السبت 18 مايو 2024

"لماذا لا يعلن أردوغان الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة بحد السيف?" فصل من كتاب إسلام أردوغان لـ"سعيد شعيب"

فن22-10-2020 | 16:00

"الهلال اليوم"، تنشر فصلًا من كتاب "إيلام أردوغان، للكاتب سعيد شعيب، وجاء الفصل بعنوان " لماذا لا يعلن أردوغان الخلافة الإسلامية وتطبيق الشريعة بحد السيف?" وجاء فيه: 


"السؤال أصبح مطروحاً في تركيا الآنالكاتبة  إحسان الفقيه تقول إن هناك عقبات كبيرة تعطل أردوغان عن تحقيق الحلم الإسلامي الإخواني الذي يستعجله الكثيرون في تركيا وخارجها. فقد ورث  تركة علمانية ثقيلة وتبعية مطلقة للغرب, ورث 600 معاهدة مع الغرب وحلف الناتو, ورث عشرات القواعد التجسسية الأمريكية المجهزة بأحدث الأجهزة الإلكترونية السرية ومواقع الرادارات والبث اللاسلكي وفك الشفرة, والتي لا يسمح لتركي الدخول إليها أو الاقتراب حتى جنرالات الجيشكما ورث أردوغان في رأي الكاتب دولة عميقة بكل أذرعها الضاربة في الجامعات ورؤساء الجامعات وعمدائها ومؤسسة التعليم العالي التي تشرف على ما يقارب 100 جامعة; والمؤسسات المدنية القوية المعادية لكل ما يمت للإسلام بصلة والنقابات اليسارية والعلمانية والشيوعية.

 كما ورث وسائل الإعلام القوية من صحف ومجلات وإذاعات وقنوات تليفزيونية متعددة, والمحاكم بمختلف مستوياتها ودرجاتها حتى الوصول إلى المحكمة الدستورية العليا التي هي أعلى محكمة في تركيا. هذا بالإضافة إلى دولة مركبة ومعقدة من أعراق وإثنيات متعددة ترك وكرد وأرمن وأذريين وعرب, ومن أديان مختلفة متناقضة مسلمين وعلويين ومسيحيين ويهود. وبالطبع مؤسسة عسكرية عريقة في الانقلابات والإعدامات منذ عام 1960.

 لذلك تنصح الكاتبة المتعجلين بأن يتذكروا تجربة من سبقوا أردوغان من الإسلاميين وأهمهم أربكان الذي تمت الإطاحة به لأنه كان متعجلاً بعكس أردوغان. وتطمئن الكاتبة من يتلهفون لتحقيق الدولة الإسلامية الآن وفوراً أن أردوغان يسعى لإقامة حلف إقليمي من 8 دول إسلامية.   وتضيف: أردوغان هو رئيس وزراء ورئيس دولة يشكل المسلمون فيها 99% , لكن دستورها علماني, ولكنه أعاد تركيا وأمجادها العريقة الماضية ويفتخر بأسلافه من آل عثمان هو وحزبه أصحاب التجربة الإسلامية الرائدة التي قفزت بتركيا إلى ترتيب 16 اقتصاديًا و6 عسكريًا في العالم, ورفع قيمة الليرة التركية من صفر إلى النصف أمام الدولار وارتفعت نسبة الحجاب بين المسلمات إلى 92% وترتدي زوجته وابنتاه الحجاب (132).

الإسلامي الانتهازي :

    طبعاً هو لا يتنازل عن مشروعه الإسلامي الإخواني, لكنه في ذات الوقت يتراجع بسرعة خطوة أو اثنين إذا شعر بالخطر. السبب الأول في نجاحه في خداع الغرب والمسلمين هو براجماتيته, هي في الحقيقة إحدى أدواته الساحرة التي مكنته هو وحزبه من الوصول إلى ما يريدون خطوة خطوة وبأقل قدر من الصدام.

 في عام 2009 , تحدى أردوغان (أو شخصيته الإسلامية / الأيديولوجية) بكين بجرأة عندما تم قتل أكثر من 100 من الإيغور المسلمين في اشتباكات مع قوات الأمن الصينية. كان هذا في وقت كان فيه أداء الاقتصاد التركي مذهلًا وسجل معدلات نمو مرتفعة عامًا بعد عام. في هذا الوقت قدم نفسه باعتباره  «زعيم الأمة الإسلامية», ووصف مقتل المسلمين الإيغور بأنه «إبادة جماعية».

 في عام 2019 تأثر الاقتصاد التركي بشكل سيئ بمعدلات تضخم وأسعار فائدة مرتفعة, وفقدان العملة الوطنية ثلث قيمتها مقابل العملات الغربية الرئيسية. صمت أردوغان فلا توجد كلمة واحدة من «زعيم الأمة الإسلامية» ضد بكين رغم ازدياد قمع المسلمين هناك. إنه يحتاج إلى قروض واستثمار ومزيد من التجارة مع الصين.

  المثال الثاني, في سبتمبر وأكتوبر 2015 , بدأت تركيا في الشكوى من انتهاكات الطائرات العسكرية الروسية   لمجالها الجوي. وأسقط الجيش التركي بالفعل طائرة روسية. أعلن رئيس الوزراء آنذاك أحمد داود أوغلو أن هذا سيتكرر لو حدثت انتهاكات أخرى. قال أردوغان بجرأة  للروس , «ما هي الأعمال التي لديك في سوريا? ليس لديك حتى حدود مع سوريا».

 ثبت فلاديمير بوتين الغاضب على الفور أنظمة الدفاع الجوي الروسية في شمال سوريا لتهديد الطائرات العسكرية التركية. اضطر الجيش التركي إلى وقف الرحلات الجوية في المجال الجوي السوري. كما أعلن بوتين عن عشرات العقوبات الاقتصادية المفروضة على تركيا والشركات التركية التي تمارس أعمال تجارية بمليارات الدولارات في روسيا. وقال بوتين إن العقوبات الروسية قد تشمل «الانتقام العسكري» , مذكرا الأتراك بماضيهم العسكري الأقل مجدا مع روسيا ما قبل الاتحاد السوفيتي.

 استغرق الأمر ستة أشهر فقط لكي ينتقل أردوغان من المطالبة باعتذار من موسكو إلى اعتذاره هو شخصيًا إلى بوتين.

 القس الأمريكي , أندرو برونسون , تم سجنه بتهمة التجسس والإرهاب. قال أردوغان ذات مرة: «طالما أنا في السلطة , فلن يتم إطلاق سراح الجاسوس (برونسون) مطلقًا». في أعقاب الانهيار الاقتصادي أطلق صراح «الجاسوس الذي لن يتم إطلاق سراحه», وتوجه أردوغان بنفسه إلى أمريكا, و تنهدت الأسواق بارتياح, وصعدت الليرة التركية (133) .

 بالطبع أردوغان تحركه أيديولوجيته الإسلامية التي يحلم بتنفيذها, ولكنه يتراجع فوراً إذا شعر بالخطر حتى لا يخسر هو وحزبه كل شيء, وينتهي مشروعهم الإخواني, لذلك هو يحاول طوال الوقت أن يكسب مزيداً من الأرض لمشروعه دون أن يخسر كثيراً. إنه الإسلامي الانتهازي.

 

من حق أردوغان أن يفخر بتاريخ تركيا .. كل الشعوب تفخر بماضيها, أين المشكلة ?

  هذا صحيح, لكن لا يجب الفخر بالماضي الدموي السيئ. في الثقافة الإسلامية السائدة لا يوجد أي اعتذار أو نقد للجانب الاستعماري للإمبراطورية المسماة إسلامية من احتلال شعوب أخرى, وقهرها وإجبارها على تغيير لغتها ودياناتها ونهب ثرواتها.  في حين أن الفاتيكان اعتذر أكثر من مرة عن الجرائم التي تمت باسم المسيحية (134). ثانياً أن هذا الماضي فاعل في الحاضر, بمعنى هناك من يريد استعادته كما كان, أو بطلاء حديث. لكنك لن تجد مثلاً في الغرب نخبا سياسية أو دينية تدعو إلى استعادة الجانب الاستعماري الغربي. أو بريطانيا يدعو لاستعادة الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس.  ولن تجد مثلاً مصريا يريد استعادة الجانب الاستعماري في الحضارة المصرية القديمة, رغم فخر المصريين بالجانب الإيجابي العظيم فيها.

 ثالثاً وهذا هو الأهم أن الميراث الاستعماري للإمبراطورية المسماة إسلامية جعل  «الخلافة» ليست مجرد ماض, لكنها في الثقافة الإسلامية السائدة واجب ديني, سوف يكافئك الله عليه بدخول الجنة, إنه جزء من العقيدة, جزء من أن تكون مسلماً مؤمنا وتسعى إلى رضا الله ورسوله. ويدعم هذا التصور مؤسسات دينية كبرى في العالم السني والشيعي, وإسلاميون مثل الإخوان وداعش وحكومات مثل قطر. 

 لذلك يصر أردوغان على هذا الحلم ومعه كل أنصار الإسلام السياسي في العالم, بما فيهم التنظيمات الإرهابية, منها داعش التي حققته بالسلاح. 

هل الأتراك متحمسون لمشروع أردوغان الإسلامي?

 في 15 ديسمبر 2017, سأل الرئيس التركي  أردوغان مؤيديه المشاركين في مؤتمر جماهيري في اسطنبول: «إلى مَن يتطلع العالم الإسلامي?». صمت الجميع ولم يعطوه إجابة, فقال: «أنتم هادئون. إلى أين ينظرون?». ولمّا لم تصله إجابة, أجاب بنفسه غاضباً: «إنهم ينظرون إلى تركيا».

 هذه الواقعة دفعت صحافيين ومحللين وباحثين في تركيا إلى طرح العديد من التساؤلات حول مدى حماسة الشعب التركي ومؤيدي أردوغان لفكرة قيادة تركيا للعالم الإسلامي, وإعادة ما يُسمّيه بالدوام أردوغان بترك سوريا والعراق والشرق بشكل عام والتوجه مجدداً نحو الاتحاد الأوروبي.

 من جهته, يقول الصحافي التركي المعارض والمدير الإقليمي السابق لجريدة «زمان» التركية تورغوت أوغلو أن الكتلة المؤيدة لأردوغان ولحزب العدالة والتنمية تشكل 40% من الشعب التركي, ما يعني أن هناك 60% لا بد أن يقنعهم بفكرته.

 بل ويري أوغلو أن قطاعاً كبيراً من المجتمع التركي وخصوصاً من كتلة ال

 يعزز هذا الطرح اتهامات بالفساد طالت أردوغان.  قال التقرير السنوي لعام 2018, لرئاسة الشؤون الاستراتيجية والميزانية في رئاسة الجمهورية التركية, لعام 2018 : إن أردوغان حول 142 مليون دولار من الخزينة العامة لجمعيات أهلية مقرّبة منه ومن حزبه. وأضاف التقرير: تمّ تحويل هذه المبالغ إلى الجمعيات بهدف مساعدتها, دون أن تُذكر أيّة تفاصيل حول أسماء الأوقاف والجمعيات التي حصلت على مساعدات مادية من خزانة الدولة أو المجالات التي تعمل بها».

 وأشارت النسخة التركية من دويتش فيله الألمانية إلى أنّ أعضاء مجلس بلدية اسطنبول, المنتمين لحزب الشعب الجمهوري, كانوا قد نشروا, في وقت سابق, تقريراً ذكروا فيه; أنّ «البلدية قدمت مساعدات مبالَغاً فيها إلى أوقاف وجمعيات قريبة من أردوغان وأسرته, بلغت 847 مليون ليرة».

  رغم عدم كشف التقرير لأيّة تفاصيل عن هذه الجمعيات والأوقاف التي استفادت من هذه التحويلات, فإنّ  وسائل إعلام محلية ذكرت أنّ جميعها تخصّ المقرّبين من أردوغان وحزب العدالة والتنمية. ومن هذه الجمعيات; وقف «الشباب التركي», التابع لبلال أردوغان, ووقف «فريق تركيا التكنولوجي», التابع لصهر الرئيس بيرات البيراق, ووقف «خدمة الشباب والتعليم التركي», ويضمّ مجلس إدارته ابنة أردوغان, إسراء, ووقف «الأنصار», ووقف «رماة الأسهم» (137).

الخليفة الديكتاتور

 أردوغان يبني بجرأة إمبراطوريته الإسلامية, وفي هذه الإمبراطورية مثل سابقتها العثمانية تتعرض فيها الأقليات للعنف والاضطهاد والتمييز.  

 المسيحيون:  يبدو أن سبب  اضطهاد المسيحيين في تركيا هو الخوف الغريب واسع الانتشار ب»أن المسيحيين يسعون إلى استرداد تركيا من خلال التبشير, فهذه الأراضي كانت ملكهم قبل الغزو التركي». نموذج لهذا الخوف العجيب , تقرير صادر عام 2001 من قبل منظمة الاستخبارات الوطنية (MIT) يدعي أن «المبشرين يريدون إثارة إعجاب الناس وضمهم إليهم, بالإشارة إلى بونتوس [أرض يونانية قديمة ] في منطقة البحر الأسود, واليزيديين , والكنيسة الكلدانية والأكراد المسيحيين في جنوب شرق تركيا, والأرمن في شرق تركيا والأراضي المسيحية القديمة في منطقة بحر إيجة وفي اسطنبول «. بالإضافة إلى ذلك, يزعم تقرير للجيش التركي لعام 2004 أن 10% من سكان تركيا بالكامل سيكونون مسيحيين بحلول عام   2020 (138).

 لاحظ أن هذا التقرير صدر قبل تولي إخوان تركيا الحكم, وهو مؤشر على المناخ المعادي للأقليات, بل والذي يعتبرهم خطرا على الأمن القومي التركي, وينفي بالقطع وهم أن أتاتورك أسس دولة علمانية حرة.

 هذه الخرافة المنتشرة تتعمق أكثر بالتأكيد في ظل حكم الإسلاميين. بعد محاولة الانقلاب الفاشلة,  بدأت بالإبادة العرقية ضد الأقلية المسيحية, حرق كنائس وتخريب في ظل منع الإعلام المعارض من نقل الصورة كاملة.  في نفس الوقت يحرض إعلام أردوغان وميلشياته ضدهم , مثلاً  يشيرون إلى علاقة صديقه القديم غولن بالكنيسة الكاثوليكية, أو باستخدام رأي بابا الفاتيكان فرنسيس بأن مذبحة الأرمن التركية هي إبادة كاملة. هناك تسارع لاغتيال ثقافة التعايش والتسامح وتجديد التوتر بين المسلمين والمسيحيين في المجتمع التركي. وانتشرت صور نمطية سلبية إزاء المسيحيين تعززها وسائل الإعلام مثل كونهم فاحشي الثراء وطابورا خامسا وغير وطنيين. وينظر العديد من الأتراك إلى المسيحيين نظرة سلبية, ففي سنة 2010 كشفت دراسة لمعهد «بيو» أن 6 بالمئة فقط من الأتراك لديهم نظرة إيجابية للمسيحية.

 في مدينة طرابزون, الواقعة في شمال شرق تركيا على ساحل البحر الأسود, اقتحمت مجموعة من الأشخاص كنيسة السيدة العذراء, وقامت بتخريبها. في مدينة ملطية هاجمت حشود من المسلمين كنيسة المدينة, وكسرت نوافذها. ونقلت صحيفة ديلي إكسبرس البريطانية عن القس تيم ستون أن الكنيسة كانت الهدف الوحيد للمهاجمين على مدى الأيام الثلاثة الأولى التي أعقبت عملية الانقلاب. وأضاف القس ستون ما حدث يذكرنا بالهجوم على دار لنشر الكتاب المقدس في ملطية في عام 2007, وقام خلاله خمسة أشخاص من المسلمين بتقييد ثلاثة موظفين مسيحيين وقاموا بتعذيبهم وذبحوهم.  وسبب هذه الهجمات  وفق بعض المراقبين أن أنصار حزب العدالة والتنمية, يعتبرون المسيحيين من «العلمانيين الرافضين» للحزب الحاكم ذي الخلفية الإسلامية», وبالتالي هم من مؤيدي الانقلاب.

 يؤكد القس في الكنيسة الأنغليكانية في اسطنبول, كانون ايان شروود, أن الكثير من المسيحيين بصدد محاولة مغادرة البلاد. وأضاف لا ننسى أنه تم قتل قس من الكنيسة الرومانية الكاثوليكية, وتم تهديد رجال دين, ومنذ عشر سنوات قتلوا كاهنا.

 أكد برنامج المسح الاجتماعي الدولي عام 2010 , أن أكثر من نصف الأتراك يرفضون أن يتحدث المسيحيون عن معتقداتهم في الاجتماعات العامة, كما أن أكثر من نصف الأتراك يعارضون خدمة المسيحيين في الجيش والأجهزة الأمنية وقوات الشرطة والأحزاب السياسية (139).

  وصف سفير الفاتيكان في اسطنبول المطران روبن تييرّابلانكا غونزاليس وضع المسيحيين في تركيا بأنه صعب جدا بعد فشل الانقلاب. وأضاف  أن هذا المناخ يخلق حالة من العنف. الناس خائفون, وهو ما يمكن ملاحظته في كل مكان,  هناك رجال دين لا يخرجون من بيوتهم خوفا من الغوغائيين الذين يهاجمون من يظنون أنهم أيدوا الانقلاب.

 يهاجم الليبراليون والخصوم السياسيون في تركيا, على حد سواء, أجندة السياسة الإسلامية المحافظة لحزب العدالة والتنمية, مشيرين إلى أن البلاد تتجه نحو التعصب الإسلامي, وقد ادعت الحكومة التركية أنها تحسن حماية الأقليات, لكن على الأرض هذا غير صحيح.   تراجعت الأقلية المسيحية من 22 في المئة إلى 0.2 في المئة من السكان. والحكومة نفسها ألغت قداسا سنويا يقام في الخامس عشر من أغسطس في الدير التاريخي بناجا سوميلا (140).

كان القس الأمريكي أندرو برونسون والمبشر الأمريكي الكندي ديفيد بيل من بين العديد من رجال الدين المسيحيين الذين وقعوا ضحية كره تركيا للمسيحية. وبحسب كلير إيفانز , المدير الإقليمي لمنظمة «كريستيان كونسيرن إنترناشيونال» , فإن «تركيا توضح بشكل متزايد أنه لا يوجد مكان للمسيحية , رغم أن الدستور ينص على خلاف ذلك».

 تعتبر الإبادة الجماعية المسيحية التي وقعت في 1913-1923 عبر تركيا العثمانية والمذبحة المناهضة لليونان في عام 1955 في اسطنبول من أهم الأحداث التي أدت إلى تدمير المجتمع المسيحي القديم في البلاد. البروفيسور علي كاركوغلو , الأستاذ بجامعة كوتش , الذي أجرى دراسة استقصائية عن «القومية» مع البروفيسور إرسين كالايجي أوغلو من جامعة سابانجي, يقول إن أغلب الأتراك يعتبرون أنفسهم مسلمين أولاً. ولا يوجد شيء في تاريخهم يجب أن يخجلوا منه. فهم لا يشعرون بأنهم قريبون من أوروبا أو الشرق الأوسط ;  لا نقد ذاتي على الإطلاق ».

 لقد تم قتل الأسقف لويجي بادوفيس, النائب الرسولي في الأناضول , تركيا , في عام 2010 من قبل سائقه, الذي صرخ «الله أكبر» وهو يذبح الكاهن. في اليوم الذي أعقب إطلاق سراح القس الأمريكي أندرو برونسون من السجن التركي , احتجزت السلطات التركية مسيحي آخر كان يعيش منذ ما يقرب من عقدين في البلاد, وأخبرته بأن لديه أسبوعين لمغادرة البلاد, دون زوجته وثلاثة الأطفال.  الإنجيلي الأمريكي الكندي , ديفيد بيلي , تعرض للاعتقال  والترحيل ثلاث مرات, لكن القضاء أنصفه. لكن هذه المرة غادر البلاد بعد يومين في مركز احتجاز, عندما حاول العودة إلى عائلته في تركيا منعوه من الدخول مرة أخرى.

 برونسون وبيلي من بين العديد من رجال الدين المسيحيين الذين وقعوا ضحية كره تركيا للمسيحية. في تقاريرها السنوية حول انتهاكات حقوق الإنسان, التي يتم نشرها منذ 2009, تشرح رابطة الكنائس البروتستانتية التركية تفاصيل التمييز المنتظم الذي يتعرض له البروتستانت, بما في ذلك الهجمات اللفظية والبدنية. لا تعترف الحكومة التركية بالمجتمع البروتستانتي «ككيان قانوني» , وتنكر عليه الحق في إنشاء أماكن العبادة وصيانتها بحرية.لا يستطيع البروتستانت في تركيا فتح مدارسهم الخاصة أو تدريب رجال دين لهم , مما يجبرهم على الاعتماد على رجال دين أجانب, لكن تم منع كثير منهم من الدخول, وإذا دخلوا يتعرضون للترحيل. 

 على الرغم من أن الأنشطة التبشيرية  قانونية وفقا للقانون الجنائي التركي , إلا أن الرعايا الأجانب والمواطنين الأتراك الذين اعتنقوا المسيحية يعاملون على أنهم منبوذون من قبل السلطات ومعظم الجمهور.  في عام 2001 , بعد تلقي تقرير من منظمة الاستخبارات الوطنية التركية , أعلن مجلس الأمن القومي أن الأنشطة التبشيرية المسيحية تمثل «تهديدًا أمنيًا» , وذكر أنه «يجب اتخاذ الاحتياطات اللازمة ضد أنشطة تكرس الانقسام والتدمير.»

 حتى غرفة التجارة في أنقرة  في عام 2004 , أصدرت تقريرا يزعم أن «الأنشطة التبشيرية تثير التطلعات الانفصالية العرقية والدينية وتستهدف البنية الموحدة للدولة». في عام 2005 , قال وزير الدولة محمد أيدين: «نعتقد أن الأنشطة التبشيرية [المسيحية] تهدف إلى تدمير الوحدة التاريخية والدينية والوطنية والثقافية ... وهي تعتبر حركة مخططة للغاية ذات أهداف سياسية».

 في عام 2006 , نشرت القوات المسلحة التركية تقريرا يشير إلى المبشرين المسيحيين  «تهديد» وأكد على ضرورة وضع اللوائح القانونية لمنع أنشطتهم. وفي نفس العام , قال علي بارداكوغلو, الذي كان آنذاك رئيس لجنة الشؤون الدينية التي تمولها الحكومة: من واجبنا تحذير الناس من المبشرين, فهم يهددون المجتمع».  في عام 2007 , قال نيازي غوني , وهو مسؤول في وزارة العدل, إن «المبشرين أكثر خطورة من المنظمات الإرهابية».

  مثل هذا الاستنكار العلني للمبشرين المسيحيين كان له نتائج ملموسة ومدمرة. ففي عام 2006 , على سبيل المثال, تعرض رئيس كنيسة بروتستانتية كميل كيرلو , وهو مسلم اعتنق المسيحية, للضرب على يد خمسة رجال , صرخ أحدهم قائلاً: «ارفض يسوع أو سأقتلك الآن» , وصاح آخر: «نحن لانريد المسيحيين في هذا البلد! وفي عام 2006 أيضًا , قُتل الأب أندريا سانتورو , وهو كاهن روماني كاثوليكي يبلغ من العمر 61 عامًا , أثناء الصلاة في كنيسة سانتا ماريا في ترابزون. وبعد خمسة أشهر , تعرض كاهن يبلغ من العمر 74 عاما , هو الأب بيير فرانسوا رينيه برونيسن, للطعن والجروح في سامسون. وقال مرتكب الجريمة إنه ارتكب الفعل ضد الكاهن للاحتجاج على «أنشطته التبشيرية».

 في أبريل  2007 , تعرض ثلاثة مسيحيين للتعذيب حتى الموت في مجزرة في بيت الكتاب المقدس. في نفس العام , تم اختطاف القس الآشوري, إديب دانيال سافسي. بعد شهر واحد , طعن كاهن كاثوليكي , أدريانو فرانشيني, خلال خدمته في الكنيسة. ويقال إن الكاهن «متهم بأنشطة تبشيرية» من قبل بعض المواقع. في يونيو 2010 , تم قتل الأسقف لويجي بادوفيس , النائب الرسولي في الأناضول, على يد سائقه , الذي صرخ قائلاً: «الله أكبر».

 المسيحية لها تاريخ طويل في آسيا الصغرى (جزء من تركيا المعاصرة ),  اليوم , فقط حوالي 0.2% من سكان تركيا البالغ عددهم حوالي 80 مليون نسمة هم مسيحيون. تعتبر الإبادة الجماعية المسيحية التي وقعت في 1913-1923 عبر تركيا العثمانية والمذبحة المناهضة لليونان في عام 1955 في اسطنبول, من أهم الأحداث التي أدت إلى تدمير المجتمع المسيحي القديم في البلاد.

 يشرح الدكتور بيل وارنر , مدير مركز دراسة الإسلام السياسي, السبب أنهم يعتبرون المسيحيين كفارا وبالتالي يمكن أن يتعرضوا  للسرقة والقتل والتعذيب والاغتصاب والسخرية واللعنة والإدانة والتآمر. يصف وارنر أيضا تدمير الحضارة اليونانية المسيحية في الأناضول: لقد استغرقت الإبادة قرونا.  عندما غزا العثمانيون كان «أهل الكتاب» (المسيحيون واليهود) يعيشون في ظل «الدولة الإسلامية» كذميين,  يدفعون ضرائب باهظة, ولا يدلون  بشهادتهم في المحكمة, لا يستطيعون حمل السلاح وهم في الدرجة الثانية بعد المسلم في كل الحقوق.   وبعد قرون على الرغم من حقيقة أن الدستور التركي لا يستند إلى الشريعة فإن تفكير وسلوك معظم الأتراك لا يزال «إسلامياً» إلى حد كبير (141). 

  بعد غزو تركيا واحتلالها لشمال قبرص,  وفقاً لتقرير صادر في عام 2016  عن وزارة الخارجية القبرصية تم تخريب أكثر من 550 كنيسه يونانية أرثوذكسية و مصليات وأديرة, وفي بعض الحالات, تم الهدم. وكثير من الأماكن المسيحية تحولت إلى مساجد ومستودعات. هذا بالإضافة إلى تخريب وتدمير الكنائس الأرمنية المارونية والكاثوليكية في قبرص, كما هو الحال مثلا في دير الأرمن سورب ماغار في هالفكة والدير الماروني للنبي إلياس في سكايلورا(142).

 ما سبق يؤكد أنه ليس هناك فرق كبير بين الخلافة العثمانية وبين دولة أتاتورك وبين دولة الإخوان في تركيا, جميعهم يضطهدون الأقليات, ومنهم المسيحيون واليهود ويعتبرونهم خطراً على «وحدة الدولة» التي تستند إلى الإسلام. لذلك يمكننا القول إن دولة أتاتورك كما سبق وأوضحت ليست علمانية, ولكنها في عمقها دولة قومية دينية ديكتاتورية بطلاء حداثي.

  إذا تأملت دولة الخلافة ودولة أتاتورك ودولة الإخوان الحالية, وإذا رجعت إلالمثليون

 موقف أردوغان من المثلية الجنسية كاشف بشكل صريح لانتهازيته وكذبه. فعندما كان ضعيفاً قبل الانقلاب المزعوم, أكد صراحة على حقوق المثليين وضرورة حمايتهم بموجب القانون (143). استخدم أردوغان المثليين والمرأة وغيرهم من الأقليات لكي يغازل الاتحاد الأوروبي لكي يساعده في إزاحة الجيش من السلطة وهو عدوه الأكبر. بعد أن تحقق هدفه, وبعد تعديل الدستور وبعد أن أصبح رئيساً, انتقد  تخصيص «كوتا للمثليين» في انتخابات لجان أحياء, معتبرا أن هذا الإجراء مناقض لقيم الأمة التركية. وقال إن حزب الشعب الجمهوري الذي فعلها, علاقته بقيم أمتنا منقطعة.

 وفي عام 2010 أثارت وزيرته آنذاك لشؤون العائلة والمرأة سلمى قواف غضب الناشطين الحقوقيين عندما وصفت المثلية بأنها «خلل بيولوجي» و»مرض» يتطلب علاجا (144).  ومنع مكتب حاكم العاصمة التركية أنقرة العروض العامة للأفلام والفعاليات المتعلقة بالمثليين ومزدوجي الجنس والمتحولين جنسيا, والسبب «حساسيات عامة». كما منعت السلطات مسيرتين للمثليين في اسطنبول في العامين الماضيين. المثلية الجنسية ليست مجرمة قانوناً في تركيا على خلاف الكثير من الدول ذات الأغلبية من المسلمين (145).

  هذا الكذب يعتبره الإسلاميون وطبعاً أردوغان «كذبا شرعيا حلالا».  قالت منظمة العفو الدولية في تقرير إن الأتراك من المثليين ومن المتحولين جنسيا يواجهون تمييزاً واسع النطاق, وغالبا ما يتعرضون للضرب من الشرطة مما يجعلهم يخافون الإبلاغ عن جرائم الكراهية. حثت المنظمة الحكومة التركية على سن قوانين تمنع التمييز على أساس الميول الجنسية ومعاقبة مرتكبي الاعتداءات على المثليين جنسيا.

 تقول جمعيات حقوق المثليين المحلية إن 16 شخصا قتلوا في تركيا العام الماضي بسبب ميولهم الجنسية وإن العنف مستمر بشكل روتيني. وتتعرض النساء المتحولات جنسيا - اللاتي غالبا ما لا يجدن خيارا آخر سوى العمل في البغاء- للتهديد بشكل خاص. وكشف استطلاع شمل 104 نساء متحولات جنسيا أجرته جماعة  ( لامدا اسطنبول) التركية لحقوق المثليين أن 89 بالمئة منهم قلن إنهن تعرضن لعنف جسدي أثناء احتجاز الشرطة. وقالت العفو الدولية إن تعليقات مسؤولين حكوميين في تركيا- وهي دولة ذات غالبية مسلمة - تحض على كراهية المثلية الجنسية (146).

 ربما لا يعرف الكثيرون أن «الخلافة العثمانية» التي يفخر بها أردوغان ويحلم باستعادتها, نزعت الصفة الجرمية عن الأفعال الجنسية المثلية في عام 1858, أي أباحتها, أي قبل كثير من البلدان التي عادةً ما تعتبر ليبراليةً اليوم. في حين يتم اضطهادهم اليوم بطرق كثيرة منها أنهم ممنوعون من الالتحاق بالجيش التركي (147).

المرأة

أردوغان الذي خدع العالم بأنه يوافق على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ومنها حقوق المرأة, موقفه الحقيقي ظهر عندما أعلن رفضه المساواة بين الرجل والمرأة ف «هذا يخالف الطبيعةوأضاف: لا يمكن معاملة المرأة على أنها مساوية للرجل. واتهم الحركات النسوية برفض الأمومة. ويقول مارك لوين , مراسل بي بي سي في اسطنبول, إن تصريحات أردوغان غالبا ما تلقى قبول مؤيديه المتدينين, غير أنها تغضب الناخبين الليبراليين (148).

 هذا الرأي تجسد على الأرض بالطبع, فقد هاجمت الشرطة بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي مسيرة نسائية كانت تهدف إلى الاحتفال باليوم العالمي للمرأة والاحتجاج على انتهاكات حقوق المرأة في تركيا. كما استهدف العديد من الإسلاميين ووسائل الإعلام المؤيدة للحكومة المشاركين نفس المسيرة وادعوا أن النساء هتفن أثناء قيام مسجد قريب بتلاوة الأذان.

  ومن قال إن الأذان المعلن بمكبرات صوت مزعجة من الإسلام?! وحتى لو كان هذا الاتهام  صحيحاً, فمن حقهم أن يهتفوا في أي وقت وفي أي مكان, لكن الإسلاميين هدفهم هو التحريض  ضدهم.  قالت «مؤسسة شباب تركيا» الموالية للحكومة ما هو أغرب من الخيال , كتبرير لتقديس الأذان: إنه يجدد عزمنا على التغلب على روما ونيويورك وبكين وطوكيو وموسكو وبرلين وباريس واستكمال غزونا غير المكتمل لفيينا», في إشارة إلى المحاولات العثمانية الفاشلة لغزو العاصمة النمساوية.

 هاجم أردوغان بالطبع «المسيرة الليلية النسوية» في اسطنبول  واتهمهم باليونانيون

 يعود تاريخ الأقلية اليونانية في آسيا الصغرى إلى القرن الحادي عشر قبل الميلاد. تضاءل عدد السكان اليونانيين في المنطقة , وتم إبادتهم في نهاية المطاف نتيجة للاضطهاد الموثق الذي استمر عدة قرون في ظل الحكم التركي العثماني, والذي توج بالإبادة الجماعية 1913-1923, وأصبح المسلمون أغلبية ديموغرافية في تركيا.  ويشير مركز أبحاث الإبادة الجماعية اليونانية  إلى أن التحريض جاء من قبل حكومتين متتاليتين للإمبراطورية العثمانية; لجنة الاتحاد والترقي, والحركة القومية التركية لمصطفى كمال أتاتورك (لاحظ أتاتورك أيضاً نفذ بعض هذه الجرائم). وشملت المذابح والترحيل القسري ومسيرات الموت  والاغتصاب والتحول القسري إلى الإسلام والتجنيد في كتائب العمل والإعدامات التعسفية وتدمير الآثار الثقافية والتاريخية والدينية المسيحية الأرثوذكسية. ووفقًا لمصادر مختلفة , فقد مات ما يقرب من مليون يوناني  خلال هذه الفترة.

 اليوم , أقل من نصف بالمائة من سكان تركيا هم من المسيحيين  نتيجة لتاريخ طويل من الاضطهاد, لا يزال العديد من الأتراك يؤيدون هذا التاريخ بكل فخر, إنهم يحولون الضحايا إلى جناة (150).

 الأرمن

 بحسب المصادر الرسميّة, يوجد في تركيا نحو 170 ألف أرمني, 70 ألفا فقط يحملون الجنسيّة التركيّة, ويعانون  التمييز والقمع وعدم الاعتراف بهم كجزء من النسيج الاجتماعي التركي في إطار الدستور (151).

 كرر أردوغان تبريره للإبادة الجماعية للأرمن أكثر من مرة قائلاً: كان نقل العصابات الأرمينية ومؤيديها الذين ذبحوا المسلمين , بمن فيهم النساء والأطفال , في شرق الأناضول , أكثر الإجراءات المعقولة التي يمكن اتخاذها في مثل هذه الفترة (152).

  في عام  2010, حين كان أردوغان رئيساً للوزارة, صرّح لهيئة الإذاعة البريطانيّة (BBC) مهدداً واشنطن بأنه في حال مصادقة الكونجرس الأمريكي على قانون إدانة مذابح الأرمن, فإنه سيطرد (100) ألف أرمني من تركيا, وأن هذه الخطوة قد تضر بالتقدم في عملية مصالحة هشة بين تركيا وأرمينيا (153).

 أردوغان يتحدث عن طرد مواطنين أتراك من بلدهم بهذه البساطة, فهو لا يري مشكلة في الطرد مثلما فعل أسلافه العثمانيون. فهل يفعلها بعد أن صوت الكونجرس الأمريكي بأغلبية 405 أصوات مقابل 11 صوتا?

 لا أظن, فهو انتهازي ويعرف عواقب هذه الجريمة, لذلك فكل ما فعله , كما فعل في مناصرة المسلمين المضطهدين في الصين, مجرد تصريحات ترضي مؤيديه. فقد قال: إن قرار الكونجرس خطوة لا قيمة لها وأكبر إهانة للشعب التركي. وأضاف: أخاطب الرأي العام الأمريكي والعالم بأسره: هذه الخطوة التي اتخذت لا قيمة لها ولا نعترف بها (154).

  رئيس الوزراء التركي, بن علي يلدريم في 2016, غضب عندما قرر البرلمان الألماني إدانة الإبادة الجماعية للأرمن قائلاً: إنه أمر مؤسف أن يتخذوا هذا القرار حيال مسألة لم يتفق بشأنها المؤرخون. إنه كذبة تاريخية, وهذا القرار ليس له أي معنى بالنسبة لنا وللأمة التركية, فهو بحكم العدم. هذه ضربة للعلاقات التركية الألمانية المتجذرة, لذا نأمل أن يتم العدول عن هذا الخطأ في أقرب وقت. وتساءل يلدريم, قائلا لماذا لم تهتم هذه الدول الغربية, بمجزرة خوجالي التي ارتكبت في وقت قريب وتعد إبادة جماعية,بدلا من ذلك يطرحون مسألة تعود ل, مضيفا إننا نلمس ازدواجية في المعايير, إنه نفاق» (155).

 إذا كان الغرب كما يقول يلدريم مخطئا في عدم الاعتراف بمجزرة خوجالي, فلماذا لا يعترف هو بمجازر الأرمن كي يعطي المثال على احترام حقوق الإنسان ولا تصبح معاييره مزدوجة ومنافقة مثل البرلمان الألماني?! فكل المجازر يجب إدانتها حتى لا تتكرر مرة أخرى.

 كما أن ما يشير إليه أردوغان على أنه» نقل «كان في الواقع ترحيلًا جماعيًا للسكان المدنيين , معظمهم من النساء والأطفال والمسنين إلى داخل منطقة آسيا الصغرى. لقد تم إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال والإبادة أو الأماكن النائية في المناطق الداخلية لذبحهم أو للموت من الإرهاق أو الجوع أو الأوبئة, إما وهم في الطريق أو عندما يصلون.

  أوضح فيكن بابكينيان , وهو حفيد أسرة نجت من الإبادة الجماعية: إن التدمير واسع النطاق والمنهجي للحكومة التركية العثمانية للسكان الأرمن الأصليين في الفترة 1915-23 19 تم توثيقه جيدًا, وما أسماه أردوغان زورا «إعادة التوطين «كان بالنسبة لنا , أحفاد الناجين من الإبادة الجماعية للأرمن والآشوريين , ترحيل. لقد تم إبادة الأرمن والأشوريين الأصليين في وطنهم القديم (156).

 في اليوم الذي ألقى فيه أردوغان الخطاب الذي حمل فيه ضحايا الإبادة الجماعية مسؤولية محنتهم , منعت الشرطة التركية جمعية حقوق إنسان من إقامة حفل لإحياء ذكرى الإبادة الجماعية  في اسطنبول. قال رئيسها إرين كيسكين: الإرث الملعون مستمر بأشكال جديدة.

  لكن بغض النظر عن ما تقوله تركيا , فقد تم الاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن كجريمة ضد الإنسانية من قبل 27 دولة في جميع أنحاء العالم. وحسب ما  يقول باحث الإبادة الجماعية فاسيليوس ميتشانيديسديس «لن تكون تركيا قادرة على تحرير نفسها من ماضيها القاتل, ووصمة عار في نشأتها كدولة , ما لم تعترف بالإبادة الجماعية للشعوب المسيحية الأصلية في الإمبراطورية العثمانية. هذا الاعتراف  سيحرر الشعب التركي من الشعور بالذنب والخجل , مما يمثل بداية لعملية مصالحة جديدة بين تركيا وأحفاد ضحايا الإبادة الجماعية, وكذلك بين تركيا وجيرانها , وخاصة اليونان وأرمينيا وقبرص (157).

 أدانت لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان التركي, يوم الجمعة, مجزرة خوجالي, التي ارتكبتها القوات الأرمينية عام 1992 بإقليم قره باغ الأذري. وأضاف البيان: نشاطر آلام أشقائنا الأذريين, وندعو بالرحمة لمن قضوا حياتهم, وننحني احترامًا أمام ذكرى رحيلهم . واعتبر البيان المجزرة واحدة من أحلك صفحات التاريخ البشري, داعيا القوات الأرمينية للانسحاب من جميع الأراضي الأذرية التي تحتلها. وصل عدد ضحايا المجزرة حوالي  613 مسلما أذربيجاني مدنيا; منهم 106 امرأة و83 طفلاً, و70 مسنًا, فيما أصيب 487 بجروح بالغة, فضلاً عن وقوع ألف و275 أذربيجاني كرهائن, واختفى منهم 150 (158).

 بالتأكيد أن البرلمان التركي الذي يسيطر عليه حزب أردوغان محق في إدانة هذه المجزرة, فكل الجرائم ضد الإنسانية مدانة. لكن هذا لا يبرر جرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها تركيا ضد الأرمن, فيجب الاعتراف بها والاعتذار عنها حتى تكون  هناك استقامة أخلاقية أو معيار إنساني واحد نقيس به هذه الجرائم البشعة. 

لكن لماذا يصر أردوغان وحزبه وعموم الإسلاميين على رفض إدانة جرائم الإمبراطورية العثمانية وعلى رأسها الإبادة الجماعية للأرمن?

 لأنهم لو فعلوا, فهذا يعني تدمير الأساس الأيديولوجي الذي يستمدون منه مشروعيتهم لحكم تركيا, وهو حلم استعادة هذه «الإمبراطورية العثمانية» كما سبق أن شرحت. فالاعتذار للأقليات العرقية والدينية مما تعرضت له من اضطهاد يعني إدانة «الخلافة العثمانية» التي يحلمون باستعادتها. وكيف سيبررون في هذه الحالة أمام مؤيديهم, إنهم يريدون استعادة «خلافة» ارتكبت جرائم ضد الإنسانية.

 كما أنهم إذا اعتذروا عن هذه الجرائم ضد الأقليات, فهذا معناه أنهم يقرون بالمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بين الأقليات وبين الأتراك المسلمين, وهذا يخالف عقيدتهم التي تؤمن بأن المسلم لا يتساوى مع غيره من غير المسلمين.

 العلويون

 تحاول حكومة الرئيس أردوغان محو عقائد الأقليات عن طريق  حرمانها من الحرية في إنشاء مؤسساتها وممارسة عبادتها بأمان. فالعلويون احتجوا على عدم الاعتراف ببيوت عبادتهم . كما أن الحكومة تعتبرهم مسلمين سنة, وهم يؤكدون أن هذا غير صحيح, منهم الزعيم الديني  مصطفى جنك الذي يقول: «في السنة, يصلون خمس مرات في اليوم ويصومون لمدة شهر. هذه الأشياء غير موجودة في العقيدة العلوية. وفقا لإيماننا, الله في الإنسان وليس في السماء. في العلوية, المرأة مقدسة والطلاق من امرأة صعب جداً , في حين أن الرجل المسلم السني يعتقد أن من حقه الزواج بأربعة نساء ».

  وفقًا للعالم العلوي , محمد بيراك , فإن أحد الأسباب التي تجعل بعض العلويين يقولون إنهم مسلمون هو سوء فهم لدينهم الخاص. ويضيف : بسبب الدعاية طوال مئات السنين, يعتقد بعضهم أنهم مسلمون حقيقيون. مضيفًا: العلويون ما زالوا يتعرضون لضغوط سياسية واجتماعية وثقافية , لذلك ما زالوا يخافون من القول إنهم خارج الإسلام. فمن المستحيل بالنسبة لهم التعبير عن أنفسهم بحرية (159).

 اضطهاد العلويين لا يقتصر على عدم الاعتراف بدور عبادتهم, لكن تم أيضاً غلق قناة TV10, واعتقالات تعسفية , وتهديدات بدنية , ووضع «علامات حمراء» على بيوتهم.  بل ويتم فرض مناهج دراسية دينية عليهم, تقول إنهم سنة على المذهب الحنفي وهذا غير حقيقي.  وكما قال الزعيم العلوي  جمال شاهين : يفعلون ذلك رغم  الأحكام الصادرة عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان, والمفترض أن الحكومة ملتزمة بتنفيذها, لكنها لم تفعل, وما زالت تفرض الإسلام السني على أطفالنا, إننا نتعرض لحملة جدية من «الاستيعاب القسري».

 قدم جلال فيرات , القائد العلوي , الدعوة التالية للحكومة: لطالما نحن العلويين روجنا للأخوة والتعايش عبر التاريخ, وسنظل كذلك. لا تحاولوا أن تستوعبونا. تقبلونا كما نحن, ولا داعي  لطموحكم في استيعابنا (160).

اليهود

 بدأت أسلمة المجتمع التركي بوضوح منذ عام 2002 , عندما وصل حزب العدالة والتنمية (أردوغان) إلى السلطة.  لقد غيرت الهندسة السياسية والاجتماعية لأردوغان الطريقة التي يعرف بها المواطن التركي نفسه: اعتاد معظم الأتراك على تعريف أنفسهم بأنهم «أتراك أولاً». الآن يعرّفون أنفسهم بأنهم «مسلمون أولاً», بالطريقة التي أرادهم بها أردوغان.

 ليس من المفاجئ إذن أن يسمع الأنصار المتحمسون في حزب العدالة والتنمية: إسرائيل إرهابية  وديكتاتورية وما إلى ذلك في التجمعات العامة.  قبل إحدى الانتخابات المحلية سأل دبلوماسي أوروبي  جديد في تركيا: «هل لإسرائيل علاقة باختيار الأتراك لرؤساء البلديات?. أجابه أحدهم بابتسامة: « الخطاب المعادي لإسرائيل هو الآن جزء لا غنى عنه في كل انتخابات تركية, بما في ذلك انتخاب رئيس قرية». في حين أن أردوغان يحافظ طوال الوقت على علاقات عسكرية واقتصادية وسياسية ممتازة مع إسرائيل (161).  

  بالطبع ليست هناك مشكلة في انتقاد إسرائيل, ولكن شيطنتها في خطاب أردوغان والإسلاميين هوالمشكلة,لأنه يلصق بها كل فشله وإخفاقاته. وإذا كان السبب هو أنها تحتل «فلسطين», فهناك أراض «عربية إسلامية « أخرى محتلة, إيران تحتل منطقة عرب الأهواز وجزر الإمارات, وتركيا نفسها تحتل لواء الأسكندرونة السوري منذ زمن طويل, وتحتل الآن جزءا من الأراضي السورية الملاصقة لحدودها. المشكلة الأكبر أن ينعكس هذا على اليهود الأتراك والذين لا علاقة لهم بما تفعله إسرائيل. فقد هدد أردوغان مواطنيه الذين يؤمنون بديانات غير الإسلام, ومنهم اليهود, قائلاً : «لا تستفزونا «, قبل أن يشير إلى أنه لم يتخذ أي إجراء ضد اليهود الأتراك أو دور عبادتهم.  جاء تهديد أردوغان في وقت كانت فيه الجالية اليهودية التركية التي تعود إلى قرون تهرب بالفعل, في عام 2016 , تضاعفت الهجرة اليهودية من تركيا. من حيث النسبة المئوية , كانت أكبر زيادة في الهجرة إلى إسرائيل , فالكل خائف, عدد اليهود الآن حوالي 16000 فقط .  

  في مقابلة مع المجلة التركية Yörünge  قال الكاتب أليف العتلي Alev Alatlı , وهو الآن عضو في المجلس الثقافي والفني لأردوغان , إن «القوى المعادية لأردوغان في العالم» يقودها اليهود.  وأضاف: «المشروع الحقيقي لليهود هو تطهير الكون من غير اليهود». وفي مقابلة أخرى قال : الإمبريالية الأمريكية والتحالف اليهودي  الإنجيلي يجر العالم إلى الفوضى وهدفهم الأول هو تركيا.

  صحيفة التايمز البريطانية قالت إن وسائل الإعلام التركية حملت «اللوبي اليهودي» مسئولية الانخفاض المفاجئ لقيمة العملة في البلاد  بنسبة 20 بالمئة أمام الدولار.  وتضيف الصحيفة أن وسائل الإعلام التركية يسيطر عليها بصورة شبه تامة رجال أعمال موالين لأردوغان, وذلك بعد الحملة التي شنها أردوغان على وسائل الإعلام المعارضة. وتضيف:  إنه البحث عن كبش فداء للأزمة الاقتصادية التركية .

  معاداة السامية والاعتداءات الجسدية ضد اليهود لها تاريخ طويل في تركيا. في كنيس نيفيه كالوم في اسطنبول , على سبيل المثال , كان اليهود ضحايا ثلاث هجمات إرهابية: في عام 1986 من منظمة أبو نضال; في عام 1992 من حزب الله التركي; وفي عام 2003 من القاعدة (162).

السريان

  مُصطلح «سيفوي» هو مُصطلح سرياني ويعني باللغة العربية السيف, وفي ذلك دلالة رمزية للسلاح الذي تم استخدامه في عمليات القتل المنظّمة والمُمنهَجة التي تعرّض لها المدنيون من السريان والآشوريين والكلدان في الدولة العثمانية عام 1915 حتى عام 1923. أدّت هذه الجرائم الوحشية المنظّمة إلى مقتل مئات الآلاف من المدنيين من أطفال ونساء وشيوخ, وتهجير الآلاف من مناطق سكنهم الأصلية إلى أماكن أخرى.

 عرّفت المحكمة الجنائية الدولية جريمة الإبادة على أنها أي فعل يتم ارتكابه بقصد إهلاك جماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية, بصفتها هذه, إهلاكاً كلياً أو جزئياً, وتشمل قتل أفراد الجماعة أو إلحاق ضرر جسدي, أو عقلي جسيم, بأفراد الجماعة وإخضاع الجماعة عمْداً لأحوال معيشة يقصد بها إهلاكها الفعلي, كلياً أو جزئياً, وكذا فرض تدابير تستهدف منع الإنجاب داخل الجماعة, أو نقل أطفال الجماعة عنوة إلى جماعة أخرى, ومن هنا فكل ما قامت به الدولة العثمانية ضد السريان والآشوريين والكلدان خلال الحرب العالمية الأولى في عام 1915 وبعدها هي جرائم إبادة, وهي جرائم لا تسقط بالتقادُم.

 حتى  اليوم لا يوجد أيّ اعتراف دولي بهذه الجرائم ولا أيّ اهتمام بها, كما لا تعترف تركيا بهذه الجرائم, وهذا يعود إلى جملة من الأسباب أهمها, عدم وجود رواية تاريخية للضحايا وذويهم بسبب أن معظمهم  قُتِل أو هُجِّر أو منعتهم تركيا من الحديث عن هذه الجرائم , وعدم وجود كيان رسمي يمثّل الضحايا وذويهم في المحافل الدولية. وحتى هذا اليوم لا توجد أية مطالبة من الدولة السورية أو العراقية أو اللبنانية لتركيا بالاعتراف بتلك الجرائم التي ارتكبتها بحق المواطنين المدنيين في تلك الدول ".

    الاكثر قراءة