الأربعاء 27 نوفمبر 2024

فن

من تقنية الثقافة إلى ثقافة التقنية

  • 22-10-2020 | 14:12

طباعة

في عصر مليء بتأثير وسائل الاتصال الاجتماعي على مختلف مناحي الحياة البشرية ، حاولت العديد من الدراسات الاهتمام بعلاقة التأثير والتأثر بين التقنية والثقافة ، وبعيداً عن الدراسات التقليدية والنمطية التي تركز فى أغلبها على دور أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فى تطوير الأداء الثقافي ، فالأهم من وجهة نظري فى ضوء النظريات الحديثة الإسهام الذى ساهمت فيه تلك الوسائل فى إنتاج أشكال جديدة من الإبداع الأدبي والفكرى الرقمي ، وفى المقابل فقد بذل العلماء والمخترعون جهداً كبيراً في جعل الكمبيوتر يقوم بالكثير من وظائف الإنسان بكفاءة ، فهل تنجح العملية العكسية بجعل الإنسان كالحاسب الآلي تحكمه قوانين صارمة وأنظمة وبرمجيات توجه تفكيره وسلوكه وتحكم تصرفاته ؟!

التكنولوجيا الرقمية ومنها الوسائط الاجتماعية بمثابة تطور طبيعي للأساليب  التقليدية والتي تفرض سنن الحياة والواقع والحاجة البشرية تطورها لتلائم وتواكب مجريات الحياة المعاصرة والسريعة والجديدة؛ ومن هنا تكمن  العقبات والنتائج من التخلف عن ركب الحضارة والتقدم في المجال الشبكي للربط بين الأفراد والجماعات والمؤسسات على مستوى العالم ، ففي هذه  الحالة سنخرج من القطار السريع للمعرفة، وعند العودة لن نجد مكاننا، لأن هناك من ينتظرون أن تترك لهم هذا المكان.

الثقافة الرقمية لها سمات عديدة أبرزها، نشر المعلومات والتطبيقات والمواد النصية، والسمعية والبصرية، على شبكة الإنترنت ، ومن هنا تأتي فكرة الانتشار السريع والفعال لتلك التطبيقات على نطاق واسع بما يحقق ثراء المعرفة البشرية  والثقافة الإنسانية؛ كما أن مواقع التواصل الاجتماعي والثقافي تساعد على إنتاج وسائل ووسائط تسهل من وصول الرسالة الثقافية وتحسن من صياغتها وأدواتها والقائمين عليها، وتقوم بإضافة منتجين ومبدعين جدد عن طريق سهولة التعامل مع أدواته ، والتغلب على العوامل الجغرافية والاقتصادية التي غالباً ما تحول دون ذلك.

ومنذ فترة طويلة قررت أن أحدد لنفسي مشروعاً ثقافياً مميزاً ، ووجدت ضالتي في (الثقافة الرقمية) وعلى الرغم من المحاولات الجادة من الرواد الكبار في هذا المجال ، إلا أنني وجدت مع كثرة المنشورات المتناثرة حول الموضوع هناك ضآلة في المعرفة ، ولأن المجال تزداد أهميته يوماً بعد آخر فقد حاولت في معظم مؤلفاتي نشر الوعي بأهمية الثقافة الرقمية ودورها في حياتنا المعاصرة ، والثقافة الرقمية ليست رفاهية لكونها المحيط الذي نعيش بداخله بفضل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات.

وحدث أن دخلت مرة في نقاش مع أحد أصدقائنا المعترضين على مصطلح الثقافة الرقمية ، وكان لابد من توضيح الغموض والارتباك حوله ، وهو غموض لا يقل عن الأزمة التي يحملها مصطلح الثقافة وحده ، فمنذ خمسين سنة  كتب عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين  "الثقافة كلمة نرددها كل يوم فيما نقول وما نكتب . وقليل منا يحققها في ذهنه ويستطيع أن يعرب إعراباً صحيحاً دقيقاً عن معناها شأنها في ذلك شأن ألفاظ كثيرة تنطق بها الألسنة وتجرى بها الأقلام وليس لها في نفوس الذين ينطقون بها معنى واضح أو صورة لا أقول دقيقة بل مقاربة".

ونفس الموضوع ينطبق على الثقافة الرقمية ، فنحن نعيشها كل يوم ، وتستحوذ  مواقع التواصل الاجتماعي على عقول وقلوب الملايين ، لدرجة أن معظم الأجيال الجديدة لا تتخيل كيف كان يعيش آباؤهم وأجدادهم قبل تلك الثقافة الإلكترونية الحديثة. 

أصبحت تلك المواقع  والتطبيقات وأبرزها "فيسبوك – تويتر – يوتيوب – إنستجرام – سناب شات .. إلخ" بمثابة دول عظمى ، وتخلق مواطنة عالمية وحوار ثقافات وأفكارًا مختلفة ومتجددة كل بضع ثوانٍ.

ولعل أهم مظاهر الثقافة الرقمية بالنسبة للقراء يكمن في تبادل الأخبار والمحتوى  المعرفي بين أكبر عدد ممكن من الناس ، والتعارف والتواصل الاجتماعي ، وتغيير سلوك القارئ – لا المتلقي –  في عصر مواقع التواصل الاجتماعي ، فأصبح لا يقتصر على مجرد قراءة النص ولكن نقده وإعادة إنتاجه، واستغلاله في حياته الشخصية، ونظرته للعالم من حوله ، وهو ما يؤكد على مبدأ "القراءة من أجل الحياة" في ظل  الثورة العلمية والتكنولوجية العالمية وتفعيل دور القارئ في المجتمع والبيئة المحيطة.

نعود إلى مصطلح الثقافة، فمعظم تعريفاتها تشير إلى أنها وسيلة اتصال وأداة تواصل فكري ولغوي، وهو ما تفعله بالضبط الثقافة الرقمية حالياً ، فتعريف كوينسي رايت يذكر أن "الثقافة هي النمو التراكمي للتقنيات والعادات والمعتقدات لشعب من الشعوب، يعيش في حالة الاتصال المستمر بين أفراده" ، بينما يوضح مالينوفسكي أن "الثقافة هي جهاز فعال ينتقل بالإنسان إلى وضع أفضل، وضع يواكب المشاكل والطروح الخاصة التي تواجهه في هذا المجتمع أو ذاك، في بيئته وفي سياق تلبيته لحاجاته الأساسية".

وأصل كلمة ثقافة بالعربية من الجذر (ثَقَفَ) ، وقد بين ابن منظور في لسان العرب أن معنى ثَقَفَ: جدّد وسوّى، مما يشير إلى أن الصفة الأساسية للثقافة التجدد والتطور المستمر.

ولأن العالم من حولنا لا يتوقف كثيراً مثلنا أمام الإشكاليات المفاهيمية ، فقد انطلق الباحثون في مجال الثقافة الرقمية ليبدعوا وينتجوا أفكاراً مهمة لوضع الرقمية ضمن سياق الثقافات الإنسانية.

فيذكر المفكر الكبير ميلاد دويهي أحد أهم المتخصصين في هذا المجال وأستاذ كرسي الثقافات الرقمية بجامعة لافال (كيبك) في كتابه المهم ( من أجل ثقافة إنسانية رقمية  Pour Un Humanisme Numérique) أننا بصدد ثقافة إنسانية رابعة تشكل حصيلة التقارب بين التراث الثقافي المعقد والتقنية التي أصبحت الآن ملتقى لكل البشر في صورة لم تحدث من قبل ، فالتكنولوجيا الرقمية لا تغير فقط السلوك بل كل البيئة الثقافية المحيطة.

كما هدم لوتشيانو فلوريدي وهو من أبرز الباحثين في الفلسفة المعاصرة وعلاقتها بتكنولوجيا المعلومات  في كتابه "الثورة الرابعة .. كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني The Fourth Revolution How the Infosphere is Reshaping Human Reality "–  نشرته سلسلة عالم المعرفة الكويتية بترجمة لؤي عبد المجيد السيد في عدد سبتمبر 2017 - الكثير من النظريات الراسخة في تكنولوجيا المعلومات ، وأهمها أننا نعيش في عالمين، افتراضي على الشبكات الاجتماعية ، وآخر واقعي ملموس في حياتنا العادية ، فيشير الكاتب إلى أن البشر جميعاً الآن مؤهلون للحياة بالفعل داخل الغلاف المعلوماتي

"الإنفوسفير" وهو ما يظهر في مختلف مناحي الحياة.

ويذكر فلوريدي أن تكنولوجيا المعلومات والاتصالات تدخل تعديلات على طبيعة الواقع ذاته ،ومن ثم على مفهومنا له ،عبر تحويله إلى إنفوسفير "غلاف معلوماتي" ، والإنفوسفير هو تعبير جديد،ابتُدع في السبعينيات،يستند هذا التعبير إلى مصطلح " Biosphere الغلاف الحيوي"ويشير إلى تلك المنطقة المحدودة على كوكبنا التي تسمح بالحياة،ويدل الإنفوسفير على أن البيئة المعلوماتية برمتها تتألف من جميع الكيانات المعلوماتية،وخصائصها،وتفاعلاتها،وعملياتها،وعلاقاتها المتبادلة. فيما تجيء مختلفة عن الفضاء السيبراني" الفضاءالإلكتروني" الذي لا يتجاوز كونه إحدى مناطقها الفرعية،إن جاز التعبير؛الإنفوسفير يشمل أيضا فضاءات المعلومات غير المتصلة ،ويمكن استخدام مفهوم الإنفوسفير كمرادف للواقع،حالما نفسر الواقع معلوماتيًا. في هذه الحالة،الإيحاء هو أن ما هو حقيقي هو معلوماتي وما هو معلوماتي هو حقيقي.

وأشار مارسيلو داسكال بأحد مقالاته المهمة عن الثقافة الرقمية  إلى أن خطى التطور التقني أصبحت سريعة بشكل يفوق خطى التطور الثقافي الذي كان بدوره أسرع من التطور البيولوجي ، وتنتج المستجدات والتطورات في مجال التكنولوجيا من الحشد الهائل للإبداع أو القدرة الإنسانية على التجديد في سبيل البحث عن المكاسب والفوائد . ولا يستطيع أحد أن يتحكم في الاتجاه الذي يسلكه التطور التكنولوجي لأنه هو الذي يوجهنا.

وتشير الاتجاهات السابق ذكرها إلى مخاطر حتمية أبرزها الضرر الواقع على المؤلفين والناشرين فى ظل إتاحة الفرصة  للتحميل العشوائي للكتب بدون قيود أو مراقبة  بالإضافة إلى ضياع حقوق الملكية الفكرية.

وينبغي التأكيد على أن الإنترنت بيئة مفتوحة وغير محكومة بضوابط أخلاقية فيستغل البعض ذلك في النفاذ إلى الجماهير الإلكترونية العريضة ومن ثم إثارة الغرائز وتشجيع الخلافات الثقافية بين الأفراد والجماعات و محاولة هدم المجتمعات والدول سواء كان ذلك موجهاً بدافع شخصي أو رغبة مجموعة معادية.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة