"استدرت أنظر للباب الغريب الموارب بينما تنازعنى الحيرة بين
تلبية تلك الدعوة بالدخول وبين رفضها، فجأة تذكرت الباب الذى دخلت منه فاستدرت
إليه خائفًا أن أراه وقد أغلق دونى، ولكنى وجدته مفتوحًا على مصراعيه كما كان.
هو الاختيار إذن؟
هل أنضم إلى النادى أم أعود كما أتيت؟
رميت بنظرى- دون أن أتحرك من مكانى – إلى ذلك الفراغ الذى يبدو من
فرجة الباب الموارب.
لم أر إلا الظلام ولم يتسلل خارجًا إلا الصمت، ماذا لو دخلت إلى هناك؟
ماذا سأجد؟ مقبرة فرعونية؟ يا لغبائى، إنه نادٍ (فى هذا المكان الغريب؟).. وقد
قُبلت عضويتى (من قبلها)؟..هل هناك أعضاء آخرون فى هذا النادى؟( لماذا لا أسمع لهم
صوتا؟)."
هذه العبارات ليست سوى كلمات جاءت على لسان أحد أبطال رواية الكاتب
الروائى سامح الجباس"نادي النيل الأسود السري"، وهى التجربة الروائية
الأحدث فى سلسلة الأعمال للكاتب ،والتى
بدأها بمجموعته القصصية الأولى "المواطن المثالي" عام 2006، ثم رواية "حي
الإفرنج" عام 2008، و"وسط البلد" عام 2009، و"ساحر" عام
2009، ورواية "بورتوسعيد"عام 2011،الحائزة على جائزة اتحاد كتاب مصر فى
الرواية لعام 2013، و"كريسماس القاهرة" عام 2011م وهي الرواية الحائزة
على جائزة إحسان عبد القدوس عام 2012، فيما حصل الجباس على جائزة كتارا للرواية
العربية عام 2015 عن رواية "حبل قديم وعقدة مشدودة"، وفاز بجائزة كتارا
فى الدراما عن الرواية نفسها ،كما تُرجمت الرواية إلى اللغة الإنجليزية واللغة الفرنسية،
ورواية "على سبيل المثال" فى عام 2017، وفى مجال الترجمة كان للجباس إسهامات
أيضا من خلال رواية "الكائن" لـفردريك براون ورواية "فئران ورجال
لـ جون شتاينبك.
وتقع رواية "نادى النيل الأسود السرى"
في 174 صفحة،وتدور أحداثها حول تلقى الشرطة المصرية تقارير تفيد باختفاء عدد
من الأشخاص بدون سبب واضح من مدن مختلفة لا يعرف بعضهم بعضا، ثم تجد الشرطة بعض
الأوراق والأقراص المدمجة مُلقاة فى أماكن متفرقة بالقرب من نهر النيل، وتكتشف
الشرطة أن هناك ناديا سريا فتسعى للتعرف إلى أعضائه، ليكتشف القارئ بين طيات
الرواية أن هناك تاريخا ضائعا للبلاد، تتناقض معه حياتنا المعاصرة.
ففى كل فصل من فصول الرواية يحكى أحد المشتبه بهم المختفون ما حدث له
حتى وجد نفسه فى هذا النادى السرى، كل منهم يأتى بطريقة مختلفة وبظروف ومشاعر
ومعتقدات وأفكار متباينة ، بهموم وأثقال الحياة المتعبة فى أحيان كثيرة،ففى صـ 40
من الرواية يسرد الروائى مشاعر أحد أبطال الرواية وهو المشتبه به "ب".. "تعلمت
أن أملأ حياتى بالرغبات، بالقلق، وبالأفعال المحسوبة..أردت أن أصل إلى حدود لا
أقدر على احتوائها . أن أتصل بجوهرى، فهذه قيمة لا تُقدر...أن أخضع فوضاى لأى نظام
، أن أملأ قلبى بآلام جديدة ، وأن أقاتل القوى السوداء فى كيانى...من قلب العادة
والملل.. يمكن أن تنبت بذرة الأحلام".
ومن خلال صفحات الرواية تكتشف أن نادى النيل الأسود السرى له أماكن
دخول سرية بالقرب من نهر النيل،مع كل حكاية يقصها أحد المختفين نكتشف وجود حكاية
أخرى لشخصية مصرية تاريخية حقيقية عاشت قديمُا ونسيها التاريخ وكانت لها إنجازات
هامة وتوارت عن مرأى ومسمع الناس، من تلك الحكاية وغيرها من الحكايات نصنع تاريخنا
"الحقيقى"، تاريخنا كما عاشه الناس وليس كما كتبه "البعض"..
ورواية "نادى النيل الأسود السرى" تأخذنا وتتنقل بنا بين
أرجاء العاصمة إحدى أقدم العواصم العالمية
"القاهرة" بماضيها وحاضرها ونهارها وليلها، وبكل تفاصيل مبانيها القديمة والأثرية وشوارعها العتيقة بكافة تفاصيلها
الدقيقة سواء فى وصف المواطن العادى، وتفاصيل الحواري والأزقة العتيقة،من خلال رحلات تأملية
في أحوال البشر والشوارع والأمكنة، مناطق وسط البلد، ومترو الأنفاق، وشارع قصر
العيني، وقصور مصر المهمة، وفيلات جاردن سيتي،وأمكنة أخرى عتيدة، ومهشمة،وهوما
يسرده الروائى بين صفحات الرواية من خلال" أحفظ محطات المترو عن ظهر قلب،
وأعرف أنني سأنزل بعد سبع محطات، يستوقفنى ذلك التعبير المشترك الذى يرتسم على
وجوه الجميع عندما يصل المترو إلى أى محطة، فالراكبون يمدون أعناقهم بفضول يمسحون
وجوه الواقفين على المحطة ، والمنتظرون يتفحصون وجوه النازلين والماكثين فى المترو
باهتمام أكبر، الجميع يبحث عن شيء ما ، أو شخص ما هناك دائمًا وجه مفقود أو إحساس
تائه، أو ابتسامة مرجوة، نبحث جميعًا عن
شيء لا نعرفه فى هذا العالم الناقص المتناقض كالأبدية".
ففى سرد ممتع للقارئي للتفاصيل يبحر
بنا سامح الجباس بين صفحات روايته مع امتزاج ذلك بمعلومات تاريخية قيمة عن أحداث
وشخصيات حقيقية، بالإضافة للتعرض للمشاكل اليومية التى تواجه المصريين، مرورًا
بالتعرض لقضايا مثل التلوث والإرهاب وتجار الأعضاء للبشر وغيرها، معلومات يستقيها
القارئ طول صفحات الرواية مما يعكس ضرورة أن يكون للعمل الأدبى هدف واضح سواء كان
ذلك بإرسال رسالة أو غرس قيمة، أو إضافة معرفة ومعلومة مفيدة للقارئ وليس سرد
حكاية وقصة ممتعة وشيقة فحسب.
وتمزج الرواية بين التشويق والغرائبية،حيث وصفها الكاتب الكبير
إبراهيم عبدالمجيد فى كلمته بنهاية الرواية "إنها تجربة فنية غير
تقليدية ورواية محفزة وكاشفة، يكشف بناؤها
وموضوعها معًا عن أسرارها ...تحتفى احتفاءً خاصًا بالمكان وبالأشخاص، مع براعة فى
نسج الحكايات بسرد يمتلك قوة ورشاقة مدهشتين كما تعودنا مع سامح الجباس".
من خلال هذه الرواية يبدو واضحًا أن
الروائى سامح الجباس لا يسعى للبحث فى تقديم فكرة جديدة فحسب، ولكن
أيضاً يهتم باستخدام أسلوب وطريقة مختلفين فى كل رواية يكتبها حيث يقدم عملا يحترم
القارئ ويقدم إضافة جديدة لعالمه الروائى الذى يحاول أن يرسمه لنفسه منذ صدور أول
رواية له.