الأربعاء 15 مايو 2024

صلاح عبد الصبور الشاعر الواقعي والكوني

فن22-10-2020 | 13:53

يدرك المتأمل للفنون الأدبية وطبيعة تحولاتها أنها لا تأتي فجأة، وإنما تأخذ أشكالا ومسارب من لحظة البداية والنشأة مرورا بلحظة الاكتمال والوصول للذروة، وانتهاء بلحظة النهاية والاضمحلال والتلاشي، ليأتي مكانها توجه يثبت سيادته ومشروعيته، من خلال إسدال توجهاته الفكرية، وما يتجاوب معها من آليات فنية تتولد في إطارها.

يتجلى صدى هذا التحول واضحا خاصة إذا كان مرتبطا بنوع من المذهبية لها تأثير واضح في إبداعنا العربي، فلم يتخلص الشعر العربي من الأثر الرومانسي بالرغم من تعلقه بتوجهات إبداعية جديدة، وذلك لأن التوجه الرومانسي مرتبط بالإنساني الذي يلازمنا على الدوام، فقد أدى التحول من المفهوم الرومانسي إلى الواقعي إلى وجود أشكال بنائية جديدة، بالإضافة إلى تخلص الشعر من الغنائية المسرفة المرتبطة بالتقوقع الذاتي، فقد بدأ الشاعر يبدع نصه الشعري في إطار وجود مساحة فاصلة، تتيح له هذه المساحة الرؤية الحقيقية فقد عثر الشاعر العربي في توجهه الواقعي على وسائل وتقنيات إبداعية تهدد الغنائية السابقة المهيمنة في التوجه الرومانسي، وهذه الوسائل والتقنيات في الأساس وسائل موضوعيةلها أثرها في تشكيل مسافة للابتعاد حتى تتم المعاينة والمراقبة دون سيطرة فاعلة من الذات الشاعرة.

وقد أتاح البعد عن صوت الشاعر المباشر –بالإضافة إلى المساحة التي يؤسسها هذا البعد – للشعراء أن ينظروا للنص الشعري بوصفه كيانًا مستقلاً، يوجب الانتباه إلى قيمة البناء، وإلى قيمة الرصد الموضوعي الواقعي.

يعد صلاح عبد الصبور واحدًا من الأصوات الشعرية الرائدة، وقد كان لشعره الغنائي – بالإضافة إلى أشعار أخرى – دور فعال في التأسيس للشعر الحر، والمتأمل لكتابه «حياتي في الشعر» يدرك على نحو واضح وصريح، ذلك الترابط الخاص بين مفهومه للشعر والمفهوم الواقعي. يتجلى ذلك الترابط في جزئيات أساسية، تتصل بمفهوم الشعر، فقد تعرض في البداية لمفهوم الشعر الرومانسي، ورفضه؛ لأن هذا المفهوم يجعل القصيدة مجرد غناء تنهال فيه الخواطر والأحاسيس، دون رابط يكون شكلاً بنائيا للنص،حيث يقول عن هذا المنهج الإبداعي «إن هذا المنهج في كتابة القصيدة، كفيل بإنهاكها، ويجعلها وجودًا هلاميًا، يعسر الإحساس به. وفي ظني –أيضا – أن ما ينقص شعراؤنا هو هذه المقدرة على وضع أحاسيسهم وعواطفهم في نسق متكامل».

ونتيجة للرفض السابق للمفهوم الرومانسي، نجده يحاول أن يبين طُرق خاصة للشاعر، من خلال المفهوم الذي يعتنقه، فالشاعر – عندئذ – في حاجة إلى التحول عن النظر الداخلي أو ما يطلق عليه بعض نقادنا الآن – جريًا وراء مصطلح علم النفس – الاستبطان الذاتي، إلى النظر الخارجي في الكون والحياة.

وقد أدى إيمانه بفكرة التحول من مفهوم إلى مفهوم آخرإلى تكوين تصورات خاصة ترتبط بفكرة التجربة، التي كانت تمثل مصطلحًا نقدياً في ذلك الوقت، فهو يرى أن مدلولها تحت تأثير المفهوم الرومانسي قد انحسر في حدود التجربة العاطفية وحدها، في حين «أن التجربة بالمعنى الفني أو الفلسفي قد تعني كل فكرة عقلية أثرت في رؤية الإنسان للكون والكائنات، فضلاً عن الأحداث المعاينة التي قد تدفع الشاعر أو الفنان إلى التفكير».

والقارئ لشعر صلاح عبدالصبور يدرك أن هناك تقنيات إبداعية في شعره تجاوبت مع هذا التحول، وهي على الترتيب الإصرار على اليومي والعناية بالتفاصيل التي أدت بتراكمها وتوسعها في شعره إلى ميلاد تقنية أخرى تتمثل في تشكيل النموذج، وتتجاوب معها آلية السرد القصصي، وتعدد الأصوات، والقناع.

 لكن تأمل الآليات السابقةكما تجلت في شعر صلاح عبدالصبور لتشكيل الرؤية الموضوعية المحايدة، يؤدي إلى ميلاد تساؤل مهم وحيوي يرتبط بموضوعية هذه النصوص بعيدًا عن صوت الذات الشعرية المباشر؟ إن الإجابة عن السؤال السابق ليست سهلة أو يسيرة، خاصة في إطار النفي القاطع بين ثنائية الذات والموضوع،فالفصل بينهما يؤسس للثنائيات القاصرة في حياتنا الثقافية، تلك الثنائية التي تجعلنا مشدودين إلى أحد الجوانب، منهمكين في الاهتمام به. وهذه المغالاة تدفعنا بعيدًا عن رؤية الجدل الواضح والصريح بين الذاتي والموضوعي، الذي يتجلى في كل الجزئيات أو الآليات الفنية السابقة.

فإذا وقفنا عند جزئية «اليومي والعناية بالتفاصيل»، فإننا ندرك أن العناية باليومي أو التفاصيل، ليست منبتة عن الأنا الشاعرة، لأن الأنا –التي جاءت ضميرًا ساردًا في نص الحزن الشهير للشاعر – تظل صاحبة الفعل والمسيطرة بالرغم من تشظيها وتشتتها في الالتحام بالواقع، وتظل -أيضا- صاحبة الحركة بالرغم من تقديم الجزئيات الموضوعية في إطار سردي، بالإضافة إلى فعلي الاختيار والتحبيك في النص الشعري، فالشاعر- حتى في رصده الموضوعي- مشدود انطلاقا من ذاته لفعل الاختيار وفاعليته وارتباطه بالذات وحمولاتها الفكرية والأيديولوجية .

وفي الجزئية الثانية تشكيل النموذج تأتي جزئية الانتخاب وفاعلية الاختيار التي يعتمد من خلالها نموذجَا خاصًا متوافقًا مع رؤية الذات مشيرة إلى ذلك التداخل، فالإلحاح على نموذج مثل «عم مصطفى»،أو« زهران»، أو الفلاح في«موت فلاح»، لا يقدم واقعا موضوعياً صرفًا، بعيدًا عن رؤية الأنا الشاعرة . ويتمثل وجود الأنا في جزئية الانتخاب أو الاختيار؛لأن الحياة الواقعية تحفل بنماذج عديدة، وفي هذه الحالة سوف يكون الإلحاح على نسق الإنسان العادي الخالي من أي بعد سلطوي أو أسطوري إلحاحاً له صداه في تكوين المبدع، الذي ينطلق في إطار سياق حضاري كان يؤمن بفردية الهامش وقدرته على الوجود. وربما وجدنا ذلك الترابط واضحا في نص موت فلاح، فالسؤال المؤرق لصلاح عبدالصبور كان سؤالا وجوديا في الأساس، ومن ثم يمكن التوقف أمام هذا النص وقفة تتيح رؤية جديدة مغايرة، تحتفي بالإيمان البسيط بعيدا عن الأسئلة الوجودية:

لم يك يومًا مثلنا يستعجل الموتَ

لأنه كل صباح ، كان يصنع الحياة في التراب

ولم يكن كدأبنا يلغط بالفلسفة الميته.

لأنه لا يجد الوقتَ

بالإضافة إلى جزئية الانتخاب التي تشير إلى جزئية ذاتية في النص المقدم، نجد أن هناك –أيضا- زاوية الرؤية، التي تولد حالة من التعاطف يبديها الراصد، مما يضفي على النموذج هالة خاصة نابعة من نمطيتها فالثابت من استقراء النصوص في الشعر الرومانسي بتجلياته العديدة أن هناك ميلاً نحو تثبيت أو تكون معين ينطلق من استبطان الذات، للدخول إلى عوالم مجنحة تمزج المتناقضات بشكل هلامي.أما في إطار شعر التفعيلة،وخاصة في إبداع الجيل الأول، فسنجد أن هناك ميلاً للعناية بالعادي والهامش ومحاولة بناء أطر خاصة لتوليد الجمال من النماذج العادية المتشابهة مع الآخرين.

وفي السرد القصصي نجد أن هناك تقنية لا تختلف كثيرًا عن تشكيل النموذج، فهناك دائرة من التشابه والتداخل بينهما، يتجلى ذلك حين نتأمل الضمير السارد في النصوص التي تحفل فنيا بتشكيل النموذج، والنموذج الخاص بالسرد القصصي « المرأة والشمس »، فالمتأمل سوف يدرك أن الضمير السارد ضمير الغائب، وهذا الاستخدام يكوِّن- كما يقول محمد عبد المطلب – انفصالاً داخلياً في الذات بحيث يكون أحد طرفيها هو الحاضر المتكلم، ويكون الآخر ما يدور عنه الكلام».

وفي قصيدة «المرأة والشمس» الكاشفة عن جزئية السرد القصصي، يتجلى الذاتي – في إطار جدله مع الموضوعي – في التوقف عند نقطة النهاية والمشيب، وجدلها الأساس مع لحظات سابقة:

هزت نهديها الممطوطين

بحثت بينهما عن مفتاح الغرفة

نظرت تتلمس خطوتها في الرمل

وقامت مرهقة شمطاء

أخذت من أول دكان،

ما يكفيها من خبز ونبيذ ودخان

ذهبت كي ترقد في ماضيها

تنشئه إنشاء

الصبح يشدّ ذؤابات الشمس العذراء

ويفرشها الحصباء

كانت تتبسم ميتة،

ويداها في نهديها

فمها يتحلب ماء.

هذا الحضور الفعلي للمشيب واقعًا آنياً، بالإضافة إلى حضور الشباب واقعًا ذهنيًا، يمثل نمطًا إنسانيًا عاليًا، يجعل المتلقي – أيضا – يشارك في تأمل فاعلية وحدود الاختيار وأيديولوجيته، فنص المرأة والشمس يحمل عناصر مهمة أهمها التكثيف، بمعنى أن النص لم تستوقفه الثرثرة والتفاصيل القصصية، ولم يسيطر القصصي على الشعري، فظلت آليات القص واردة في نسق أكبر استطاع أن يكيفها وفق نسجه الجمالي الخاص.

أما في تعدد الأصوات، التي تمثل بداية للكتابة الدرامية التي تجلت بعد ذلك في مسرحه الشعري، فنجد أنها تقنية تتيح للذات الشاعرة أن تضع نفسها في أماكن شخصيات مختلفة في الرؤية، وتحاول التعبير عنها في إطار وجهة نظرها وفلسفتها، ولكن في هذه الجزئية – أيضاً – يستطيع المتلقي أن يشعر بوجود الذات وباهتماماتها حتى في أصوات الآخرين.ففي نص «أربعة أصوات ليلية للمدينة المتألمة»، نشعر أن هناك جزئيات متجاوبة تصل إلى حد التطابق في صوت«الصوت»، وفي صوت الشاعر في الجزء الرابع منها – على سبيل المثال –  نجد القلق الوجودي الخاص، المرتبط لدى الصوت «بالليل» الذي لا يعطي برقًا ضوئياً كاشفًا، وفي صوت الشاعر يتمثل ذلك القلق في الإحساس بدبيب النهاية كل مساء.

وتأتي جزئية القناع – جلية واضحة – كما في (مذكرات الصوفي بشر الحافي) لتعبر عن هذا الجدل الخاص بين الصوت أو الأنا الشاعرة وصوت القناع، بحيث تتكون هوية جديدة تحمل بعضًا من الصوت الأول، وبعضاً من القناع.

إن هذه التقنيات التي يمكن أن نطلق عليها التقنيات الموضوعية صاحبها تقنيات أخرى تكونت في إطارها، ربما كانت جديرة بالبحث والاهتمام في ذلك الإطار، يتمثل أهمها في النسق التقريري الخاص بلغة الشاعر، فلغته لا تكوّن مجازات خارقة للنسق المعهود أو المقرر، ولكنها تحاول أن تشكل جماليات قائمة على التقريري والسردي، المرتبط بالضرورة – باليومي والحياتي والمعيشي.

ولكن ما يعطي شعر صلاح عبدالصبور قيمته الحقيقية يتمثل في ارتباط شعريته – حتى في إطار التحامها بالموضوعي وجدلها وانتسابها إلى الذاتي في التحليل الأخير- بالتوجه الإنساني العام أو الكوني، وهو توجه يتولد من القراءة الفاحصة لديوانه التي تثبت إيمانه بأن الفن- أي فن حقيقي- لا يزدهر إلا من خلال تربة إنسانية، بعيدا عن حمولات أيديولوجية أو قومية أو دينية ضيقة، وإنما الانحياز كله للإنساني في مداه الرحب، وإلى الأفكار المجردة مثل الخير والحب والجمال والعدل.