترك
صديقه الشعر له،
جعل حساسيته مفرطة
تجاه ذلك، فيصرخ
وكأنه يتمنى الموت
فى قصيدة “تأملات
ليلية” لا شيء
يعينك لا شيء
يعينك، ويكرر الجمل
بكلماتها فى مقطع
كامل “ص 12” ويتحول الموت
إلى عذاب شخصى
يمس الشاعر نفسه،
ففى قصيدة “تنويعات”
يتضخم إحساسه بالموت
فيري: “أن الإنسان
هو الموت” ويكرر
الجملة ست مرات
ليصبح فيها الزمن
ميتاً.
وفى ديوان
“الإبحار فى الذاكرة”
يتداخل الموت مع
صلاح عبدالصبور، إنه
لا يتحدث عنه
كشيء خارجى وإنما
يتحدث عن خصوصية
علاقته به.. ففى أزمة
بعد الشعور عنه
وبالتالى تغير رؤيته
للآخرين وحساسيته إزاء
المحيط الملتف به
يعلن أنه يضيق
بحاله وبأكاذيبه ويتمنى
لو يلتف على
عنقه أحد الحبلين،
حبل الصدق أو
حبل الصمت، وكلاهما
يعنى الموت، إذن
لقد اشتدت أزمة
صلاح عبدالصبور مع
الشعر إلى حد
جعل الموت أمنية..
ومن هنا كان
ينتظر هدأة موته،
لقد كانت حياته
فى الشعر ولا
حياة له بغيره،
وفى قصيدة “شذرات
من حكاية متكررة
وحزينة” يلتحم مع
التصوف التحاماً، ولا
يمكن أن ينظر
إلى هذه القصيدة
دون التوقف عند
مدلول الزمر الصوفى،
أن يتغزل غزل
الصوفى ويتوقف عند
الحبيبة وقد توهج
مفرقها للنور وتهدل
سالفتاها كالذهب المصهور،
هنا يذكر الشاعر
أن الحرف المستور
قد يكشف للصوفى
المغمور إن أخلص
للعشق وتستبدل كلمة
الشاعر بكلمة الوصفى
ليصبح الشاعر المنصور،
فلقد أدرك هنا
أن الإلهام الشعرى
ليس حكراً عليه
وإنما قد يأتى
لمن يخلص لفنه
ولو كان مغموراً
كالطلسم المسحور قد
يلقيه الموج لصياد
مقهور إن وافق
الرزق إنه يقول
هذه القصيدة فى
لحظة عودة شعرية
فيرى أنها النور
ويتعجب من عطاء
ربه له إن
هذه المرأة الجميلة
هى الشعر لينظرها
فى صحراء الوقت،
ويستشعر وقعها فى
صخر الصمت فتعروه
البهجة إنه فى
هذه اللحظة، لحظة
عودة الشعر إليه
يفلته كالمطر المتقطع
حين الموت وهنا
يخافه، إنه وهو
يصرخ باحثاً عن
الشعر لا يأتيه
إلا ليتكلم عنه،
إنه يقف هنا
موقف الصوفى المتلقى
حين يأتيه الشعر
مفاجأة دون أن
يعد العدة وينقل
هنا حس الصوفى
فى لحظة التلقى.
تظل الطوالع
خرساء حتى يفاجئك
الوجد وحدك حين
تؤوب إلى ملل
الليل مستوحشاً أو
عليلاً فلا أنت
أعددت مائدة السكر
ولا أنت أرسلت
فى طلب النُدماء،
لقد جاءت الريح
جاءت وهزتك حتى
تساقط عنك الغصون
تفتحت عريانا مستوحداً
ونحيلاً “ص 88”.
لكن هذه
الحالة لم تستمر
وخشية حس الموت
تتوقف، ليفتح صلاح
عبدالصبور ذراعيه للموت
فقد بدا أنه
لم يحتمل المعاناة
والصبر على توقف
الشعر فإذا به
يختنق من صمته،
لقد كانت آخر
قصائد الديوان تجربة،
يخاطب صلاح عبدالصبور
ربه فقد أسقاه
ومشى الكأس فى
موطن السر ثم
ألزمه الصمت فتصيبه
الغصة ..
يارب.. يارب..
أسقيتنى حتى
إذا ما مشت
كأسك فى
موطن إسراري
ألزمتنى الصمت
وهذا أنا
أغص مخنوقاً
بأسرارى..
لقد قتل
الشعر صلاح عبدالصبور،
قتله وهو يبحث
عنه ليعيده إليه،
كان حساساً ليس
فى حياته حب
أكبر من الشعر
أدرك أنه منة
إلهية منحها وحين
أحسن أنها سلبت
منه لم يصبر
وإنما تعذب وأنهك،
لقد كانت رغبة
الموت لديه صارخة،
لذا فقد أسلم
نفسه للموت، لقد
قتلته الكلمة فهو
كما ذكر عن
نفسه، وسقطت سنابك
الكلمات “فللألفاظ سلطان
على الإنسان” “ص 173” وهو كما
قال فى ديوانه
“أحلام الفارس القديم”:
“اللفظ منية.. اللفظ حجر”
إن دراسة
“ديوان الإبحار فى
الذاكرة” بخلاف جميع
جميع دواوين صلاح
عبدالصبور يمكن أن
يقرأ على مستويين:
المستوى الأول ديوان
منفرد فى دائرة
دواوين صلاح عبدالصبور
بقطع النظر عن
حياته، والمستوى الثانى
أن يقرأ مع
إدراك المشاعر والأسى
المحرق والصراع المميت
الذى كان يعيشه
وهو يكتب كلمات
الديوان، تهوى القراءة
على المستوى الأول
بالديوان إلى أن
يوضع فى قاع
أعمال صلاح عبدالصبور
أما القراءة على
المستوى الثانى فإنها
ترتفع بالديوان لصدقه
وحساسيته إلى درجة
قل ما ارتفع
إليها ديوان شعر
عربى.
إن دراسة
هذا الديوان بأى
متهج نقدى بعيداً
عن رؤية الشاعر
لظلم له، فهو
يمثل صاحبه أدق
تمثيل ويتحول عند
معرفة الشاعر إلى
ديوان مأساوى، ولا
يمنع ذلك من
القول إنه يمثل
شيخوخة صلاح عبدالصبور
الشعرية ومحاولته أن
يقول الشعر من
صخر الإلهام مرحلة
نضوب بعد فيض
ومن هنا كان
لهذا الديوان وضع
خاص بالنسبة لشعر
الشاعر وأن علينا
أن نبحر به
فى ذاكرة شعره.