الأحد 19 مايو 2024

الوباء الذي يهدد الصحافة المصرية

فن22-10-2020 | 14:14

طلبت مجلة الهلال الموقرة مني الكتابة عن التأثير المتبادل بين الصحافة والسوشيال ميديا، فوجدتني أعود بالذاكرة لست سنوات إلى الوراء وأدون وجهة نظري من خلال المشاهد التالية.

-1-

في نهاية نوفمبر من العام 2013 استضافني مركز ثقافي لم يعد موجودا الآن في ندوة اخترت أنا عنوانها وكان "بلاوي الصحافة في زمن الفيس بوك"، قلت وقتها إنني هدفت من تعبير "بلاوي" وهي كلمة عربية فصحى لفت الانتباه لحجم المخاطر التي تحيط بمهنة الكتابة بسبب مواقع التواصل الاجتماعي، كنا لا نزال نعيش توابع ثورتي يناير 2011 ثم يونيو 2013 حيث الكل يشكو من سطوة السوشيال ميديا ويتساءل إلى أين تذهب الصحافة، وإلى أي حد تأثرت سلبا أو إيجابا بما فعلته بنا مواقع التواصل الاجتماعي، الآن في أغسطس 2019 أي بعد نحو 6 سنوات مازلنا نكتب عن نفس القضية لكن "البلاوي" تحولت بدون أدنى مبالغة إلى " أوبئة" والصحافة باتت تحت رحمة السوشيال ميديا وكل جهود الإنقاذ غير كافية إما بسبب غياب الأدوات اللازمة لإحياء المهنة وجعلها قادرة على استعادة ثقة الجمهور الذي أدمن الفيسبوك وتويتر أو لأن نية الإنقاذ نفسها غير موجودة من الأساس.

-2 –

في عدة ندوات شاركت فيها في الشهور الأخيرة طرحت هذا السؤال على كل من يقول إن السوشيال ميديا هي الجاني والصحافة هي الضحية، السؤال هو : عرفنا تأثير الفيس بوك من 2011 ، شاهدنا ولم يحكِ لنا أحد كيف يفعل بالرأي العام، عاصرنا حروبا إعلامية سلاحها الوحيد المنشورات والصور والفيديوهات حقيقية كانت أم مفبركة، طول هذه الفترة ورغم قيام ثورتين، لماذا لم نجد أي تطور في صفحة رسمية منسوبة لأي جريدة قومية كبرى، أي لماذا لم تكلف هذه الصحف ورغم تغير الظروف عدة مرات، فريقا من جيل متطور من المحررين لإعادة تأهيل رسالة وشكل الجريدة عبر السوشيال ميديا بشكل يحمل إبداعا ومهنية وجاذبية ويجعل الملايين من المصريين يقصدون تلك الصفحة للحصول على الأخبار والحقائق أو نفى الشائعات بدلا من تركهم في عراء مليء بالشائعات والمغالطات الممزوجة بالإحباطات والصادر عن أولئك الذين نجحوا في الوصول لعقول المصريين، فيما نكتفي نحن بصب اللعنات على السوشيال ميديا ليل نهار ؟ سؤال لا أزال أطرحه وإن كنت لا أتوقع إجابة مقنعة من المنوط بهم الرد عليه، فحجة غياب الإمكانات جاهزة دائما، والالتزام باللوائح يعيق أي تقدم.

-3 –

الأمر الآن على أرض الواقع أن الناس باتت تصدق ما يرضيهم، وليس ما هو الحقيقة، ولم تعد للصحافة قدرتها على توجيه الرأي العام، بعدما انسحبت طواعية أو لغياب الإرادة من أمام السوشيال ميديا، بل المفارقة أن المحاولات التي قامت بها الصحف للتقرب من جمهور السوشيال ميديا جاءت بنتائج عكسية، فكلما نشرت صحيفة عنوانا أو تصميما أو نكتة يقولون عنها "كوميكس" أقرب لقاموس السوشيال ميديا انتقض المنتقدون وقالوا إن الصحافة لا يصح أن تتعامل بهذا الأسلوب، رغم أنه نفس أسلوب صفحات مليونية الأعضاء يتابعها الجمهور ويبتهج بما تقدم فما الفرق إذن؟ الصحفيون يقولون "رضينا بالسوشيال ميديا وجمهورها ما رضيش بينا"، وأنا أقول إن الجمهور ينتقم من الصحافة التي يعتبرها لا تنحاز له ويحاسب جريدة بأكملها ربما بسبب كاتب عامود يعتبرها غير منصفة، أما صفحات الفيس بوك فهم لا يعرفون من يقف وراءها، يتعاملون مع "الأدمن" باعتباره صديقا غير منظور، يكلمونه بأريحية، يشتمونه، يؤيدونه، يسخرون منه دون خوف، لا يعرف القراء الأعزاء أنه حتى "أدمنز" صفحات الفيس بوك لديهم أهواء وحسابات وأن بعضهم أصبح ميلونيرا من ورائها، وبعض القراء باتوا مثل جيش طارق بن زياد، الصحافة وراءهم لا يريدون العودة إليها، وصفحات الفيس بوك الموجهة لو تجاهلونها لن يجدوا ما يتابعون.

-4 –

الوباء انتشر نعم، لكن الوقت لاكتشاف العلاج لم يمر بعد، الصحافة قادرة على العودة والنهوض وصفع السوشيال ميديا صفعة انتقام تخلص ما فعلته بالصحفيين في السنوات العشر الأخيرة، لكن الدواء مر، ومرارته أنه من بين من ينتقدون سطوة السوشيال ميديا من يريدون للصحافة أن تذهب إلى قبرها دون ضجيج، بالتالي على هؤلاء أولا أن يدركوا أن نار الصحافة أفضل بكثير من جنة غياب وسائل التواصل مع الجمهور، وترك الرأي العام عرضة لصفحات الفيس بوك وهاشتاجات التويتر وقلوب الإنستجرام وما يستجد من اختراعات، حتى أصحابها أقروا بأنها خرجت عن الطوق وأن السيطرة عليها شبه مستحيلة.

-5-

المطلوب أولا أن نتوقف عن منافسة السوشيال ميديا، وأن تقدم الصحافة بلغة متطورة محتوى يناسب مواقع التواصل الاجتماعي، أن نتوقف عن التعامل بطريقة رد الفعل، مثل أن نجمع الشائعات التي تنشرها الصفحات مجهولة المصدر أو الممولة من الخارج، ونقوم بالرد عليها، هذا أمر محمود، لكنه ليس كل شيء، من البداية يجب أن نسأل هل هناك محتوى إيجابي بعيدٌ عن الشائعات لم يصل للناس، هل هناك قنوات وصحف تقدم محتوى مرئيا ومطبوعا ومسموعا وغير موجود عبر السوشيال ميديا، تخيلوا لو أن أرشيف الأهرام، والهلال، وأخبار اليوم، وروزاليوسف، بات سهل المنال عبر السوشيال ميديا وبطريقة تحمي حقوق النشر، الوقت الذي سيستغرقه الجمهور لمتابعته سيخصم من وقت الخوض في مستنقع الشائعات، سنكون كمن يحمي شابا من الإدمان بإبعاده عن أصدقاء السوء، لكن الإبعاد هنا لا يكون على طريقة ما يحدث هذه الأيام " السوشيال ميديا وحشة يا حبيبي متقربش منها دي كلها أكاذيب"، ولكن الإبعاد يكون دائما بتوفير البديل، باستعادة ثقة الناس بالصحافة، بأن تكلمهم الصحافة بما يليق بقاموس هذه الأيام لكن دون النزول لمستوى "أساحبي"  وشركاه .

-6 –

البلاوي تحولت إلى "وباء" في ست سنوات، ولا نعلم إلى ماذا ستصير قريبا، لكن ما ندركه بدقة أنه بات من المستحيل الحؤول بين الناس ومواقع التواصل الاجتماعي، فلن يجلس الناس صامتون في وسائل المواصلات وأماكن المتنزهات ، المحمول في يد الجميع، ومعه كل التطبيقات، والحل هو أن نبدأ من الآن في تصنيع الدواء وتوفيره لمواجهة وباء كاد أن يفتت المجتمع ويجعل لكل فرد رأيا غير الآخر رغم أن كلا الرأيين قد يكونا  فاسدين.  

    الاكثر قراءة